الهجرة والهجرة المعاكسة تحددها كوابح الداخل وإغراءات الخارج
    

عدنان أبو زيد
سعى المهندس الميكانيكي علي البياتي الذي نال شهادة الماجستير من جامعة ايندهوفن في هولندا العام 2006 ويعمل في الوقت الحاضر في شركة هولندية للحصول على فرصة عمل له في العراق، طيلة السنوات الماضية، من دون جدوى.
زار البياتي بغداد، نحو خمس مرات، فلم يجد فرصة عمل له سوى في مجال التدريس الجامعي، بعدما وُعِد من قبل مسؤولين في وزارة التعليم العالي بتوظيفه، لكن الايام اثبتت عدم دقة ذلك، فمازال ينتظر، منذ نحو السنتين بلا طائل على امل الحصول على تلك الوظيفة، لكنه وحتى هذه اللحظة يصطدم بالجواب اليومي المكرر، في "انتظار التخصيصات المالية والدرجات الوظيفية".
لم يستسلم البياتي لليأس، بحسب حديثه لــ"الصباح"، فقد طرق ابواب شركات اوروبية، تستثمر في العراق، ابدى بعضها الرغبة في تشغيله مدفوعة بقدرته على تقديم خدمات لهذه الشركات، باعتباره من اهل البلد.
وكان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي قد اطلق دعوة في العام 2008 الى الكفاءات العراقية للعودة من المنافي، والمشاركة في بناء العراق الجديد، اثمرت عن عودة المئات من الكفاءات.العودة إلى المهجر

واستجاب محمد الدليمي المقيم في بلجيكا حيث درس هندسة الكهرباء وحصل على شهادة الماجستير من جامعاتها، لدعوة المالكي، وحزم امتعته الى بغداد.وبسبب المماطلات والوعود في تعيينه، اعتبر ان "الجهات المسؤولة فشلت في تجسيد دعوة رئيس الوزراء على ارض الواقع".
عاد الدليمي بخفيّ حنين الى المهجر، ومازال في سعي دائم عبر التلفون، والانترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الشركات، للحصول على عمل.يقول الدليمي لــ"الصباح"، ان " لا فرصة عمل في العراق سوى التدريس الجامعي، هذا في حالة الحصول عليها، اما الحصول على عمل بحثي او ميداني في المعامل والمصانع الحكومية او القطاع الخاص، فانه امر شبه مستحيل"، كما تشير الى ذلك تجربته.وأسفرت الاحداث السياسية التي مرّ بها العراق عبر عقود عن هجرة المئات من علماء العراق ونخبه، بحثا عن فرصة عمل، أو تفادياً للتضييق على الحريات والاضطهاد والاعتقال.

تأريخ الهجرة

وإذ بدأت الهجرة خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي محدودة فان نطاقها اتسع، خلال الحرب العراقية الايرانية  1980/ 1988 وازدادت خلال حرب الخليج الثانية 1991.
وعلى الرغم من ان تدفق المهاجرين إلى الدول الغنية تصاحبه صعوبات جمة تتعلق بالبطالة والثقافة واللغة الجديدة، وبرامج الاندماج في المجتمعات الجديدة، الا ان الكفاءات العراقية تجاوزتها ونجحت في تأكيد ذاتها، ما حَرَم العراق من كفاءات نادرة كانت ستساهم في عملية اعادة الاعمار بعد العام 2003.

