حكايات عراقيين حملتهم قوارب الموت إلى المنافي
    

أمستردام - عدنان أبو زيد
تشكل قوارب الموت وهي تسميات متداولة عالميا لمراكب صغيرة بدائية الصنع في الغالب تحمل المهاجرين غير الشرعيين عبر البحار والمحيطات، مشكلة تؤرق الدول وتضعها أمام مآزق سياسية في ظل عجز الأجندة الموضوعة عن وضع الحلول الناجعة لمنع حدوثها.

ولأنّ وسائل النقل البدائية هذه، أضحت رمزا للهجرة بين برِّ وبَحْرِ ، من وطن يسوده الظلم او الجوع او فوضى الأمن الى بلاد يَعتقِد المهاجر انها اكثر أمنا، ستمنحه الحماية وتكفل له حياة كريمة، فان هذه القوارب ستبقى طالما بقيت الاسباب، فحيث هناك جوع هناك مهاجر، وحيث هناك قتل فثمة نازح .
ويستذكر عراقيون نزحت بهم قوارب الموت عبر البحار الى حيث يقيمون اليوم في اوروبا واستراليا ، تفاصيل رحلات الهروب الكبير في تسعينيات القرن المنصرم ، بعدما صار الوطن طاردا لأبنائه في ظل سياسات القتل والتجويع والحروب التي اتبعها نظام صدام المباد.ولاغرو بموجب ذلك انّ نخبا علمية ورموزا ثقافية ووجهاء مجتمع، ورجال دين استقلوا مراكب الموت هربا من المَحْبِس الكبير بحثا عن مأوى في دول اللجوء. ومع التحول الديمقراطي في العراق وتحسّن المستوى الاقتصادي واستتباب الامن انخفضت اعداد راكبي القوارب العراقيين الى حد كبير، لتقتصر الظاهرة اليوم على شباب مغامرين اكثر منهم لاجئون حقيقيون.

مركب الموت

ومقابل ذلك، اتسعت الظاهرة في بلاد اخرى، بينها سوريا ومصر، والمغرب، ناهيك عن الدول الافريقية التي احتلت على الدوام المرتبة الاولى في (تصدير) لاجئي القوارب الى العالم الاوروبي واستراليا.
ويعرّف(مايك فوس) الخبير في شؤون الهجرة في مكتب شؤون اللاجئين في مدينة (ابل دورن) في الوسط الهولندي في حواره مع ( الصباح ) قارب الموت بانه " مركب متهالك وغير آمن، يحمل طالبي اللجوء النازحين على غير هدى، بأعداد كبيرة، وبصورة غير شرعية "، مشيرا الى ان تداول هذا المصطلح "بدأ في أواخر السبعينيات حين ملأ اللاجئون الفيتناميون الفارون من الحرب، شواطئ البحار".

لكل لاجئ قصة

وتَحْسِب ُ رفا ابراهيم، المهندسة العراقية المسيحية المقيمة في هولندا منذ العام 1996، ان " لكل لاجئ عراقي، قصة هجرة حزينة، لكن الاكثر ايلاما بين كل الحكايات، النازح الذي استقل القارب يوما ما مستسلما لقدره، فإما ان تبتلعه الامواج واسماك القرش، او يصل الى البر سالما، لتنتظره اسئلة رجال الشرطة والمحققين حالما تطأ قدماه البر".
وتستأنف ميساء الخفاجي حكايتها في الهجرة " من شاطئ لبناني، كانت الانطلاقة في باخرة يونانية، تم حشرنا مع صناديق شحن ضخمة، فقد كانت الباخرة آمنة، لكن المكان ضيق، حتى يصعب عليك التنفس ". وتَطَّرِدُ اقوالها " في مكان ما في البحر ووسط الظلمة، تقدّم شخص على الباخرة، وخاطبنا : الى هنا تنتهي مهمتي، فثمة قارب يوصلكم الى شواطئ ايطاليا". وأَوجَزْتَ الخفاجي "في ذلك الوقت، يستسلم المرء لقدره لأن التجارب تُنبؤك بغرق كثيرين سلكوا ذات الطريق، وبعد نحو نهار كامل من السفر في البحر المتلاطم وصلنا الشاطئ سالمين".
حميد الدليمي لاجئ عراقي يقيم في هولندا هاجر عبر البحر من اليونان الى ايطاليا العام 2001، داخل شاحنة تبريد للأسماك في سفينة، كان ضحية احتيال لمهربين تركوا القارب وسط البحر لكن العناية الالهية انقذته ورفاق السفر في اللحظات الاخيرة، حين اكتشفت الشرطة وحرس الشواطئ امرهم. يردف الدليمي " في تلك اللحظة، ادركنا أن الموت كان يلاحقنا "، ويتابع" قبل نحو اسبوع من سفرنا غرق نحو عشرين عراقيا كما اعلنت وسال الاعلام ".

