أين ذهب داعش؟.. قصة اختفائه وساحاته الجديدة
    

بقلم | محمد علوش

ليست منظمة داعش وأخواتها ببدعٍ من الفعل في التاريخ الإسلامي الحديث فهي لم تسقط من السماء ولم تأتِ من فضاء آخر، بل هي كغيرها من جماعات العُنف الديني المسلّح نتاج متداخل من العوامل التاريخية والسياسية والدينية والمخطّطات التآمرية.

وأيّ راصد لتطوّر التيار الجهادي المعولم يدرك أنه شكّل طفرة جينية خارجة من رحم التزاوج بين الوهّابية والإسلام السياسي الذي ظهر بدوره كتطوّر نوعي عن السلفية الإصلاحية والمشروع النهضوي الذي استهلّه كلّ من جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده وتبعهم في ذلك محمّد رشيد رضا مطلع القرن العشرين.

تدرّج هذا الفكر من دائرة الدعوة إلى التحديث الديني وإسقاط التقليد الفقهي إلى دائرة نزع الشرعيّة عن الدولة الوطنية (الدولة الأمّة) خلال الخمسينات والستينات، وصولاً إلى دائرة نزع الشرعية عن المجتمع المسلم خلال التسعينات وما تلاها، وحصر الشرعية في تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة أو الخلافة العامّة للأمّة.

إن أي عملية استقراء هادئة لتطوّر الفكر الجهادي العنيف عبر تاريخه يجد أنه دائما ما كان في حال انفلاش وتوسّع وتجذّر على المستويات الجغرافية والديموغرافية وأكثر راديكالية في آن، وأن الأدبيات التي اعتمدها، وما يزال يعتمدها توسّعت وانشطرت وافتقدتللضبط والحصر والملاحقة.

لقد جاءت الثورة التكنولوجية فمكّنت من تطوير الخطاب الجهادي المتطرّف وفتحت له مجالات ما كانت لتفتح لولا الثورات التقنية. واكتشف وسائل وأساليب جديدة للوصول إلى أكبر شريحة ممكنة وأتقن فن الدعاية واحترف الخطاب ومنح نفسه المشروعية الكاملة رغم تضافر جهود الجميع في مواجهته.

استغل التيار الجهادي المعولم الانتفاضات العربية التي اجتاحت العالم العربي عام 2011م، فتحرّك لاستثمارها وتوظيفها في وقت كان يُؤمل فيه أن تنهار السلفيات الجهادية كلها تحت حناجر الشباب المتدفّق إلى الساحات والميادين منادياً بالتغيير والإصلاح بطُرق سلمية صرفة.

نجحت هذه التنظيمات في حَرْف مسار الحركات الشعبية لا سيما في المناطق التي كانت تشهد توتّرات طائفية ومذهبية، فنما داعش في العراق. وكان اجتياحه للمناطق السنّية بمثابة تسونامي ما لبث أن تمدّد إلى سوريا بعد أن أرسل طليعة فاتحة له إليها بقيادة أبو محمّد الجولاني الذي راح يتسلل داخل الفصائل المعارضة المقاتلة ويدرس واقع الأرض وإمكانية تأسيس عمل كبير لتنظيم الدولة آملاً في توسيع الدولة أو الإمارة الإسلامية التي تشكّل هاجس أيمن الظواهري بعد مقتل مؤسّس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.

لم تقتصر حرب تنظيم داعش على سوريا وإن كانت بداية الشرارة فيها بل وصلت أفغانستان والفلبين وبورما وشبه جزيرة سيناء وليبيا ودول الساحل الأفريقي واليمن. ومع تمدّد الصدع بين داعش والقاعدة على الاستحواذ، استطاع التنظيم الخارج من رحم المطحنة العراقية الاستيلاء على أغلب فروع القاعدة سابقاً، كما الحصول على بيعات منها على وقع الانتصارات الضخمة التي كان يحقّقها خلال السنتين اللتين تلتا إعلانه خلافته.

طمعُ “أبو بكر البغدادي” بالاستقلال عن القاعدة بل ورغبته الجامِحة بضرورة انخراطها ضمن بيعته كأمير للدولة الإسلامية، ثم لاحقاً خليفة على أراضي تمتد على مئتي ألف كلم مربع من سوريا والعراق أجّج الصراع بين القاعدة وذراعها العراقية سابقاً حتى تحوّل الأمر إلى حرب إلغاء بكل ما للمعنى من كلمة بين الطرفين.

تراجع داعش ينعش القاعدة

يتراجع داعش اليوم بنفس السرعة التي تمدّد فيها، وصورته التي جاهد لترسيخها كقوة لا تقهر تلاشت كوميض برق. ولم تقتصر الحال على صراع داعش القاعدة بل تمدّد إلى القاعدة وفروعها مثل الصراع الحاصل راهناً بين الجولاني والظواهري.

