خطابا من فم التأريخ
    

علي الحسيني 
    لقد خلد التاريخ العظماء، وسيرتهم العطرة، وتضحياتهم، وتفانيهم بالأخلاص لأجل شعوبهم، وثباتهم إلى اللحظة الأخيرة من حياتهم الشريفة، والسيد محمد باقر الحكيم قدس سره الشريف، خير مثال على ما نقول، بل أن صفحات تأريخ العراق، تزداد شرفا عند ذكر آل الحكيم الكرام، عن لسان الزمان أتكلم.
     كان مُغبراٌ، أشيباً، مهابا، بدى عليه التعب، كان جالس، فاتكأ على عصاً بيده، وقام بكل عزم وقوة، ورمق الحاضرين طويلا، ثم تنفس الصعداء، وقال، أرض السواد، ودجلة والفرات، والكوفة الغراء، وكربلاء الشهادة، والغري وقبر علي( ع ) قد جاءوا بك وليداً يابن الزهراء يا سيدي ياشهيد المحراب وحملوك الأمانة، شموساً جامحة، فما لَبثت طويلاً حتى وطأت سنامها، وأحكمت زمامها، فنعم الكفؤ الكريم قد سرت بها بلا هوادة إلى أن رزقك الله الشهادة.
نظر نحو السماء، فنطق وتلعثم، وجرض بريقه، وجرت دموعهُ على خديه، وقال بسم الله الرحمن الرحيم ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ). كانت كلماته لها روح، تنبض بالعشق الألهي، يُفرغ عن مكنون صدره بكل حزن، تَذَكر الأحبة فَعَزَ عليه فِراقهم، مشى بكل سكينة و وقار في أزقة النجف القديمة، يقول أنظروا لطالما رأيته يمر من هنا صبيا صغيرا يحمل قرطاسه بيده، قد وضع كفه بكف أبيه الإمام العالم زعيم الطائفة السيد محسن الحكيم طيب الله ثراه، يذهبان لزيارة مولى الموحدين، وأمير المؤمنين، ولا أنسى أبداً وقوفه على الباب طويلا مستأذنا في الزيارة ( أأدخل يا سيدي ومولاي يا رسول الله أأدخل ياحجة الله أأدخل يا سيدتي ومولاتي يا فاطمة الزهراء أأدخل، أأدخل ) دارت عليه سنوات من الغربة والألم، بعد أن نهض مشمراً عن ساعديه، مطلقها صرخة مدوية، بوجه البعث العفلقي الصدامي الملعون، قارع البعث بكل صلابة ورجولة من جانب، ودافع عن شعب العراق وطالب بحقوقهم أمام العالم من جانب آخر، لم يتهاون في التفكير في خلاص هذا الشعب من صدام وجلاوزته وأجهزته القمعية ونظامه الديكتاتوري اللعين، حتى أتم المسيرة بكل نبل وأخلاص، وعاد منتصرا لأرض الوطن، بعد الغربة الطويلة، عاد وهو يحترق بنار الشوق، لزيارة تلك القبة البيضاء في النجف، جرت دموعه على باب علي (ع) مرة أخرى، فدخل هذه المرة لكنه خرج مقطعا إلى أشلاء، قد توزعت وكأنها تريد أن تحتضن ذلك الضريح العظيم، أو كأنها تستأنس بالوقوف على باب علي (ع). كما كان يستأنس ويقف على باب علي وفاطمة (ع). سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وآله، حيث يقف ويقرأ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا .
أو كأنه يقول ربي ألحقني بآبائي، وأحشرني معهم شهيدا، فلقد عشت غريبا مظلوما كما عاشوا، وقد قتلوني كما قتلوهم، فقد تقطع قلبي وكبدي مثل والدي الحسن، وتقطع جسدي ورأسي مثل عمي الحسين، وقطعت كفوفي وفقأت عيني مثل عمي العباس. 
    رحل عنا التأريخ وطويت صفحاته، لكن هذا السيد ونهجه القويم وتضحيته وأخلاصه، أصبح منارا يُهتدى به، وتتعلم منه الأجيال، وتُصنع الرجال، وتقاد الأمم، وبدمائِه يزرع الأمل، وتُبعث الحياة، فأن دمائه غيثا للشعوب، فهي دماء الشهداء، وهي دماء الأبرياء، وهي دماء التضحية، وهي دماء الأيثار.

محرر الموقع : 2017 - 03 - 22