الحلم الأوروبي

وعلى رغم انحسار موجات اللجوء العراقي الى الغرب فان هناك من لا يزال يتمسك بحلم الوصول الى العالم الاوروبي، في محاولة منه لتحسين حالته المعيشية، او لتحقيق حُلْم ظل يراوده طيلة حياته.
وعلى ما يبدو فأن الهجرة غير الشرعية لدى البعض، هي السبيل الوحيد للخروج من دائرة الفقر وانعدام فرص العمل، فيختار أولئك، ترك بلدانهم بحثا عن وضع أفضل في دول ذات قوانين وتقاليد عريقة في استقبال اللاجئين مثل بريطانيا، ألمانيا، السويد، النرويج، فنلندا، بلجيكا، هولندا، و فرنسا، وهي الدول الاكثر اقبالا من قبل طالبي اللجوء في العالم. وفي العادة، يقوم المهربون بتحميل الناس في قوارب صغيرة في زاوية بعيدة عن الانظار في ميناء ما، متجهين الى جزر صغيرة وسط البحر كمحطات استراحة، على طريق الوصول الى الهدف النهائي.
ويذكّر صادق الحسيني الاكاديمي في الاجتماع، والمتخصص في شؤون الهجرة في هولندا، بان "الدول الاوروبية تقلق من ظاهرة لاجئي القوارب، اكثر من قلقها من اشكال اللجوء الاخرى، لانهم يحملون الدول المضيفة مسؤولية اكبر، عدا ان عملية ارجاعهم الى بلدانهم الاصلية تتخلله مصاعب قانونية وإنسانية". ويزيد في القول " عبر عقود ابتلع البحر مئات النازجين، مثلما ابتلع الآلاف من الوثائق وجوازات السفر، ذلك ان اللاجئ يرمي كل ما يدل على شخصه وبلده وجنسيته في البحر لإتلاف أي دليل حول حقيقة شخصه، وطريق هجرته ". ويتابع" طالما يعج العالم بالفوارق الاقتصادية بين الدول، وطالما هناك ظلم، فان النزوح القسري يظل خيارا مثاليا لدى البعض ".

القرار الحاسم

ويروي فواد حسن (35 سنة) الذي كان ضمن مجموعة من المهاجرين في تركيا " ارتأيت الهجرة عبر البحر مع مهاجرين استقلوا المركب من مدينة إزمير غرب تركيا، وعددهم نحو سبعين شخصا لقوا مصرعهم إثر غرق القارب وكان بينهم نحو عشرة عراقيبن ". يتابع حسن " كنت ضمن المجموعة، لكني قلّبت الامر مع نفسي، فتريثت، وفضلت الهجرة الى اوروبا عبر روسيا وأوكرانيا ". ووصل حسن الى هولندا بعد رحلة أيام سيرا على الاقدام عبر اوكرانيا وبلغاريا برفقة مهربين. وعلى رغم المصاعب والمبالغ الطائلة التي دفعها حسن، لكن يجد نفسه سعيدا لأنه لم يقرر في تلك اللحظات ركوب البحر.
وكانت مصادر تركية افادت ان حصيلة غرق قارب الاسبوع الماضي ادى الى مصرع 12 رجلا و 18 سيدة و28 طفلا وثلاثة رضع. وبحسب سعيد الذي ظل في تركيا لعدة اشهر قبل انتقاله الى اوروبا فان"اغلب المهاجرين غير الشرعيين اليوم هم من سوريا ولبنان واعداد اخرى من الاردن والعراق".
وأفضت الحرب اليوم في سوريا الى فرار الكثير من السوريين الى البلدان المجاورة. ويردف حسن " هناك عند بحر إيجة في مدينة إزمير غرب تركيا، ينتظر العشرات من المهاجرين العبور الى الضفة الاخرى من العالم بمساعدة مهربين يديرون شبكات تهيب عبر البحر الى اليونان ومناطق اخرى". ويسترسل" بدا وكأن السلطات التركية تنسق معهم الامر، لأنهم يعملون في بعض الاحيان بصورة شبه علنية ".