لكن هزيمة تنظيم داعش عسكرياً أو انشغال فروع القاعدة ببعضها بعضاً لا يعني القضاء على الجهاديات المُتطرّفة فكراً وأيديولوجية طالما هناك بيئات ملائمة ومغذّيات سياسية ترتكبها أنظمة سلطوية تغذّي من نزعة العنف المسلّح ضد الدولة والمجتمع.

فالفكر لا يمكن القضاء عليه بالقوة الأمنية والعسكرية وحسب، بل يحتاج إلى حال هادئة وطويلة من الرعاية والتعهّد والإصلاح وتغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المغذّية لحالات الإحباط والتقوقع والفساد وغير ذلك.

تزداد أهمية المُعالجات الفكرية والاجتماعية مع المقاربات التي تُقدم تفسيراً لأسباب هزيمة مشروع التنظيم، حيث يُرجع كثير من الجهاديين سبب سقوط داعش وهزيمته إلى التشدّد والغدر والخيانة والعمالة، أو لتماديه في التعدّي على الفصائل أو لتأثّر الاختراق والهيمنة البعثية عليه. ولا نكاد نجد تحليلاً جهادياً واحداً يرجع سبب سقوط داعش إلى أيديولوجيته الدينية، باستثناء بعض الفصائل الثورية القريبة من خط الإخوان في سوريا.

إذ أن الجماعات الجهادية ذات التوجّه السلفي الجهادي في المنطقة تعتقد أن انهيار داعش يعود لانحرافه السلوكي ولانعدام سويّة قادته وعمالتهم، وليس للأهداف والنصوص التي تحتكم إليه.

خطأ داعش مقابل خطأ آخر

في مقابل الخطأ القاتِل لتنظيم داعش الذي حارب الجميع وفتح ناره على الجميع وحاول الهيمنة والاستئثار بالمشهد السوري، نجد أن النظم السياسية والحكومات تبحث عن انتصار ماحق ساحق، وفق معادلة صراع صفرية تُجهز فيها على ما تبقّى من كيانات سياسية معارضة أو متردّدة في الولاء المُطلق لها، ولم يعف هذه المعارضات أنها لا ناقة لها ولا جَمَل في ولادة وتسمين الجهاديات المتطرّفة.

إن أغلب الحكومات بعد فشل الثورات العربية استشرست وانتفضت كأسد جريح، محاولة الإجهاز على كلّ من لم يقف إلى جانبها حين ضربتها الانتفاضات الشعبية. واستغلّت توجّه المجتمع الدولي لمحاربة الإرهاب، فاتّجهت لتصف جميع خصومها السياسيين بأنهم زمر إرهابية، وأن أفكارهم تفضي إلى الإرهاب وأوغلت في الدماء وانتهاك الحريات، وتغيّب عن قائمة أجندتها أيّ مشروع إصلاحي بحجّة الانهماك في القضاء على الإرهاب.

إن فكرة تكريس “الزعيم” و”تأليه” الحاكِم هو بمثابة إعادة إنتاج خطاب سياسي قديم سيقابله خطاب مُضادّ يقوم على “الطائفة المنصورة” صاحبة الحق المطلق، لا سيما أن انهزام داعش وانكفاءه عسكرياً يمنح منظّريه الفرصة لدراسة سبب الهزيمة وإعادة ترتيب الأطروحة وطرحها من جديد.

هزيمة داعش عسكرياً مع بقاء الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية من دون تعديل أو تطوير أو تحسين يعني عودة القوة إلى السلفية الجهادية المنخرطة في مسار فكر “القاعدة الأمّ” التي كانت تقول: إن من الخطأ القاتِل تجمّع المجاهدين على بقعة أرض واحدة وإعلان إمارة عليها حيث سيسهل على الأعداء تصفية المولود ووأده في مهده قبل أن يشبّ.

والإيجابية الوحيدة في هذه العودة – إن حصلت- هو أن القاعدة ارتأت أن قتال الشيعة سيفتح النار من قِبَل ما يزيد عن مئتي مليون شيعي في العالم على فكر القاعدة وأتباعها، مع تزايد الأصوات داخل البيئة التنظيرية للقاعدة التي تنادي بالعودة إلى مواجهة العدو الأصيل لها (الولايات المتحدة) والكفّ عن استعداء الإسلام السياسي، لأن ذلك أضرّ بالمشروع الجهادي قياساً على ما حصل في ليبيا وتونس، حيث شكّل الجهاديون القريبون من داعش خطورة على مشروع الإسلام السياسي الذي آل إليه الحُكم في ليبيا وتونس وإلى حد ما في مصر خلال فترة حُكم محمّد مرسي الذي دام سنة واحدة فقط. وضرورة السعي إلى بناء عمل جهادي داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ أن توجيه بوصلة الصراع نحو الاحتلال الإسرائيلي كفيل بإعادة إنعاش مشروع الإسلام الجهادي والقاعدي وتوفير الحواضِن الشعبية له من جديد.