فيصل لعيبي: معادلة الداخل والخارج

ويقول الفنان التشكيلي العراقي فيصل لعيبي المقيم في المملكة المتحدة في حديث خصّ به "الصباح": ان هناك نواحي عديدة لقضية عودة الكفاءات ولا تتعلق بالصعوبات والمعوقات فقط".
وتابع القول "اعتقد ان القضية تحتاج الى نقاش جاد على طاولة مستديرة، لانه يشكل محوراً أو ملفاً، تكمن أهميته في ان طاقات هائلة، علمية وغير علمية وخبراء يعملون في مجالات شتى في مراكز دولية ومؤسسات اكاديمية راقية في عالمنا الواسع هذا، لم يفكروا في العودة، وهذا يتطلب منا معرفة جانبي المعادلة، أي الداخل والخارج، ونظم وعادات وقوانين، وتقييم ونقد وتحديد المسببات وتاريخ من الإهمال للعقول العراقية النيرة". وكانت وزارة الهجرة والمهجرين قدمت في نهاية شهر تشرين الأول الماضي مقترحا لتعديل قرار مجلس الوزراء رقم 441 لسنة 2008 والقاضي بمنح الكفاءات العراقية العائدة الى البلاد بعض الامتيازات. وينص القرار على "منح الامتيازات المالية للكفاءات العراقية التي تقرر العودة الى البلاد، الى جانب توفير فرص العمل".وصرح وزير الهجرة والمهجرين ديندار الدوسكي وقتها، "قدمنا مقترحاً لتعديل قرار مجلس الوزراء رقم 441 يتضمن شمول جميع الكفاءات العراقية العائدة الى البلاد بالامتيازات التي وردت في نص القرار".

تجارب

ويرى الصحافي العراقي علاء كولي في حديثه لـ "الصباح"، ان احد اهم الاسباب التي تحول دون عودة الكفاءات هو "الاستقرار الامني الذي لا يزال مربكا الى هذه اللحظة".
ويسترسل "تجارب عودة عدد من العراقيين الى العراق بعد العام 2003 جعلت الكثير من المغتربين يحذرون من الاقدام على هذه الخطوة".
لكنّ أكاديمياً في العلوم الانسانية هو محمد الطائي، اتخذ قراره بعدم العودة بسبب المشاكل التي واجهته اثناء محاولته العمل في العراق.
ويُرجع الطائي في حديثه لــ"الصباح"، فشل مهمته في العراق الى "الروتين والبيروقراطية، وطريقة معالجة ملف خدمته".
ويستطرد في القول "وحتى في الجامعات، فقد شعرت ان وجودي هناك سوف لا يتعدى تلقين الطلاب المحاضرات من دون خطط لمشاريع بحثية، وتطبيقات نظرية على ارض الواقع".
وتقرأ الصحافية شدوان مهدي يوسف من جريدة "الاتجاه الثقافي" في وزارة الثقافة العراقية في حديثها لـ "الصباح"، اشكالية عودة الكفاءات الى الوطن بحكم علاقتها مع العديد منهم، على انها "نتاج الظرف الداخلي العراقي وعلاقته بالوضع الامني".
وتزيد في القول "الكفاءات العراقية في الخارج لا يُستهان بأعدادها ولعل ابرز اسباب احجامهم عن العودة هو الوضع الامني، فيما لا يهتم اغلبهم للوضع المادي ومستوى المعيشة".
وتردف "لمست ذاك من خلال احاديثهم الصادقة وهم يسعون الى خدمة بلدهم".
وفي نهاية ايلول الماضي، وفّرت السفارة العراقية في العاصمة الهولندية امستردام، استمارات للكفاءات العراقية في سعي الى حصر أعدادها، بالتنسيق مع وزارة الهجرة والمهجرين التي ارسلت تعميما الى السفارات لحصر اعداد الكفاءات المهاجرة.