انحسار الهجرة العراقية

وفي ما يتعلق بالمهاجرين العراقيين في الوقت الحاضر فان، الباحث الاجتماعي والأكاديمي العراقي المقيم في هولندا مكي الربيعي يرى ان" ظاهرة لجوء العراقيين انخفضت الى ادنى مستوى لها منذ الاستتباب النسبي للوضع الامني، وتحسن المستوى الاقتصادي في البلاد". وأَرْدَفَتِ كلماته "اغلب الشباب الذين يركبون البحر اليوم ليسوا مضطرين، لكنهم مغامرون يحلمون بحياة ترف في اوروبا وأميركا.
وانخفضت اعداد اللاجئين العراقيين الى ادنى مستوى لها في السنتين الاخيرتين بحسب تقرير صادر عن منظمة شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) يفيد بان " أعداد طالبي اللجوء في جميع دول العالم ارتفعت في العام 2011 بنسبة 20 بالمئة مقارنة في العام 2010، فيما انخفضت أعداد طالبي اللجوء من العراقيين". وبعد أن بلغت أعداد طالبي اللجوء العراقيين، نحو نصف مليون لاجئ في العام 2003 فان أعدادهم انخفضت في العام 2011، لتصل إلى 23 ألف شخص فقط. وفي العام 2012 انخفضت اعداد النازحين العراقيين الى ادنى مستوى لها بحسب تقارير اوروبية.
وضمن هذا السياق، يعترف الشاب العراقي احمد الجبوري الذي وصل الى المانيا عبر عملية تهريب معقدة اشتملت في مرحلة منها على ركوب البحر في قارب، بان "عصابات تهريب البشر، تسهّل الامر لمن يرغب بالتوجه الى اوروبا، من الشباب الحالمين بمستقبل افضل". والجبوري الذي حصل على حق الاعتراف به كلاجئ في هولندا التي قدم اليها العام 2009، يحكم فكرته بالقول" مازالت البحار تُغرِق الكثير من الشباب من الصومال واليمن وسوريا الذين يضطرون الى ترك بلدانهم ". ويشارك ابراهيم طاهر في الحوار عن قوارب الموت ليؤكد ان " للعراقيين في استراليا قصصا مروعة عن زمن المراكب التي حملتهم من شواطئ اندونيسيا الى اطراف بحار استراليا ".

الغرق فى المحيط
ويسترسل ابراهيم في حديثه الى (الصباح ) عبر الهاتف " كانت استراليا في فترة التسعينيات وحتى العام 2004 مقصدا رئيسيا لقوارب المهربين التي تقل العراقيين النازحين". ويتوالى حديثه " كثير من العراقيين الى جانب لاجئين من جنسيات اخرى، انتهى بهم الامر الى الغرق في المحيط، بعدما تعذر وصول قوارب حرس الحدود الأسترالية اليهم ". وبحسب ظاهر، فان "العام 2004 شهد غرق نحو ثلاثين لاجئا في عرض البحر كان بينهم عشرة من العراقيين".
ويروي ظاهر عن مصادر استرالية معنية في قضايا الهجرة فان " عدد الذين وصلوا إلى الشواطئ الأسترالية خلال السنوات الخمس الماضية بلغ نحو 23 الف نازح على متن نحو 400 مركب".
يتابع ظاهر، مستقيا معلوماته من تفاعله مع عراقيي المهجر " اليوم يحصل العكس، فالذين جهدوا في الوصول الى استراليا وجازفوا بحياتهم عبر ركوب البحر بغية الوصول الى استراليا، يستعدون للعودة ثانية الى العراق لأسباب بينها تحسن المستوى المعيشي، واستتباب الوضع الامني، لاسيما ان استراليا في نظر الكثيرين، بلد بعيد جغرافيا عن الوطن الام". لكن الامر انقلب ظَهْراً لبَطْنٍ، فيما يتعلق بالعراق وسوريا، فما لبث السوريون بحكم اوضاع بلادهم يستقلون مراكب الموت عبر البحار، فان العراقيين يستقلون اسرع وسائط النقل وهي الطائرات للعودة على وجه السرعة الى بلدهم.

شاطئ الأمان

وعبر تركيا يتجمع اليوم سوريون كثر منطلقين عبر المراكب غير الآمنة في رحلة البحث عن لجوء في بلد ما، فقد ذكرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الاسبوع الماضي أن ما بين 500-1000 شخص يعبرون الحدود من سوريا إلى تركيا يوميا، جلهم يتمنون عدم البقاء في تركيا و الانتقال باسرع وقت الى اوروبا، وان كلفهم الامر حياتهم بحسب قادر خميس، المسيحي السوري الذي وصل الى هولندا عبر البحر قبل نحو شهر. ويستأنف خميس حديثه الى ( الصباح ) " اغلب الذين استقلوا المركب من السوريين، نجحوا في الوصول الى شاطئ الامان في اليونان، بعدما اوشكوا على الغرق في احدى المرات ".
وفي وقت من الزمن العصيب الذي عايشه العراقيون قبل العام 2003، كان البحر الأبيض المتوسط بزوارقه المتهالكة والمزدحمة نافذة لهجرة العراقيين الذين اقاموا مؤقتا في بلدان المغرب العربي.
يقول نعمان الهيتي الذي خاض تجربة قوارب الموت العام 1999 واستقر به المقام في المانيا" المئات لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الإبحار إلى إيطاليا بينهم عشرات العراقيين ". ويردف" فقدت العام 2000 اثنين من اصدقائي اثناء رحلة لهم من ليبيا إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية". لكن الهيتي يخلص الى القول" الوضع في العراق جيد، ولا يستوجب المجازفة ".

المصدر ;الجيران

محرر الموقع : 2012 - 09 - 18