أهل الأرض والمقاتلون الرحّالة

كانت داعش قبل انهيارها عسكرياً تسيطر في أوج نجاحها على ما يقدر ب 200,000 كيلومتر مربع في العراق وسوريا. وكانت تقديرات الاستخبارات الغربية لعدد مقاتلي التنظيم تتراوح بين 30,000 و45,000 مقاتل.

وعلى افتراض أن التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب قد تمكّن في أفضل الأحوال من قتل 30 ألف مقاتل من تنظيم داعش، فإن هناك ما لا يقلّ عن عشرة آلاف مقاتل ما زال مصيرهم غير معروف، لا سيما وأن الحكومتين السورية والعراقية تمكّنتا من استرجاع غالبية الأراضي التي كانت خاضعة للتنظيم.

بناء عليه، يمكن تقسيم مَن تبقّى من المقاتلين في تنظيم داعش إلى قسمين: محليين ومهاجرين.

المحليون هم أبناء الأرض الذين انخرطوا في تنظيم داعش بعد سيطرته على المناطق التي ولدوا وعاشوا فيها. وأغلب هؤلاء سيحاولون العودة إلى حياتهم الطبيعية والاندماج في المجتمع الذي سيعمل على حمايتهم نتيجة الوشائج والروابط العائلية. وقد تسعى الدولة لإيجاد تسوية مقبولة مع هؤلاء. ففي سوريا تجري مصالحات برعاية روسية في مناطق مختلفة من البلاد. وفي العراق تعِد الحكومة بالسعي إلى تسوية ملفات أبنائها الذين انخرطوا في التنظيم. ويبقى خطر المحليين قائماً لا سيما وأن علميات الدّمج والتأهيل لا يمكن أن تكون ناجحة تماماً في ظّل الظروف القائمة حالياً بالمقارنة مع عمليات التأهيل التي كانت تجريها السعودية مع مقاتلي القاعدة من حملة الجنسية السعودية.

أما المهاجرون فهم الوافدون من دول مختلفة إلى سوريا والعراق وحاولوا الاستيطان فيها سواء مع عائلاتهم أو على شكل أفراد مقاتلين فقط. هؤلاء ليسوا بدورهم على صعيد واحد. وهم يشكّلون عقبة كبيرة على الأمن العالمي من عدّة جهات، فهم أولاً حاملو جنسيات أجنبية، وحكوماتهم تفضّل التخلّص منهم على منحهم التسوية المطلوبة.

ويمكن فرز المهاجرين إلى أناس سيعودون سراً إلى بلادهم الأصلية ويتحوّلون إلى خلايا فاعلة تنتظر أي خلل في المنظومة الأمنية لتندفع وتمارس عملها. وآخرون سيحاولون البحث عن أماكن ملائمة لعملياتهم الجهادية أي أراضٍ جديدة للاستيطان فيها. والمرجّح أن المناطق المحبّذة لدى هؤلاء هي: أفغانستان وباكستان والفلبين وبورما والصين شرقاً، وبعض الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي سابقاً، وشمال سيناء وليبيا وعموم دول الساحل الإفريقي غرباً، واليمن جنوباً.

الذئاب المُنفرِدة

إن أخطر ما قد يتركه داعش خلفه، هو نجاح جهوده في تثبيت أطروحة الذئاب المُنفرِدة أو المتوحّدة بعيداً عن الهيكل التنظيمي حيث تمتلك أدبياته الطاقة الذاتية في إنتاج جيل جديد من المتمرّدين على

النظام الدولي والدولة القطرية، متكيّف مع التحديات والعقبات الجديدة التي تحول دون تفعيل وتظهير مخرجاته الإيديولوجية بشكل كامل في المجتمع والدولة، من دون أن تكون الفئة الجديدة من الجهاديات المتطرّفة مُستقطبة تنظيمياً أو سبق أن خضع أفرادها لدورات تثقيفية، إذ يكفي أن تكون المادة الدينية المؤدلجة متوافرة على شبكة الإنترنت في بضع ميغابايتات يسهل تمريرها ونشرها. وهي ستتكفّل بما يلزم.

 

محرر الموقع : 2018 - 01 - 14