العَلاقاتٌ السِريَّة
    

أمين ظافر الغريب
 
العَلاقاتٌ السِريَّة 
 
  
--------------
 
يكشف الباحث البريطاني  Mark Curtis التاريخ السرى لتآمر بريطانيا مع الأصوليين في كتابه «العَلاقاتٌ السِريَّةSecret Affairs: Britain's Collusion with Radical Islam» عن شعار يتكرر في ملفات الحكومة على مدار عقود كثيرة، خلال عقدين من عام 1952 حتى عام 1970، يستند هذا الكتاب على الوثائق الرسمية البريطانية التى رفعت عنها السرية، خاصة وثائق الخارجية والمخابرات، ليفضح تآمر الحكومة البريطانية مع المتطرفين والارهابين، دولاً وجماعات وأفرادا، فى أفغانستان وإيران والعراق وليبيا والبلقان وسوريا وإندونسيا ومصر وبلدان رابطة الدول المستقلة حديثا، وحتى فى نيجيريا التى تآمرت بريطانيا على خلافة سوكوتو فيها فى أوائل القرن العشرين مع متأسلمين هناك، وذلك لتحقيق مصالحها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية. 

تمت الاطاحة بالنظام الملكي المدعوم من بريطانيا في ثورة 14 تموز 1958 واقيمت جمهورية برئاسة الزعيم عبد الكريم قاسم. وتعرضت السفارة البريطانية في بغداد، التي كانت تعرف بأنها القوة الفعلية وراء العرش، الى النهب وقتل أحد البريطانيين. ووصف مسؤولون في السفارة الثورة في تقاريرهم الى لندن بأنها “ثورة شعبية” تقوم على “مشاعر مكبوتة من الكره والاحباط، تتغذى على تطلعات قومية لم تلبّ، وعداء لحكومة اوتوقراطية، وسخط من الهيمنة الغربية، واشمئزاز من فقر متفشي”. وكان النظام الملكي الذي دعمته بريطانيا من بين الانظمة الأدنى شعبية في الشرق الاوسط، وكان البريطانيون يدركون جيداً سماته القمعية. فقد أشار تقرير لوزارة الخارجية البريطانية، على سبيل المثال، الى ان “الثروة والسلطة بقيتا متركزتين في أيدي حفنة من ملاك الارض وشيوخ العشائر الاغنياء الذين كانوا يحيطون بالبلاط”. وقبل ثلاثة أشهر من ثورة 14 تموز 1958، كتب السير مايكل رايت، السفير البريطاني في بغداد، الى وزير الخارجية سلوين لويد قائلا ان: “… الوضع الدستوري في العراق يشبه الى حد بعيد ما كانت عليه المملكة المتحدة عند صعود جورج الثالث الى العرش…”. فالسلطة السياسية تتمركز في البلاط، ويمكن للملك أن يعين ويعزل رؤساء الوزراء كما يشاء، بينما “… لا يمكن للمعارضة ان تنظم اجتماعات عامة او تعبر عن معارضتها للنظام في الصحافة”. كما لفت رايت الى ان “… كفاءة جهاز الأمن العراقي تزايدت مادياً في السنة الاخيرة، ويعود الفضل في ذلك الى حد كبير الى المساعدة البريطانية بالتدريب والمعدات…”. ووصف الوضع القائم آنذاك بأنه “… قمع سياسي كامل…”. ثم عبر السفير البريطاني عن معارضته للديمقراطية بقوله ان: “… إرخاءً كاملاً للقيود الحالية على حرية التعبير بالاقتران مع انتخابات حرة كلياً…” من شأنه ان “… ينتج فوضى وربما ثورة …”. وأوصى فقط بالسماح بتشكيل احزاب سياسية. وبضربة واحدة، أطاحت ثورة 14 تموز الوطنية والشعبية بنظام موالٍ لبريطانيا كان يمثل دعامة رئيسية لسياستها في الشرق الاوسط. الأسوأ من ذلك، ان مخططي السياسة البريطانية أقروا بأن عبد الكريم قاسم كان يحظى “بشعبية كبيرة جداً”. ورغم ان بريطانيا تعاملت مع قاسم بتسامح في الفترة الأولى من عهد النظام الجديد، الاّ انه سرعان ما انضم الى صنف القادة من امثال سوكارنو في اندونيسيا، وتشيدي جاغان في غويانا البريطانية، وجمال عبد الناصر في مصر، الذين اعتبروا أعداء لمصالح بريطانيا في العالم الثالث. لم تكن بريطانيا مهتمة بالطابع الاستبدادي لحكم قاسم وقمع اجهزته الامنية، وهذه العوامل لم تحدد موقفها منه. فالتهديدات التي كان يشكلها قاسم