البغدادي وتكتيك الذئاب الجريحة‎
    

اعتراف البغدادي في خطبة 29 سبتمبر/أيلول بهزيمة الموصل، والدلالة الأبرز لدى قراءة الخطاب من وجهة نظر تحليل المضمون، هي الشعور بالضيق والحصار وألم الخسارة التي دفعت البغدادي إلى الاعتراف بحتمية خسارتهم أرض الخلافة وأرض التمكين، لغة التعزية ورفع المعنويات وشحذ الهمم، واللجوء إلى النصّ الدينيّ في أكثر لحظاته وجدانيّة وبعثاً على الألم والمظلومية، من خلال استحضار البغدادي ما رواه الصحابي خباب بن الأرت.

مواساة فلوله بذكر قصص عن الابتلاء والفتن، بآيات من القرآن الكريم تدعو إلى الصبر والتحمّل، باعتبار أن الهزائم والخسائر التي مُني بها التنظيم في الآونة الأخيرة في العراق وسوريا وليبيا لم تضعفه، بل إنّما هي “ابتلاء”.

كما أهمل رثاء العشرات من الزعامات التي قتلت في نينوى والرقة خلال السنة الماضية، وأيضاً لم يعرج على وجود انشقاقات تنظيمية.

وأن التسجيل الصوتي الأخير للبغدادي هو الثالث صوتياً هدفه فقط “شدّ أزر أنصاره ومؤيديه واستنفارهم لأيام قاسية مقبلة في سوريا”، وإعلان بقائه “البغدادي” حياً كقيادة تعيش الغيبة منذ آخر ظهور في الجامع النوري الكبير في الموصل منتصف 2014.

تحليل سياسي تناول به التنافس بين المحور الروسي والأميركي، والخصومة بين بغداد وكردستان، ولعل استحضار القضية الكردية في الخطاب ليس وارداً لذاته، بل كدلالة على أنه لا يزال حياً، وأن كل مزاعم الروس والسوريين حول مقتله تبين أنها بعيدة عن الصواب.

الإشارة إلى تركيا وأردوغان تعبير عن أزمة داعش بحربها مع تركيا، الأمر الذي جعل البغدادي يعترف بتراجع تنظيمه، والانتقادات التي وُجّهت لجهود التقارب بين السعودية والعراق.

خطاب البغدادي يؤكد أنه وأنصاره أصبحوا في زاوية حرجة، وأيضاً هو يدعوهم إلى التربص بفوضى داخل العراق نتيجة الخلاف الكردي العربي، وعند ذلك عليهم أن يعودوا إلى تكتيك أرض التمكين واحتلال المدن من جديد، وأما في سوريا فهو يحفزهم على قتال كالذي وقع في الموصل، ويحدد لهم الأولوية وهم الجيش السوري وحلفاؤه من الفصائل الشيعية.

وكأنه يريد من داعش في كافة فروعها أن تنفر إلى قتال بتكتيك “الذئاب الجريحة”، بدلاً من الانسحاب ولملمة الفوضى ومعالجة الجراح؛ ليعلن السير على منهجية “الأيام الزرقاوية” عشوائية القتل، وربما يلجأ، في المرحلة التي بعدها، إلى تكتيك هجمات الأطراف القريبة من الجبال والبوادي والصحاري التي تدافع بضراوة عما تبقى لها من رمق، فتمضي نحو وحشية باستهداف المدنيين من النساء والأطفال في المناطق المحررة والمستقرة نسبياً، وفي ذلك تكون أشدّ توحشاً وهمجيّة!

إن قيادة تنظيم داعش استشعرت التغيرات الجوهرية بعد هزيمتهم بأرض التمكين في الفلوجة والموصل والرقة، ويبدو لي أن سيناريوهات التحول إلى قتال “الذئاب الجريحة” في العراق وسوريا وليبيا بعمليات انتقامية ليست متخيّلة، وليست معزولة عن وحشية هذه الجماعة المتطرّفة.. وهي تتمثل بالقتل العشوائي لكل من هو غيرهم في مدن تلك البلدان، بالإضافة إلى هجمات نوعية على الثكنات العسكرية والمراكز الأمنية والسجون ومؤسسات الدولة المختلفة، وإعلان غزوات في عدة أماكن، ترافقها عمليات تفجيرية وانتحارية في المناطق المهملة استخبارياً وهشة أمنياً.

القوات المشتركة القتالية العراقية تلاحق فلول داعش في شمال العراق، وهي على وشك النصر الكامل في الحويجة، آخر جغرافية واسعة يحتلها داعش، مفارقات تعاظم قدرات القوة القتالية العسكرية والضعف في القوى الأمنية والاستخباراتية الماسكة للأرض بعد التحرير، وهذه الحال يدركها قادة داعش، الذين ما زالوا يتحركون ضمن طريقة الأواني المستطرقة كلما كان الضغط في جهة تحولوا إلى الجهة الأقل ضغطاً. تلك حال الأمن في العراق، فهو على رغم قواته القتالية المحترفة وامتلاكه الآلاف من قوات النخبة في جهاز مكافحة الإرهاب وقوات الرد السريع وقوات مغاوير النخبة من الشرطة الاتحادية وقوات النخبة من البيشمركة وقوات نخبة الحشد الشعبي، وتمتعه بإسناد التحالف الدول الكبرى لأمنه وتفوقه في حرب أرض التمكين، لكنه يبدو غير مستعد لحرب عصابات الذئاب الجريحة التي تجعل المدن المستقرة نسبياً تعيش نوعاً آخر من الإرهاب على غرار الأيام الزرقاوية 2004-2006، ومن اختراق أمني وعسكري إلى غيرها، ومن استراتيجية أمنية تقليديّة إلى استراتيجية بديلة غير قابلة للتنفيذ بسبب تفشي الفساد في مرافق الأجهزة الأمنية والسيطرات الثابتة، وفقر أجهزة الاستخبارات وتعددها وعدم انسجامها وتنسيقها مع بعضها، وانتشار الهويات التعريفية الأمنية المزورة والسلاح السائب.. وفي ذلك تتبدى مفارقات كبيرة في وضع مدن العراق في مرحلة ما بعد هزيمة داعش عسكرياً، فهي مُدن قوية من الناحية العسكرية، إلا أن الهاجس الأمني الداخلية يسيطر عليها بها. وهي مدن غير مستقرة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية، وتشكو من عقدة الخوف من الحرب القومية والطائفية وحتى التهجير القسري والتغيير الديموغرافي المستقبلي. وهي مُدن استطاعت هزيمة الآلاف من مقاتلي داعش، إلا أن قياداتها الأمنية لم تنجح في وأد الخلايا النائمة وملاحقة المندسين والفلول الهاربة في داخلها.

