بعد 10 سنوات على “الربيع العربي”.. لا يوجد سبب وجيه للتفاؤل بآفاق الشرق الأوسط
    

مارك لينش-(فورين أفيرز-ترجمة علاء الدين أبو زينة، الغد العربي)- ثمة القليل، إذا كان ثمة شيء، من الاحتفالات المخطط لإقامتها لإحياء الذكرى العاشرة للانتفاضات التي اجتاحت العالم العربي في أواخر العام 2010 وأوائل العام 2011. ويبدو أن أيام الشاشات التلفزيونية المليئة بصور الحشود التي تهتف، “الشعب، يريد، إسقاط النظام”، أصبحت وكأنها جزء من تاريخ قديم. وقد تحطمت الآمال المبكرة بالتغيير الثوري بعد اصطدامها بالقوة الفظة للانقلابات العسكرية، والحروب الأهلية، والدول المنقسمة. وفي العام 2021، ربما يكون هناك القليل ممن يعتقدون، عالميًا، بشيء سوى أن الانتفاضات العربية قد فشلت.

ومن السهل فهم السبب في جاذبية هذه الفكرة التي روجت لها بحماس الأنظمة الاستبدادية والواقعيون في السياسة الخارجية على حد سواء. وهي تعني عودة إلى العمل كالمعتاد. وقد قبلت كل من إدارتي أوباما وترامب ضمنيًا بهذا الرأي، وحولتا أنظارهما إلى أهداف أخرى في المنطقة -الأولى إلى المفاوضات النووية مع إيران، والأخيرة إلى تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل.

ومع ذلك، فإن هذا الاعتقاد هو الأحدث فقط في واقع الأمر في سلسلة من الاستنتاجات المتسرعة السابقة لأوانها. قبل العام 2011، اعتبر معظم المحللين استقرار أنظمة استبدادية عربية شأناً مفروغاً منه. وكان هذا خطأ. وبينما أدى الضغط الشعبي إلى طرد أربعة قادة ظلوا طويلاً في السلطة -زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن- اندفع بعض المراقبين إلى افتراض أن موجة لا يمكن وقفها من الديمقراطية قد وصلت أخيراً؛ وحذر آخرون من أن التحول الديمقراطي في المنطقة سيفتح الباب أمام هيمنة إسلامية. وكلتا الرؤيتين كانتا خاطئتين. وفي العام 2012، اعتقد معظم المراقبين أن نظام بشار الأسد السوري قد انتهى. وكان هذا خطأ أيضاً. وفي العام 2013، جادل معلقون بأن الأحداث ستعيد مصر إلى مسارها نحو الديمقراطية. وكان هذا الاستنتاج خاطئاً مرة أخرى.

في خضم اللحظة الثورية التي تشكلت قبل عقد من الزمان، شعرتُ شخصياً وكأن المنطقة قد تغيرت إلى الأبد. فقد تحطم جدار الخوف الأوتوقراطي، وبدا مقدّراً للمواطنين العرب الممكّنين أن لا يتسامحوا أبداً مع الحكم الاستبدادي مرة أخرى. لكنّ تلك الآمال تحطمت في غضون سنوات قليلة فقط. انهارت التحولات الهشة في ليبيا واليمن لتتحول إلى حروب أهلية. وسقطت سورية في مزيج مرعب من التمرد والحرب الدولية بالوكالة. وفي نهاية المطاف، عاد قادة في المنطقة إلى الحكم بنفس الطرق السابقة.

ومع ذلك، يبدو الإجماع على أن الانتفاضات العربية انتهت بالفشل سابقاً لأوانه بالمثل، ومن المرجح أن يثبت خطأه هو الآخر في الوقت المناسب. لا ينبغي قياس آثار الانتفاضات بالأنظمة التي أطيح بها أو بإجراء انتخابات ديمقراطية، على الرغم من أن سجلها في هذه المجالات ليس قليلاً. إن جلوس نفس النوع من القادة مرة أخرى على عروش الشرق الأوسط بعيد كل البعد عن أن يكون دليلاً على فشل الانتفاضات. لم تكن الديمقراطية سوى جزء واحد فقط من مطالب المحتجين. كانت الحركة الشعبية منخرطة في صراع امتد لأجيال، والذي رفضت فيه نظامًا إقليميًا لم ينتج عنه سوى الفساد، والحكم الكارثي، والفشل الاقتصادي.
وفقًا لهذا المعيار، أعادت الانتفاضات بعمق تشكيل كل بُعد يمكن تصوره للسياسة العربية، بما في ذلك المواقف الفردية، والأنظمة السياسية، والأيديولوجيات، والعلاقات الدولية. وقد تخفي أوجه التشابه السطحية مدى التغيير، لكن الشرق الأوسط اليوم سيكون غير قابل للتمييز بالنسبة للمراقبين في العام 2010. فقد ضمنت القوى التي انطلقت في العام 2011 فعليًا أن يشهد العقد التالي تحولات أكثر عمقًا -تغييرات من شأنها إرباك أي سياسة قائمة على العودة إلى الطرق القديمة.