لخصها بوضوح احد الاعضاء البريطانيين في “شركة نفط العراق”، التي كانت تسيطر على النفط العراقي، في تقرير الى وزارة الخارجية البريطانية قبل بضعة أشهر فحسب من الاطاحة بالنظام في 8 شباط 1963. وجاء في التقرير ان عبد الكريم قاسم “… يرغب في اعطاء العراق ما يعتبره استقلالاً سياسياً وكرامة ووحدة، وتعاوناً أخوياً مع بقية العرب، وحياداً بين الكتل المتنفذة في العالم. وهو يرغب في زيادة وتوزيع الثروة الوطنية، انطلاقاً من مبدأ وطني واشتراكي من جهة، وانطلاقاً من مجرد تعاطف مع الفقراء، من جهة اخرى . كما يريد، بالاستناد الى الرفاه الاقتصادي والعدالة، ان يبني مجتمعاً جديداً وديمقراطية جديدة. وهو يريد ان يستخدم هذا العراق القوي، الديمقراطي، العروبي كأداة لتحرير بقية العرب و الاسيويين –الافريقيين والارتقاء بأوضاعهم والمساعدة بتدمير “الامبريالية”، وهو ما يعني به بشكل أساسي النفوذ البريطاني في البلدان النامية…”. كانت سياسة عبد الكريم قاسم بشأن النفط موضوع كم كبير من المراسلات في ملفات الخارجية البريطانية التي رفعت عنها السرية وسبباً رئيسياً وراء رغبة مخططي السياسة البريطانية في التخلص منه. وتكمن خلفية الأمر في ان قاسم أعلن في 1961 ان حكومته تريد الحصول على اكثر من 50 في المئة من الارباح المتأتية من صادرات النفط، وشكى ايضاً أن الشركات كانت تثبّت سعراً يخدم مصالحها بالذات. وفي قانون صدر في كانون الأول/ديسمبر 1961، سعى الى حرمان “شركة نفط العراق” (آي بي سي) من حوالي 99,5 في المئة من امتيازها. وشملت الاراضي التي تم انتزاعها حقولاً نفطية ثمينة ذات احتياطي مثبت. كما نشرت في تشرين الأول/اكتوبر 1962 مسودة قانون لانشاء “شركة نفط وطنية عراقية” جديدة، لكن القانون لم يكن قد اصبح نافذاً عندما وقع الانقلاب الذي أطاح بقاسم في 8 شباط 1963. كما اشارت وزارة الخارجية البريطانية، حسب ملفاتها، الى الحاجة الى “مواصلة تتبع” نشاط منظمة جديدة انشأها نواب برلمان من حزب العمال تسمى “اللجنة البريطانية للدفاع عن حقوق الانسان في العراق”، وكانت تنوي القيام بزيارة الى العراق والتحقيق في اعمال القتل. كما “حذرت” السفارة في بغداد وزارة الخارجية من انشطة مماثلة تتعلق بحقوق الانسان يقوم بها اللورد برتراند راسل، وصفت بأنها “مصدر إزعاج” في العلاقات الأنكلو-عراقية. ومن المنافع الاخرى لبريطانيا موقف النظام الجديد تجاه الكويت. فبعد الاطاحة بعبد الكريم قاسم، نصح البريطانيون الكويت باستباق أي تهديد عراقي مستقبلي لاستقلالها من قبل النظام الجديد بالقيام برشوته. ودفع الكويتيون الى الحكومة البعثية الجديدة 50 مليون جنيه استرليني. الملحق التاسع عشر: سقوط قاسم جرى التخطيط له في الحكومة البريطانية لكن الامريكان وناصر انتزعوا السيطرة.. لكنه أصبح الآن واضحاً للمتواطئين الامريكيين والعراقيين أن البريطانيين يريدون الى حد بعيد إعادة تأسيس النظام القديم وموقعهم الخاص بالذات في العراق. ولم يكن ذلك يعجب الامريكيين والعراقيين. ليس واضحاً ماذا حدث بعد ذلك، حسب مصادر معلوماتي. لكن، أياً كان ذلك، لم يكن هناك أدنى شك بشأن النتيجة. يبدو ان الامريكيين ارادوا أن يخلقوا وزناً مضاداً لهذا التحرك البريطاني، وتوجهوا الى عبد الناصر. وبعد جولة أخرى من محادثات فائقة السرية في القاهرة مع عبد الناصر شخصياً، عادوا ليقولوا ان عبد الناصر جعل شرطاً لمواصلة تعاونه في الاطاحة بقاسم أن لا يكون للحكومة العراقية الجديدة التي ستحل مكان قاسم “زعيماً أياً كان”. وأصر عبد الناصر ان [عبد السلام] عارف يجب ان يكون الرئيس وأن يرأس الحكومة.
 
محرر الموقع : 2016 - 08 - 27