والمراقب يشاهد ذلك أن مدن صلاح الدين ونينوى والأنبار وديالى المحررة، رغم تحريرها عسكرياً منذ سنة وبعضها أكثر، تعاني من قلق وجودي والسلاح السائب وعمليات الاعتقال خارج سلطة القانون وعمليات الإجلاء لأسر ينتمي إليها عناصر داعش، والتنافس على عقود مقاولات الإعمار، ومن خوف من المستقبل، وهي في كل ذلك تحرص على عودة المهجرين والنازحين إليها، وعلى تحديث وتقوية ولائها للدولة والقانون، كما أنها تحرص باستمرار على عودة البنى التحتية، وخاصة التربوية والتعليمية والصحية والأمنية.

وما يهمنا من كل ذلك ملاحظة أن قيادة داعش لا تتعاطى مع عقيدتها العسكرية التقليدية باعتبارها معطى مطلقاً أو ثابتاً، إذ إنها تعمل باستمرار على إدخال تحولات على تكتيكاتها العسكرية، بحسب التحولات في أرض التمكين وبحسب الفوضى السياسية والغفلة الأمنية والضعف الاستخباراتي، والتطورات في الإعلام الطائفي والقومي.

وكانت قيادة داعش اضطرت لمراجعة هذه التكتيكات في السنوات القليلة الماضية ثلاث مرات، الأولى في أبريل/نيسان 2015 بعد هزيمتهم في تكريت والثانية في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 بعد هزيمتهم في الفلوجة، والثالثة بعد هزيمتهم في نينوى.

الأولى كانت بسحب قوات النخبة وتأسيس ثلاثة جيوش في العراق وسوريا “العسرة ودابق والخلافة”، وفرض عليها أن تقاتل بالطريقة العسكرية التقليدية وفق مبدأ “الرباط”.

والثانية الانسحاب “الانحياز” إلى مناطق قوة وعمق تنظيم الاستراتيجي في الموصل والرقة ودير الزور، وترك الرباط في المدن المحاصرة.

والثالثة بسبب إخفاقها في معركة الموصل، ولعدم قدرتها على الرباط والمقاومة، وبواقع الضغط الكبير بسبب تغير الإدارة الأميركية وتأييدها لاستراتيجية إتاحة استخدام القوة المفرطة فقدت دفاعات داعش ووحداتها المعرقلة قدرتها على الصمود في مواجهات مباشرة، فكان التحول الجديد في التكتيك العسكري والأمني الذي اعتمدته داعش منذ إعلان هزيمتها في الموصل القديمة، حيث يستند إلى عدة ركائز، أهمها:

– مفارز مفردة تقاتل بهجمات تعرضية تشبه بناء سرايا جوالة صغيرة ومتحركة وقوية، من الانتحاريين والانغماسيين وظيفتها إنهاك واستنزاف القوات العراقية المرابطة في السواتر الأمامية بأطراف المدن المحررة.

– إفشال تأمين عودة النازحين والمهجرين، بالاعتماد على الكواتم والعبوات والمفخخات والخطف والقصف العشوائي بالهاونات والكاتيوشا، لتجنّب أو تقليل المعلومات الاستخبارية المقدمة من قبل المواطن بالضد من عناصر داعش والموالين لهم.

– اعتماد عناصر عشوائية القتل، ونقل المعركة إلى مدن الجنوب ذات الغالبية الشيعية بعيداً عن مناطق البادية والحدود تكتيك “الذراع الطويلة”، وصناعة رأي عام غاضب وضاغط على الحكومة، وبالتالي تسفيه انتصاراتها على داعش.

– اختفاء تكتيكات الحرب النظامية التقليدية وحتى حرب المدن والعصابات والحروب الهجينة، وهذا سيكون واضحاً بعد تحرير دير الزور السورية والقائم العراقية أن تلك التكتيكات العسكرية كانت سبب استنزافهم وخسارتهم 70‎%‎ من مواردهم المالية والبشرية.

وهكذا تواصل قيادة داعش نقد فشل تكتيكاتها وفحص أوجه القصور فيها، وتعيين حاجات تطوير إمكانياتها وتحسين أدائها، عند كل منعطف، وفي كل التحولات العسكرية والأمنية والمالية والإعلامية، في حين أن الوضع عند الحكومات العراقية والسورية والليبية والمصرية التي انتصرت عسكرياً على داعش، مجرد ردات فعل على تكتيكات العدو الإرهابي وما يفعله، معولين على أوجه الضعف والثغرات الظاهرة عنده، في حين لا تلتفت لتطوير أجهزة المعلومات والاستخبارات للقيام بعمليات استباقية تقضي على أنصار داعش من الخلايا الموالية والنائمة.

محرر الموقع : 2018 - 05 - 31