ماأتت به صناديق "الافتراء"
    

علي علي

 

  "صباح الخير".. تحية اعتدنا الاصطباح بها على أحبابنا -وأعدائنا أيضا- و "مساء الخير" هي الأخرى تحية عادة ما نحيي بها الأول والثاني في أوقات بعد الزوال، وقد باتت هاتان العبارتان ملازمتين لنا في سرائنا وضرائنا، سواء أكانت صباحاتنا ومساءاتنا جميلة فعلا، أم كانت (سوده مصخمه)..!

   وبين صباح حالك، ومساء أشد حلكة، يقضي العراقيون في وطنهم أربعا وعشرين ساعة، تكاد الصباحيات فيها تطابق النهاريات والمسائيات، أما إذا جنّت ساعات الليل، فالتقلب على الجنبين يكون نصيبهم، وقد يكون حالهم هذا تحصيل حاصل طبيعي، حيث لم يكن نهارهم "معاشا"، وبذا لن يكون ليلهم "سباتا"، فيتجسد فيهم قول الشاعر:
يقلبني الأسى جنبا لجنب

كأني فوق أطراف الرماح

   ومن كوة أضيق من سم الخياط، هناك بصيص ضوء ينفذ غِبا، لايستشعر به إلا القلة القليلة من الناجين سهوا، او المؤجل إعدامهم لحين إتمام النصاب الشرعي اللازم لإحياء حفلة الإعدام، المزمع إقامتها على مرأى من الحاكمين من ساسته. أما مكان التنفيذ فهو أمر لايستوجب الدراسة والتخطيط، فالأسواق الشعبية مكتظة بالعراقيين المستهدفين جميعهم دون استثناء، كما ان الجوامع والحسينيات والكنائس على مرمى بصر القائمين بتنفيذ الحكم، وبمتناول أيديهم، ولاضير إن كانت بعيدة، فالدور الآمنة للمواطنين العزل منتشرة في أزقة المدن ونواحيها وقصباتها. وبذا لايمكن الفصل بين ساحة حرب وموت، وساحة سلم وحياة، فالأمر بينهما غدا سيان.

   لم يكن ماتقدم من سطور سيناريو مشهد مسرحي، او فكرة فلم رعب، او تهيؤات محتضر، او هلوسة مجنون.. إنما هو قراءة حقيقية سريعة لواقع مرير يعيشه أكثر من ثلاثين مليون شخص، يشغلون مساحة (437,072) كم مربعا، اشتركوا جميعهم باقتسام القلق والخوف من حاضرهم ومستقبلهم على حد سواء، كما تقاسموا ضنك العيش والسعي وراء الرزق باحثين عنه لاهثين وراءه في أضيق منافذه، وكانت لهم الحصة الأكبر من التهجير القسري والسفر المحتوم الذي ماكانوا يختارونه إلا كحلّ وحيد، وخطوة  لامناص من اتخاذها طريقا الى دول مشارق الأرض ومغاربها، تاركين أهليهم ووطنهم الذي نشأوا وترعرعوا فيه، لعلهم يجدون ضالتهم هناك في العيش آمنين.

   ومع كل هذا فالذين ارتأوا البقاء داخل حدود العراق تحت مطارق العيش القلق، والخوف المستديم، والموت المداهم على الأبواب، كانوا قد شكروا الله كثيرا قبل ثلاثة عشر عاما، حين انقشع عنهم مسبب كل هذه المعاناة، إذ انفتحت أمامهم أبواب الأمل على مصاريعها، وظنوا أن الحلم في العيش الهانئ الرغيد في بلدهم آن له أوان التحقيق. لكن..! أتت الرياح بما لايشتهون. فأضحى حالهم كمن قال:

                رب يوم بكيت فيه فلما               

                                    صرت في غيره بكيت عليه

  أما لو استقرأنا ما حدث خلال العقد الأخير من عمر العراقيين "الديمقراطي" فلا أظن أن هناك أقسى وأشد رعبا من الذي جرى -ومازال يجري- من تداعيات مؤلمة حد اللوعة والمرارة، وغريبة حد الدهشة والذهول، إذ لم تزل صباحاتهم كئيبة رغم دفء شمسها الباعث للابتهاج والسرور، ولم تزل مساءاتهم تنوء بأثقال الهموم التي ألقاها على كاهلهم سلاطين وحكام، تعاقبوا على جلدهم بسياط أمسك طرفها بالأمس نظام دموي، ويمسك طرفها اليوم نظام فيدرالي تعددي، بحكومة منتخبة، وساسة أتت بهم صناديق "الافتراء".

 

محرر الموقع : 2017 - 01 - 08