كلمة ممثل المرجعية العليا في افتتاح مدرسة الامام الباقر (ع) في ادمنتن بكندا
    

بسم الله الرحمن الرحيم ((اقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذي خَلَقَ ، خَلَقَ الإِنسانَ مِن عَلَقٍ ، اقرَأ وَرَبُّكَ الأَكرَمُ ، الَّذي عَلَّمَ بِالقَلَمِ ، عَلَّمَ الإِنسانَ ما لَم يَعلَم))

يعتبر العلم السمة التي تتفاخر بها الأمم، وتسعى للوصول إلى أعلى المراتب فيه، لما له من أهمية كبيرة وأثر عظيم يعود على الفرد والمجتمع، لذلك جعله الإسلام المركز الأساسي لبنائه الشامخ؛ حيث إنّه قام عليه، ورفض كل الأوهام والضلالات التي هي نقيض له، ولا بدّ من الإشارة إلى أن الله عزّ وجل خلق الإنسان وزوده بأدوات العلم والمعرفة وهي: العقل، وسمع، والبصر، فلهذا يعتبر القران العلم منهاجا ثابتاً في دستور القرآن الكريم الخالد؛ حيث لا تكاد سورة من سور القرآن الكريم تخلو من الحديث عن العلم؛ سواء أكان ذلك بطريقة مباشرة أم غير مباشرة، فقد بلغت عدد المرات التي جاءت فيها كلمة العلم بمشتقاتها المختلفة في القرآن الكريم 779 مرة، أي بمعدل سبع مرات في كل سورة، وهناك كلمات أخرى وردت في القرآن الكريم تشير إلى معنى العلم؛ حيث إنّها لم تُذكر بلفظه، ومن أمثلة ذلك: الفكر، والنظر، واليقين، والهدى، والعقل، والحكمة، والبرهان، والحجة، والآية، والبينة. 

والدليل على اهتمامه كانت اول اية نزلت منه تأمر بالقراءة التي تعتبر المفتاح الأساسي لكل العلوم سواء أكانت علوماً دينية أم علوماً دنيوية، فقال الله عزّ وجل: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)).

وقد أوجب الله عزّ وجل العلم في الإسلام قبل العمل، فقال تعالى: ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)).

وحذّر تعالى من القول دون علم، فقال: ((وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)). 

ولما كان هذا المقام الرفيع للعلم الذي يميَز به العالم عن غيره، راينا ما يجمع عليه التربويون من الدور العظيم الذي تقوم به المدرسة في حياة الإنسان من بدايته في الابتدائية وإلى الصفوف العليا وصولا إلى الجامعات . 

ويشيرون إلى أنها من الناحية الزمنية تأخذ من عمر الطالب ما بين 5 إلى 7 ساعات يوميا ، وهذا يعني تقريبا ربع اليوم وأكثر من نصف النهار ، وبالتالي حوالي نصف عمره في مرحلة الطفولة والشباب. ومن الملاحظ أن هذه الفترة ـ بطولها ـ لا يقضيها الشاب مع أي من والديه، ولهذا لو قال بعض بأن المدرسة هي التي تأخذ القسط الأكبر من تربية الشاب لم يكن قولهم بعيدا عن الواقع .

من جهة أخرى فإن المدرسة هي بيئة اجتماعية مؤثرة للغاية في شخصية الطلاب ـ في مختلف المراحل الدراسية ـ ذلك أنها تشهد تشكل بداية صداقات الطالب وتعامله مع المحيط الاجتماعي ، وهو من خلال هؤلاء الأصدقاء وزملاء المدرسة يجد جوا اجتماعيا ، ويتعرف من خلالهم على طرق ووسائل العيش والأفكار وما شابه ، ومن الواضح تأثير أصدقاء الدراسة وزملاء الصف في بعضهم البعض . 

ودور المدرس هنا يتجاوز دور زملاء الدراسة في التوجيه الحسن أو السيء ـ لا سمح الله ـ . فالطالب ينصت ـ كما هو المفروض ـ خلال هذه الساعات الست أو حواليها لشخص يراه أعرف منه بالحياة ، بل يراه طريقا إلى النجاح في الحياة فمن الواضح أنه يتأثر به ، وهكذا الحال بالنسبة للبرنامج الدراسي ، الذي يتم تلقينه إياه ، فهذا البرنامج هو عبارة عن تشكيل لفكره ، وتعيين لهدفه الحياتي ، ومساره ، ومن هنا رأينا كيف كان أثر المدارس ذات المنهج السيء قد خرجت مجرمين فيما كانت ذوات المنهج الصالح قد أثرث المجتمع بشخصيات رائعة . 

