أوريان 21: الثورات العربية.. ما العقبات التي تعترض تطلعاتها وماذا يقول التاريخ عن مآلاتها؟
    

من الجزائر إلى العراق تثور الشعوب العربية مجددا.. ما العقبات التي تعترض تطلعاتها؟ وفي ضوء التاريخ ما مآلاتها؟

 

سؤالان ناقشهما الكاتبان الفرنسيان الخبيران في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا آلان غريش وجان بيير سيريني في مقال مشترك لهما بموقع أوريان 21 الفرنسي.

 

يلفت الكاتبان في البداية إلى أن العالم العربي يشهد حاليا الموجة الثانية من الاحتجاجات والانتفاضات التي كانت موجتها الأولى بدأت بتونس في ديسمبر/كانون الأول 2010 وأطاحت بالنظم الدكتاتورية في تونس ومصر وليبيا واليمن وقوضت نظامي البحرين وسوريا، ناهيك عن الاحتجاجات العديدة التي عمت المغرب والجزائر والعراق والسودان.

 

ويوضحان بعد ذلك أن الثورة المضادة حشدت على أثر هذا الحراك قواتها، فجمعت بين القمع وإغداق الأموال وتقديم التنازلات الشكلية في الوقت الذي كان شبح نشوب الحروب الأهلية يدق ناقوس الخطر في نفوس المحتجين.

 

وأورد الكاتبان -مثالا على ذلك- الانقلاب العسكري الذي شهدته مصر في الثالث من يوليو/تموز 2013، والذي موّلته السعودية والإمارات العربية المتحدة، وأظهر قدرة المنظومة القديمة على التأقلم والمقاومة.

 

 

وهم الاستقرار

ومع ذلك، يقول الكاتبان، فإن الأوهام التي كانت تساور البعض، ولا سيما في الغرب، بعودة “الاستقرار” تبددت بعد حين، إذ اشتعلت من جديد نيران الثورة في عام 2019، فشهد السودان انتفاضة شعبية قلبت نظامًا دام ثلاثين سنة، وهبت موجة عارمة من الاحتجاجات في الجزائر فاعترضت سبيل الولاية الخامسة المبرمجة للرئيس المنهك عبد العزيز بوتفليقة، وانتفض الشعب العراقي ضد النظام الذي صنعته واشنطن عام 2003 وأصبح ينعم بتأييد إيران ويركن إلى الطائفية والفساد.

 

كما خرج اللبنانيون إلى الشارع بالدوافع نفسها، مطالبين بأن يرحل كل أقطاب الطبقة السياسية “كلن يعني كلن”، وحتى أن المصريين -يقول الكاتبان- بالرغم من آلية القمع التي تحاصرهم وتضيّق عليهم بشكل لم تشهده البلاد من قبل، فإنهم تظاهروا في سبتمبر/أيلول الماضي -ولو بأعداد محدودة- من القاهرة إلى السويس، ومن الإسكندرية إلى المحلة الكبرى.

 

ويلفت الكاتبان إلى أن دوافع هذه الموجة الثانية لم تختلف عن دوافع الموجة التي سبقتها والتي تتلخص في خضوع هذه الشعوب لحكومات استبدادية ومعاناتها من أوضاع اجتماعية لا تطاق، كما بات الظلم الاجتماعي في قلب هذه الانتفاضات أكثر مما كان في انتفاضات عام 2011، حسب الكاتبين.

 

ولئن كان هذا “الحراك” -كما بات يسمى في كل مكان- قد استخلص، وفقا للكاتبين، بعض العبر من الماضي، فرفض العَسْكرة، بالرغم من القمع العنيف الذي مورس بحقه في العراق أو في السودان، ونأى بنفسه عن محاولات شق صفوفه على أساس طائفي وأدرك تماما أن المواجهة ليست بين “العلمانيين” المزعومين و”الملتحين” المزعومين، فإنه يصطدم اليوم بعقبة كبرى، وبحاجز جسيم كان قد حاول الالتفاف عليه في 2011-2012، ألا وهو ابتكار نظام اقتصادي اجتماعي جديد.

تشغيل الفيديو

 

 

الخلفية التاريخية

بعد هذا العرض الذي حاول فيه الكاتبان وصف ما آلت إليه الأمور في العالم العربي في الوقت الحالي، قالا إن فهم ما يحدث اليوم يتطلب فهم ماضي هذه المنطقة منذ مرحلة إزالة الاستعمار، والنضالات الهادفة لتحقيق السيادة السياسية الفعلية والطموح باستعادة الثروات الوطنية وتشييد اقتصاد وطني مرتكز على قطاع عام قوي وعلى الإصلاح الزراعي.

 

ويؤكد الكاتبان أن هذا المشروع قد تحقق من مصر إلى العراق، ومن الجزائر إلى سوريا، وتجسد في تحسين ظروف العيش لأكثر الفئات فقرا وفي تعميم التعليم والصحة.