أصحاب الأموال وأقطاب التجارة

وعدا الأكاديميين، بدا ان هجرة أصحاب الأموال وأقطاب التجارة الى العراق، أمر سهل على الرغم من الصعوبات الكثيرة التي يواجهونها فيما يتعلق بقوانين الاستثمار.
ويقول التاجر ورجل الاعمال عصام الاسدي لــ"الصباح"، انه "نجح في تأسيس معمل لأكياس النايلون في بغداد بعد استيراده لمكائن ومعدات من الخارج"، داعيا "الجهات المختصة الى تشجيع اصحاب رؤوس الاموال والاقتصاديين والتجار والصناعيين على القدوم الى بلدهم عبر تسهيل الاستثمار في العراق".
ويقول الأسدي الذي يزور بلجيكا، لتفقّد أهله المقيمين في العاصمة بروكسل، ان "الفرص المتاحة للعمل في العراق هي أفضل من أوروبا والولايات المتحدة". ويتابع القول " تجربتي في العمل في ألمانيا اتاحت لي فرصة في تجارة المعامل الانتاجية الصغيرة والمتوسطة الحجم".وأصدرت وزارة التعليم العالي العراقية في آب 2013 بياناً اعلنت فيه، تعيين 72 من الكفاءات العائدة في 15 جامعة ومؤسسات التعليم.
 وفي كانون الثاني من العام الجاري، رصدت وزارة الهجرة والمهجرين 100 مليار دينار لإطلاق مشروع استثمار الكفاءات العراقية المهاجرة

ما الذي يقلق المهندسة خديجة؟

تجربة عودة اخرى، تمثّلها خديجة احمد التي عادت الى العراق العام 2008 وتمكّنت من العودة الى وظيفتها كمهندسة ومشرفة في معمل طابوق، لكنها لم تصمد سوى سنة لتعود الى منفاها.
وعلى رغم من ان عودة خديجة الى المهجر تعود الى أسباب شخصية الا انها تعتقد ان العامل الأمني، وأجواء العمل، وجو المعيشة العام حال دون صمودها للبقاء في العراق.
لكن خديجة تعتقد وهي تتحدث لــ"الصباح"، ان "تواصلها مع الكثير من الكفاءات العراقية في الخارج، يفيد بان الاغلبية منهم تتمنى العودة الى العراق اذا ما توفرت لهم الضمانات للحصول على عمل".
وبحسب منظمة يونسكو، كان "العراق من ضمن سبعة بلدان عربية يهاجر منها كل عام المئات من المتخصصين كالمهندسين والأطباء والعلماء والخبراء، كما ان نحو 50بالمئة من حملة الشهادات الجامعية الأولى ( البكالوريوس ) في العلوم الهندسية و90بالمئة من حملة الدكتوراه هم خارج العراق".ويفيد تقرير المنظمة ان "نحو 7350 عالماً غادروا العراق في الفترة بين 1991 - 1998، حيث تلقفتهم دول أوروبية وكندا والولايات المتحدة".

سينمائيون: لم الهجرة؟

المخرج والممثل السينمائي جمال امين المقيم في العاصمة البريطانية لندن، يرى في حديثه لـ "الصباح"ان المشكلة الرئيسة الاولى التي تعاني منها النخب العائدة هي: "عدم الاستقرار الامني في العراق وعدم وجود ما هو مناسب للعمل والبحث من اماكن ومختبرات بحث كالتي يعملون عليها في اماكن عملهم في المهجر، اضافة الى البيروقراطية والفساد وعدم وجود فرص للتعيين، اضافة الى اسباب اجتماعية، ونفسية ترتبط باختلاف اسلوب المعيشة بين فضاءين".
كما يتحدث المخرج العراقي محمد الدراجي عن أسباب عدم عودة السينمائيين المغتربين إلى بلدهم لتوثيق قصصه، فيقول: ان بناء فن السينما في العراق يحتاج إلى "كل شيء من الألف إلى الياء، حيث يفتقد البنية التحتية ويحتاج إلى ترميم وبناء دور العرض السينمائي وتهيئة الكوادر الفنية ووضع حد للفساد الإداري والمحسوبية".
جمعية الكفاءات

 ومنذ العام 2010، تأسست في دبلن بايرلندا، "جمعية الكفاءات" و لديها ممثلون في عدد من الدول الاوروبية يسعون الى تحقيق التفاعل والتواصل بين الكفاءات العراقية, وتقديم استشارات مجانية لمؤسسات الدولة العراقية واستثمار الكفاءات في بناء العراق. ويقول الاكاديمي الدكتور مصطفى خالد العبيدي: ان هذه الجمعية تسعى الى التنسيق مع الجهات العراقية ذات العلاقة، لكن هناك معوقات تحول دون عودة الكفاءات منها عدم توفر ضمان السكن للعائد، وعدم السماح بتغيير الاختصاص".ويتحدث طالب الدراسات العليا في لبنان، محمد مهدي الحسيني لـ "الصباح " عن ان الامن عامل مهم في حسم عودة الكفاءات، لاسيما ان الجماعات التكفيرية تسعى الى النيل منهم". كما يرى ان "الفساد الاداري وشيوع المحسوبيات والمنسوبيات في التعيينات لا يشجع الكفاءات على العودة".