ما سبق من تأثير المدرسة في شخصية الطلاب الدارسين فيها ، لا يختلف فيه ولا عليه التربويون ، ويؤكدون أهميته بشكل جازم .

وتزداد أهمية المدرسة أضعافا مضاعفة ، حين تكون في بلاد الاغتراب ، فبالاضافة إلى ما ذكرناه آنفا ، تعتبر المدرسة في هذه البلاد البيئة شبه الوحيدة التي ينفصل فيها الطالب والطالبة عن التأثيرات السيئة للمجتمع والثقافة الغربية ، وهي بالتالي تصون الطالب والطالبة ـ في نصف عمرهم الأول ـ في المراحل التي يتأثرون فيها ، تصونهم عن كثير من التأثيرات الخاطئة التي تفسد الإيمان أو السلوك . 

كما أنها يفترض أن تحافظ على لغتهم الأصلية (العربية) الى جانب اللغة الكندية واللغات الحية الاخرى.

واللغة هنا ليس المقصود منها ، معرفة الحروف وتركيب الكلمات ، وإنما اللغة بما هي وعاء ثقافي يحمل القيم والأفكار ، وبما هي ( كلام الله ) في القرآن ، و( هدى المعصومين ) .. وسيأتي الحديث في التركيز عليها بعد قليل . 

وأخيرا فإنه يفترض أن تكون مدرسة الباقر حاملة لصورة ( مجتمع مسلم مصغر ) حريص على الفضائل ، ساع وراء العلم والمعرفة، مظهرا في تعاملاته وعلاقاته الاجتماعية والاخلاقية مرجحا الجانب الانساني قبل الاسلامي عملا بقول امير المؤمنين (ع) (الناس صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق) محافظا على مبدء الاخوة والمودة والمحبة، متحليا بروح التسامح والعفو عن المسيء، ملتزما بحسن المعاشرة، مؤديا للامانة، موفيا بالوعد، صادقا في القول والفعل، ملتزما بقول الامام الصادق (ع) (ان الحسن من كل احد حسن ومنك احسن) بعد هذا كله .. نشير إلى نقاط ينبغي الاهتمام بها والتركيز عليها : 

1- الاستثمار في المدارس العربية والاسلامية : بالرغم من دعوتنا لإدارات المدارس وملاكها إلى تخفيف الأعباء الاقتصادية على أولياء الطلاب والطالبات ، لجهة استيعاب كل الجالية المسلمة والعربية ، ومن المعلوم أنه مع تخفيف الاعباء الاقتصادية ، وتقليل الرسوم قدر الامكان ستتاح الفرصة لشريحة أكبر من المغتربين لتسجيل أولادهم في هذه المدارس، مع دعوتنا إلى التخفيف ذاك ، ندعو أصحاب الأموال والقدرات المادية إلى زيادة الاستثمار في المدارس هذه ( كما وكيفا ) وتوسعة ، فهي بالاضافة إلى كونها ذات عوائد مادية معقولة ، هي افضل استثمار معنوي واجتماعي ، ولا ريب أنها من أفضل أنحاء الخدمة الاسلامية ، وهي إذا لم تتجاوز في أهميتها بعض أعمال الخير وبناء المؤسسات ، فهي لا تقل عنها. والاستثمار فيها هو استثمار في بناء الانسان ، وإعداد جيل المستقبل المقتدر علميا والملتزم أخلاقيا ودينيا، وهذا ما يهتم به المرجع الاعلى للطائفة السيد السيستاني (مد ظله) حتى انه اخيرا حصر منح الاجازات من الحقوق الشرعية للمدارس فحسب اهتماما منه للجانب الثقافي والعلمي الذي يريده للمسلمين وابنائهم بأن ينالوا اعلى الدرجات العلمية في مختلف الحقول والاختصاصات ليستنيروا بالعلم وينوروا به الاخرين سواء بالبلد الذي يسكنونه او في بلدانهم.
كما ويؤكد سماحته على الجاليات الاسلامية بأن تهتم الى بناء ابنائهم ثقافيا ودينيا وعقائديا ليحافظوا بذلك على هويتهم الدينية ولا يتأثروا بالاجواء المحيطة بهم سلبا. 

