عوام وسلاطين.. هل ظهر "ربيع عربي" بعصر المماليك في القرن 15؟
    

صدرت مؤخراً "قراءة من أسفل" بعيون المهمشين لاحتجاجات العوام وحيل السلاطين في القرن 15 عن المركز القومي للترجمة، وهي ترجمة لكتاب "عوام وسلاطين.. الاحتجاجات الحضرية في أواخر العصور الوسطى في مصر والشام" للباحثة أمينة البنداري، ونقله إلى العربية عثمان مصطفى.
وفي الكتاب محاولة لإعادة النظر في الآثار الاجتماعية للأزمات الاقتصادية والتحولات السياسية في القرن 15 مع التركيز على وجهة نظر عامة الناس، لا سيما من خارج النخبة الحضرية.
ويندرج تحت وصف العوام أو "اللانخبة" حرفيون وفنيون ورجال دين وتجار متوسطون، وكذلك كتبة وموظفون ثانويون في المؤسسات الحاكمة والتعليمية في المدن المصرية والسورية، ويرى الكتاب أنه تم تهميش كل هؤلاء الأفراد في المجتمع بشكل تقليدي في المصادر المعاصرة.
لكن الوجود المتزايد في روايات الفترة المملوكية المتأخرة تعزوه البنداري إلى التحولات الاجتماعية؛ إذ وفرت الاحتجاجات الشعبية نافذة فريدة لمراقبة مشاركة غير النخبة في السياسة.
ويتناول الكتاب القرن 15 الذي يبدأ بعهد السلطان المملوكي برقوق (حكم في الفترة من 1382 إلى 1399)، ويتضمن بداية الهيمنة العثمانية على المقاطعات العربية، وبالطبع الصدام بين المماليك والعثمانيين، ويتجنب السرد نموذج السقوط والانهيار المتداول.
وترى المؤلفة أن الإجراءات التي اتخذها نظام المماليك لمعالجة انخفاض الإيرادات (مثل دفع الرشاوى والفساد المكتبي) تشكل جزءًا من سياسة التعويض المالي، التي سمحت للدولة بالعمل بطريقة لامركزية.
وكان تحدي سيادة السلطان يمهد الطريق لمشاركة مجموعات أخرى مثل أمير وأفراد من الطبقة الوسطى في الحياة السياسية، رغم الطبيعة الاستبدادية للنظام التي لا يمكن إنكارها. كما يجري تغيير بعض السياسات أو تعديلها استجابةً للسخط أو الرضا الشعبي؛ وبالتالي يمكن اعتبار الأزمات السياسية والاقتصادية المختلفة التي انتشرت في هذا القرن فرصًا لبعض المجموعات للوصول إلى السلطة وإعادة التفاوض على مواقفها.
الطاعون وانخفاض قيمة العملة
ويتناول الفصل الأول مقدمة تضع القارئ في سياق أحداث الكتاب والقرن 15 في مصر والشام، وكذلك التحديات الاقتصادية التي شهدتها البلاد، في حين يكرس الفصل الثاني "الدولة المملوكية تتغير" صفحاته للتحولات في هذه الدولة، وردود الفعل الناجمة عن هذه التغييرات، ويسعى إلى استنتاج وتحديد الأسباب الجذرية وراء هذه التحولات.
ويشمل تسلسل الأحداث في الفصل استجابة الدولة للتحديات ورد الفعل الشعبي وخيار التحول إلى تسوية عن طريق التفاوض، معتبراً أن "السياسات التي اتبعها حكام المماليك لم تكن فقط ردة فعل على هذه التغييرات، بل أسهمت أيضًا في تشكيلها".
وأدت سياسات المماليك إلى معاناة الكثير من الناس ونزوح اجتماعي، أدى بدوره إلى المزيد من أعمال الاحتجاج.
وكان التحدي الأول هو الطاعون الأسود، الذي مات فيه بين ثلث وخمس سكان القاهرة، وخمس سكان سوريا، وأدى تراجع الموارد في هذه الفترة إلى تأجيج المنافسة بين مكونات النخبة، في حين أدى النقص في الذهب وانخفاض قيمة العملة اللاحق إلى احتجاجات شعبية.