الهجرة والهجرة المعاكسة

ويتحدث الطبيب علي حسين في المملكة المتحدة لـ "الصباح"، عن "صعوبات بالغة تحول دون عودة العراقيين الى الوطن بسبب اعمالهم واستقرارهم منذ امد بعيد في تلك الدول".ويتابع القول"بعض الذين عادوا الى العراق، لم يصمدوا سوى لفترة قصيرة لعدم قدرتهم على التكيف مع اجواء العمل في الوطن".لكن حسين يرجع النكوص عن العودة بين الكفاءات العراقية، الى أسباب شخصية بحتة في الكثير من الحالات "مشددا على ان الكثير من الذين يعودون هم بلا عمل في المهجر على الرغم من ادعائهم بغير ذلك".ويعتقد حسين ان عودة العراقيين لاسيما الكفاءات تحدث بصورة اوتوماتيكية متى توفرت الاسباب الموجبة". ويستطرد "مثلما دفعتهم اسباب الى الهجرة، ستدفعهم اسباب عكسية الى العودة، لكن على الدولة توفير الظروف الامنية وتوفير الخدمات".وطبقا للسجلات الطبية البريطانية، فإن عدد الأطباء العراقيين العاملين في المستشفيات البريطانية يقدر بحوالي 3000 طبيب في جميع الاختصاصات، فيما يعاني العراق من نقص كبير في الكفاءات الطبية والصحية".ويشهد العراق، على الرغم من التجارب الصعبة التي يرويها البعض،عودة أعداد متزايدة لعلماء وأطباء وأساتذة جامعات وفنانين وأدباء يقيمون في أوروبا والولايات المتحدة وكندا واستراليا. وتفيد احصائيات غير رسمية الى عودة اكثر 1900 طبيب الى العراق منذ العام 2009 بعد استتباب الامن في عدد من المدن العراقية.

تنسيق بين الجهات المعنية

ويتحدث الكاتب نجم الدليمي بان "على السفارات العراقية والملحقيات الثقافية في الخارج القيام بجرد كامل للكفاءات العلمية العراقية ولمختلف الاختصاصات، وان يتم التنسيق مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لاستيعاب عودة الكفاءات.غير ان الصحافي والإعلامي رحيم الاعرجي يتحدث لـ "الصباح" عن ان احجام الكفاءات عن العودة مردّه، الوضع الامني ما جعل معظم الكفاءات تتردد في ذلك، اضافة الى عدم العناية من قبل الدولة بتوفير الخدمات التي يحتاجونها". وزار الطبيب الاختصاص في علاج الكسور فلاح حسن المقيم في المانيا، العراق، ثلاث مرات منذ العام 2003، حيث اطلع على ظروف العمل، ليتخذ قرارا سلبيا بشأن العودة، بسبب "الاوضاع الامنية، ونظام العمل".

رأي من واشنطن

ويضع مدير مركز الاعلام العراقي في واشنطن نزار حيدر في حديثه لـ "الصباح" عدة اسباب لامتناع الخبرات العلمية العراقية عن العودة الى العراق منها "تداعيات الوضع الامني، وعدم منحهم الفرص اللائقة باختصاصاتهم، اضافة الى حالة الفوضى التي تتحكم بالوضع في العراق ما يمنعهم من توظيف كفاءاتهم وخبراتهم لخدمة البلد، والسبب الاخر المهم، انعدام الأدوات اللازمة لتوظيف كفاءاتهم".

 

محرر الموقع : 2013 - 11 - 06