2- ندعو ونؤكد على لزوم أن تتحول هذه المدارس إلى مدارس نموذجية ، تستطيع أن تنافس المدارس الرسمية والأخرى الاسلامية في مناهجها العلمية ، وتفوقها في الجوانب الأخلاقية والدينية .. وهذا يقتضي أن يتأكد مسئولو المدارس هذه من الكفاءة العلمية العالية لهيئة التدريس ، وأن لا يكون هناك تساهل في هذا الجانب ، تماما مثل هو التأكيد على الجانب الأخلاقي والالتزام الديني في أعضاء هيئة التدريس، وإلا فإنه لا فرق بين هذه المدارس وبين غيرها ، بل ينتفي الغرض والداعي لتأسيسها .

3- يتفرع على ما سبق ، أننا مع علمنا بوجود اختلاف في آراء الناس ، ومنهم المعلمون ، حول مختلف القضايا ـ سواء السياسية أو الدينية ـ إلا أن من الضروري أن يكون هناك ما يشبه ميثاق الشرف ، في إبعاد الخلافات تلك ، وعدم التطرق إلى الآراء الخاصة ، وأن يكون التركيز على جهتين أساسيتين : تعميق الايمان ويظهر أثره في السلوك ( عبادة وأخلاقا ) ، والتأكيد على العقائد ( الجامعة والمشهورة لدى الطائفة ) . حتى تصان هذه المدارس عن اصطراع التيارات والآراء المتخالفة . 

4- أشرنا إلى ضرورة التركيز على اللغة العربية ، وعدم الاعتناء بالقول أنه لا حاجة إليها في ذلك المجتمع ، فإن هذه اللغة ، هي الوعاء الحامل لثقافتنا الدينية ، ومعارفنا الاسلامية ، ولا ريب أنه مع عدم التركيز عليها ، سينتهي الطالب إلى فقدانه هذه اللغة ، خصوصا وأن المحيط كله لا يساعد على معرفتها ، وقد نقل كثير من الآباء معاناة أن أولادهم يجدون سهولة في التخاطب والتعبير عن أمورهم بغير العربية ، حتى في المحيط العربي وبين الأصدقاء العرب ، بل أحيانا حتى في داخل المنزل .. فلتكن المدرسة حافظا لهذه اللغة في أذهان المنتسبين لها . 

5- لا بد من المصير إلى صياغة فكرة تجمع بين انتماء الاجيال الجديدة من أبناء المغتربين إلى أوطانهم الجديدة ، حيث لا يشعرون بارتباط باي وطن آخر ، ولا ينبغي أن يعيشوا الغربة فيها ، وبين عدم انتمائهم إلى الثقافة المخربة ونظام الحياة السيء الموجود في هذه الأوطان .

إنه لا يمكن أن يبقى الشخص بلا انتماء لوطن ، يتفاعل معه ويعيش همومه ، ويفكر في الارتقاء في درجاته ، بل ويتفاعل مع سياسته واقتصاده ، ومن الواضح أن هؤلاء الطلاب لا يشعرون بالانتماء مثلا إلى العراق أو إيران ، أو الخليج أو غيرها ، فهذه البلدان لم يولدوا فيها ولم يعرفوها ، بل ولا يريدون ـ في الغالب ـ العيش فيها ، وإنما يعتبرون ـ كندا مثلا ـ وطنا لهم .. وهذا لا مانع من تكريسه ، ولكن لا بد من إيجاد صيغة وفكرة ، بحيث لا يتأثر هؤلاء بنسق الحياة الخاص الغريبة عن ثقافتهم الدينية ، وأسلوب المعيشة الذي قد يخالف قيمهم. 

نسأل الله سبحانه أن يوفق القائمين على هذه المدرسة وان يجعل هذا اللقاء لقاء خير وبركة ، كما واشكر جميع الاخوة الحضور لا سيما مسؤولي الدولة الذين شاركونا في هذه الجلسة طالبا منهم العناية والرعاية لهذه المدرسة وغيرها من المراكز الثقافية والتربوية التي يتربى فيها ابناءنا ومنها ينشرون الثقافة والمعرفة الذي يُميّز فيها الانسان العالم عن غيره. 

((هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون))

ونحن نعلم ان الحكومة الكندية ممن تحب العلم وتتطلع للحصول على احسنه وافضله في كل الحقول والمجالات العلمية والثقافية، كما ونشكر رعايتهم الكريمة للجاليات الاسلامية وملاحظة شؤونهم الخاصة والعامة.

هذا ((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون))

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 
 
محرر الموقع : 2019 - 04 - 29