وعلى سبيل المثال، ارتبط تمرد ابن إياس ضد قايتباي عام 1481 بإصدار عملات نحاسية جديدة، ولكن المماليك اتبعوا إجراءات تفاوضية، وقبلت السلطات إجراء تعديل نقدي.
ومع ذلك، كان القارئ يرغب في عرض تقديمي أكثر تفصيلاً للإصلاحات النقدية، لأنها كانت السبب في ثورات شعبية عديدة في كل من القاهرة ودمشق؛ إذ سجلت العديد من التعليقات التاريخية من المؤرخ المقريزي وابن طوق وغيرهما حول هذه السياسات.
واستعرض الكتاب بإيجاز الثورات الناجمة عن تخفيض قيمة العملة في الفصل الخامس، ولكن دون توضيح كافٍ للأهداف التي سعت السلطات لتحقيقها، لا سيما في ما يتعلق بالفئات الشعبية الحضرية المستهدفة مباشرة بهذه الإصلاحات.
واتخذ الحكام تدابير أخرى جرى تفسيرها على أنها مظاهر للتراجع والفساد بهدف حل الأزمة الاقتصادية، مثل زيادة الضرائب، و"الحماية"، والمصادرة، وكانت الرشوة والابتزاز "سمة روتينية سمحت للدولة بالعمل".
وانهار نظام الإقطاع بسبب تحول الأراضي إلى ملكية خاصة، وفي حين حصل أمراء المماليك على وظائف إدارية وقضائية، مما عزز عسكرة المجتمع، فقد جرى تحويل نظام المماليك بأكمله، وأصبح يتسم باللامركزية وتعدد الفاعلين ومراكز القوة والسلطة.
وفي الفصل الثالث "مجتمع في حالة تغير مستمر" يناقش الكتاب الحراك الاجتماعي صعوداً وهبوطاً، إذ صعدت بعض المجموعات إلى الواجهة مستفيدة من تعدد مراكز السلطة واللامركزية، مثل البدو الذين ارتفع شأنهم، ولكن بالمجمل أدى الضيق الاجتماعي إلى زيادة معدل العنف والاحتجاج في المناطق الحضرية.
وفي الواقع، يبدو أن الإشارات إلى حوادث الاحتجاج في عصر المماليك أكثر تواتراً مما ورد في فترات تاريخية أخرى. وتعتمد البنداري على دراسة عن الانتحار والموت الطوعي بقلم ب. مارتيل ثوميان، التي تسمح لنا بقياس الضغط الذي تمارسه السلطات على الناس.
فيسبوك القرن 15
وفي الفصل الرابع يجري عرض أنماط الحراك الاجتماعي التي تم تحليلها في الفصل السابق بما في ذلك التغييرات في الإنتاج الثقافي (الأدب والتاريخ والنصوص الدينية) في أواخر الفترة المملوكية.
وهكذا يجري تقديم "حضور العنصر الشعبي في الثقافة المكتوبة والتوجه البرجوازي"، بما في ذلك السماح لأشخاص من "الطبقة الوسطى" (بالمعنى الاجتماعي الاقتصادي) بإسماع أصواتهم من خلال المشاركة في الإنتاج الثقافي.
ويناقش الفصل كيف أصبحت الصوفية تعبيرًا عن "دمج الثقافة الكلاسيكية والعامية وتعميم الثقافة الشعبية في أواخر العصر المملوكي"، ويتجلى حضور الثقافة الشعبية أيضًا في تغير لغة الكتابة، إذ أصبحت النصوص تكتب باللغة العامية سواءً في النثر أو الشعر الشعبي.