 

ولقد واكبت هذه الخيارات -حسب الكاتبين- سياسة خارجية تتسم بالاستقلالية وتطمح لعدم الانحياز، وبالرغم من الثمن الباهظ لهذه الإنجازات والمتمثل بجهاز أمني متربص في كل مكان، وتضييق كبير على الحريات، فإن هذا البرنامج قد طبع العديد من القوى السياسية في الستينيات والسبعينيات، سواءً أكانت في السلطة أم في المعارضة.

 

غير أن الهزيمة العربية عام 1967 في المواجهة مع إسرائيل ووفاة جمال عبد الناصر عام 1970، وهواري بومدين عام 1978، وكذلك الأزمة المتفاقمة للمنظومة الاشتراكية المتمثلة بالاتحاد السوفيتي، كل ذلك شكل منعطفا تاريخيا غيّر الكثير من الأمور، بحسب الكاتبين.

 

تأثير العولمة والمؤسسات الاقتصادية الدولية

وعلى الصعيد الدولي، كان تأثير العولمة وانتصار الليبرالية الاقتصادية الجديدة (النيوليبرالية) قد فرضا “إجماع واشنطن” وخطط صندوق النقد الدولي طريقا وحيدا للتنمية. “ما من بديل آخر!”، هذا ما كانت تعلنه رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر على الملأ.

 

وباتت الخطط المعدة في مطبخ صندوق النقد الدولي التي يصدق عليها كل من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، تفرض على البلدان دون أية شفقة، كما باتت النخب توجّه أنظارها باتجاه واشنطن، فتخلّت عن المطالب القومية “التي عفا عليها الزمن” من قبيل دعمها للقضية الفلسطينية. ولم تصبح الحريات العامة أفضل حالاً من ذي قبل، لأن الشرطة السياسية ظلت تتحكم بكل الأنشطة السياسية، حسب الكاتبين.

 

وهنا يقول غريش وسيريني إن هذا النموذج النيوليبرالي المرتكز على التجارة الحرة كان له أثر فادح على الشعوب، إذ لم يضطلع القطاع الخاص بمهام القطاع العام، بل استثمر كل ما نهبه في الملاذات الضريبية، مما جعل الملايين من الشباب من ذوي المؤهلات المهنية والذين لم يجدوا فرص عمل لائقة في بلادهم، يهاجرون مجازفين بحياتهم أحيانا.

 

ولفتَا إلى أن صدمة أسهم البورصة عام 2008 أكدت وجود أزمة، لا تقتصر على العالم العربي فحسب، كما تبين من الأوضاع في اليونان أو تشيلي أو إيران. وبات التغير المناخي يتهدد بعض المناطق في العالم العربي التي قد تتحول إلى بقع غير قابلة للعيش إطلاقا.

 

أنظمة ضعيفة

وعندما هبّت الموجة الثانية من الثورات العربية، كانت أنظمة الحكم قد ازدادت وهنا -حسب الكاتبين- وكان انهيار أسعار النفط عام 2014 قد سحب منها شبكة الأمان.

 

وبات التشكيك يطال الطبقة السياسية بأسرها حيث كل قطب فيها متواطئ مع الآخرين، وهو تواطؤ كان واضحا في لبنان والعراق بين كل الأحزاب التي غدت غنية، وذلك بغض النظر عن الاختلافات السطحية فيما بين أقطاب هذه الطبقة، حسب الكاتبين.

 

 

الطريق الوعر

فما العمل في هذه الحال، يسأل الكاتبان، ليجيبا بأنه خلافا لما يعتقد العديد من المسؤولين الغربيين، لن تكون هناك عودة للاستقرار دون تغييرات سياسية عميقة.

 

فالإبقاء على النخب الحالية في الحكم -بحسب غريش وسيريني- يعني انتشار الفوضى العارمة، تلك الفوضى التي تستفيد منها أكثر التنظيمات تطرفا، سواءً القاعدة أو الدولة الإسلامية (داعش) أو أي حركة أخرى لم تظهر بعد إلى الوجود.

 

أما الطريق الآخر -وهو أكثر وعورة وازدحاما بالعقبات- فهو طريق يستند إلى ثقافة تعددية جديدة تبصر النور حاليا وإلى تنمية اقتصادية وطنية، تلبي احتياجات الشعوب، مما يفترض إجراء قطيعة مع المنطق النيوليبرالي والتجارة الحرة التي لا تعرف أي قيد أو شرط.

 

ويختتم الكاتبان بأن السؤال المطروح اليوم، على كل من فرنسا أو الاتحاد الأوروبي هو ما إذا كانا سيواكبان هذه الخيارات البديلة أم أنهما سيتشبثان بنظريات بالية، لا بد أن تزيد من انتشار الفوضى التي سيدفعان بدورهما ثمنها في نهاية المطاف. 

محرر الموقع : 2019 - 11 - 25