الطريق إلى فهم القرآن.. الجزء العاشر والأخير
    

التأثير في القلب، البيان، البلاغة، تمزيق حُجب الغيب، عجز أرباب الفصاحة والبلاغة عن مجاراته، التغطية على متطلبات العصر وكل عصر، إلى غير ذلك من الحقائق التي عجز الإنس والجن على أن يأتوا بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، ولا زالت كلمات الوليد بن المغيرة تردد على لسان كل من أراد الحديث عن إعجاز القرآن الكريم وذلك عندما قال سمعت كلاماً من محمد لم أسمعه من قبل لا من إنس ولا من جن، إن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإن فيه حلاوة وإن عليه طلاوة وإنه يعلو ولا يعلى عليه، إلى آخر القصة التي جعلت أحد بلغاء العرب وسيد من ساداتهم يعلن اعترافه بأن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر من بشر.

 

من بعد هذه المقدمة نريد أن نبين الفرق بين القرآن الكريم وبين اللغة التي نزل بها، وهنا يمكن أن نشير إلى الأسباب التي تجعل المعجزة ذات مشروعية مغايرة للصناعة التي يألفها القوم الذين وقع عليهم التحدي، أما إذا حصل التكافؤ بين المعجزة وبين من وقع عليهم التحدي فربما تفقد المعجزة الامتياز الذي يؤهلها للقيام بدور التحدي المتقن الذي يقع على عاتق من جاء بها، ومن هنا نعلم أن مميزات الإعجاز يجب أن تكون على رأس الخطوط التي استقر الطرفان عليها، الطرف المتحدي والطرف المتحدى، ولذلك فإن الزيادة التي استقرت في الرأس الذي أشرنا إليه لا بد أن تكون مختلفة تماماً عن الخطوط الأولى التي بدأ منها عنوان التحدي، وإلا فقدت المعجزة مشروعيتها ومصداقيتها التي يجب أن تتغلب على ضوئها في النهاية حتى يتم تصديق أولئك القوم الذين وقع عليهم الاختيار في إرسال صاحب المعجزة.

 

أما إذا سلمنا في تشابه الطرفين فقد يخرج التحدي عن مفهومه وبالتالي فإن جميع المصاديق التي تفرعت عن ذلك المفهوم تفقد الغرض الذي يجب أن تكون عليه، وبالتالي تصبح الرسالة عرضة للطعن لكل من أراد النيل منها، ومن الأمثلة على ذلك ناقة صالح فهذه الناقة وإن كانت مشابهة للنياق الأخرى إلا أن لها مميزات فرقتها عن باقي النوق، وأهم تلك الفوارق أنها ولدت من دون رحم إضافة إلى أن خروجها كان من خلال صخرة في الجبل وكذلك فقد خصص تعالى لها شرب يوم من الماء ولهم شرب يوم آخر وهذا ما يتعذر على النياق الأخرى، كما بين تعالى ذلك في قوله: (قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) الشعراء 155. وكذا قوله: (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر) القمر 28. وهذه الميزة الإضافية تجري في جميع المعجزات التي أيد الله تعالى بها الأنبياء وإن حصل التشابه من وجه. لذا اقتضت حكمة الله تعالى أن يؤيد رسله بمعجزات يألفها أقوامهم من حيث المبدأ مع ظهور امتياز آخر أشبه بالزيادة التي تكون على الأصل الذي نبغ القوم فيه.

 

ولا يمكن أن يستقيم التحدي بنفس القوة والفعل ما لم تتحقق تلك الزيادة وإلا أصبحت المعجزة بمرور الزمن المقرر لبقائها كالصناعة التي اعتاد عليها القوم الذين وقع عليهم التحدي، ومن هنا نلاحظ الاختلاف الذي ميز معجزات الأنبياء سواء كانت معجزاتهم من جنس المألوف أو لم تكن، إضافة إلى ذلك فإن معجزات الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى للأمم السابقة لا تعتمد على مسار واحد، بل تتشعب لتكون حجة على جميع من شاهدها وأقر على حقائقها، فعلى سبيل المثال نلاحظ أن معجزة موسى التي جاء بها والمتجسدة في العصا قد تفوقت على صناعة السحر، كما قال تعالى: (قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) الأعراف 116.

 

وكما هو ظاهر فإن السحرة كان لهم تأثير على أعين العامة من الناس ولهذا فهم أول من آمن بمعجزة موسى لعلمهم بحقيقتها التي لا يمكن للعامة التوصل إلى الفرق بينها وبين العصي الأخرى من حيث التفوق الذي ربما يحسب بنظرهم لجنس آخر من السحر، وفي هذه الحالة لا بد من إضافات لا تتناسب مع المألوف الذي يعلمه السحرة دون العامة من الناس ومن هنا جاء تأييد موسى بمهام أخرى لتلك العصا، كانفجار العيون من الحجر كما قال تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) البقرة 60. وكذا قوله: (وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) الأعراف 160.

 

والمهمة الأصعب تمثلت في ضرب البحر بالعصا كما قال تعالى: (فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) الشعراء 63.

 

 وعند تأمل جميع المعجزات التي ظهرت لموسى نجد أنها تفرقت في التحدي، منها ما تحدى به العلماء أي السحرة ومنها ما تحدى به عامة الناس وهكذا، ولكن الفرق بين معجزات الأنبياء ومعجزة النبي محمد (ص) أن تلك المعجزات ليست حجة إلا على من شاهدها فهي ليست حجة علينا، وهذا ينطبق على جميع الأنبياء حيث إن معجزاتهم عصرية أي إنها حجة في زمانها، أما الذين لم يشاهدوا تلك المعجزات فلا يمكن أن تكون حجة عليهم، أما التصديق بها من عدمه فهذا أمر لا بد منه، بسبب ذكر القرآن لها. فإن قيل: كيف يُلزم أتباع أولئك الأنبياء بتصديق معجزاتهم؟ أقول: يلزمهم التصديق بها بنفس النسبة التي أمروا بموجبها بالدخول في دين الله لطالما ذكرت في القرآن الكريم.

من هنا يظهر أن اعجاز القرآن الكريم يتشعب إلى طرق مختلفة تحسب على ضوئها حجيته على قليلي الفهم وبنفس الوقت تكون له حجة أخرى على العلماء الأعلم فالأعلم، ولذلك نلاحظ بين الحين والآخر بعض الاعتراضات التي يتسائل أصحابها عن عدم الحاجة إلى التفسير باعتبار أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب وعلى نفس قواعدهم فهو قد يفهم كما هو الحال في قراءة أخبار الصحف.

 

وربما يعذر هؤلاء لعدم اطلاعهم على أسرار القرآن الكريم مقارنة بالقواعد العربية، ولو بذلوا قليلاً من الجهد لفتح لهم كل يوم ما يضاف إلى فهمهم الساذج قبال كتاب الله تعالى لأن الإنسان كلما تبحر في العلم يكتشف أنه ازداد جهلاً في الأبواب الأخرى، وهذا هو دأب أهل العلم ولذا قيل: اثنان لا يشبعان أحدهما طالب العلم.

 

 

عبدالله بدر اسكندر   

محرر الموقع : 2017 - 02 - 22