وبرز في هذه المرحلة الاهتمام بتسجيل الحياة اليومية وتفاصيلها، وهو التوجه الذي اعتبرته المؤلفة انعكاساً لمعاناتهم اليومية إلى حد يجعل الناس يرون في تفاصيلهم ونوازلهم اليومية أحداثاً تستحق التسجيل لصعوبة مواجهتها، وهو ما قد يشبه استخدام فيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي في العصر الحديث التي يبالغ فيها كثيرون بالكتابة عن أنفسهم وأيامهم هروباً من مواجهة الحياة الصعبة.
وكذلك أصبحت الكتابة اليومية نوعاً من الاحتجاج على الحكام وتسجيل الاعتراض على سياسات النخبة المملوكية.
وفي الفصل الخامس "بين الشغب والتفاوض: السياسات الشعبية والاحتجاج "، قدمت المؤلفة سردا مفصلا للاحتجاجات الشعبية، مبينة أن السكان الحضريين -بعيدًا عن كونهم كتلة خاضعة- كانوا جزءًا من التحولات التي تحدث في مجتمع المماليك، وشكلوا نوعاً من "الوعي المدني الجديد والحيوية".
وشكل "الحرفيون والعلميون والتجار والأمراء، تحالفات مؤقتة لمجموعة متنوعة من الأسباب من أجل مواجهة حالات معينة"، ولعب العلماء سواء كانوا رفيعي المستوى أو أكثر تواضعًا دورًا رئيسيًا في الاحتجاجات، وأصبحوا أحياناً وكلاء للاحتجاجات أو ممثلين للمحتجين كما في الثورة الدمشقية ضد ارتفاع سعر السكر.
مسار الاحتجاج
ورسم الفصل صورة لمسار الاحتجاج الدمشقي عبر الجامع الأموي والهتافات المعارضة وحتى مشاركة المرأة في الاحتجاج على تخفيض قيمة العملة والضرائب الإضافية ونقص الغذاء، وجرى الاستجابة للاحتجاجات أحياناً وتم قمعها بالعنف في أحيان أخرى، لكن بشكل عام اعتبر المماليك الحكام أن التعبير عن الغضب بالتجمع والصياح قد يشكل تنفيساً يحفظ التوازن ويمنع الانفجار.
وشكلت الاحتجاجات بداية تكوّن رأي عام في المدن يحاول أن يدمج اللانخبة أو العوام في معادلات السلطة وحساباتها وتوازناتها السياسية، ولم تقتصر أسباب الاحتجاج على الأعباء الاقتصادية والظلم؛ إذ حاول المحتجون أيضًا الحفاظ على نظام اجتماعي معين كما هو موضح في الفصل السادس "الاحتجاج والمخيلة الاجتماعية في العصور الوسطى" وشمل ذلك شعور المسلمين تجاه قضايا أخلاقية؛ مثل استهلاك أفراد من النخبة العسكرية المملوكية للكحول والحشيش وهو ما سبب ثورة شعبية.
وغالبًا كانت أعمال الشغب ضد الحكام تقع في مدن المقاطعات، بعيدًا عن سيطرة الحكومة المركزية، ويمكن أن تصبح عنيفة، كما حدث في دمياط عام 1417، ويشير ذلك إلى أن الحشد وليس العلماء هو ما كان يقود الحراك ويقرر ما سيحدث.
وبشكل عام كانت الاحتجاجات ضد مسؤولين من موظفي الطبقة الوسطى وبقي رئيس الدولة -السلطان- دون مساس، واعتبر نوعاً من الملاذ الأخير، وكان فوق اللوم، ومع ذلك جرى استخدام الهجاء والسخرية ضد الحكام على نطاق واسع.
لكن هذا لم يمنع الفصائل الحاكمة من استخدام الحشود الشعبية في سعيهم لانتزاع السلطة من خصومهم، وشملت درجات من المقاومة بالسخرية وحتى الاعتداء على الموظفين الرسميين.
ويعد الكتاب سرداً ممتعاً لأحداث من القرن 15، ويشتمل على تفاصيل لجوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تتشابه في أمور مختلفة مع أحوال عصورنا الحديثة، إنها عبرة الماضي الحاضرة في الواقع

محرر الموقع : 2019 - 05 - 05