ما الذي حدث حقّاً؟

الآن، بعد عقد من الآمال المحطمة، من السهل أن ننسى مدى قوة ومفاجأة اللحظة الثورية التي بدأت في كانون الأول (ديسمبر) 2010 حقًا. بحلول أواخر العام 2010، كان من الواضح أن العالم العربي يعاني من إحباط شعبي متراكم وتفاوت اقتصادي متزايد، لكن حكام المنطقة اعتقدوا أنهم قادرون على سحق أي تهديد محتمل. وكذلك فعل الأكاديميون الذين يدرسونهم والناشطون الذين يواجهونهم.

لم يكن أحد مستعدًا لاستيعاب الحجم الهائل والسرعة والكثافة التي ميزت الاحتجاجات التي اندلعت في وقت واحد في جميع أنحاء المنطقة. وقد سرّعت المحطات الفضائية العربية، مثل قناة “الجزيرة”، ومنصات التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك” و”تويتر”، تلك العملية، وبثت الصور والأفكار والعواطف بسرعة عبر الحدود. والأنظمة التي كانت مستعدة جيدًا للتعامل مع الاضطرابات المحلية المنعزلة، سرعان ما طغت عليها الأعداد الهائلة من المواطنين الذين اجتاحوا الشوارع ورفضوا مغادرتها. وعندما رفضت بعض الجيوش قتل مواطنيها من أجل الدفاع عن رؤسائها المحاصرين، أعلن الشعب النصر.

أدت تلك الانتصارات التي تحققت في تونس ومصر، حيث نجحت الاحتجاجات الجماهيرية في طرد المستبدين الراسخين وتمهيد الطريق للانتخابات، إلى تعبئة المتظاهرين في البلدان العربية الأخرى. ومن الصعب استعادة سحر ذلك الوقت؛ ذلك الإحساس الجديد بروح المجتمع الذي تشكل في فوضى ميدان التحرير في القاهرة، وشارع الحبيب بورقيبة التونسي، وساحة التغيير اليمنية وغيرها من الساحات. في ذلك الحين، بدا كل شيء ممكناً. وبدا التغيير حتمياً لا مفر منه. وكان الأوتوقراطيون يركضون خائفين، ولا شيء -لا الدعم العسكري الأميركي، ولا الأجهزة الأمنية التي كانت تبدو ذات يوم قاهرة لا تُقاوم، ولا مخاوف المتظاهرين وانقساماتهم- بدا قادراً على وقف الحركة الشعبية.

ولكن، لم يستطع أي بلد آخر أن يسلك نفس الطريق الذي سلكه الرواد التونسيون والمصريون. فقد دعمت القوى الإقليمية الأنظمة القديمة في جهودها لتدمير الانتفاضات، ولم يفعل الغرب شيئًا لوقف هذه الجهود. واعتمدت الحكومات الفقيرة، مثل الأردن والمغرب، على الدعم المالي والسياسي من دول الخليج للتغلب على حركاتها الاحتجاجية الأصغر، مع إقرار إصلاحات متواضعة لإرضاء مواطنيها. وألّب معمر القذافي في ليبيا القوة الكاملة لجيشه على المتظاهرين، مما أدى إلى تصعيد سريع بلغ ذروته في الحرب الأهلية والتدخل الدولي. وسقط اليمن في مأزق طويل ودموي مع انقسام جيشه بعد أشهر من الاحتجاجات.

بينما استمرت الصراعات وتراجع الزخم الثوري، انتصرت في النهاية الميزة العسكرية والمالية الساحقة لمعظم الأنظمة. ثم سعت الحكومات الباقية إلى الانتقام ومعاقبة النشطاء الذين تجرأوا على تحدي حكمها. وكانت تهدف إلى استعادة الخوف وسحق الأمل. ولم تفعل الولايات المتحدة الكثير للوقوف في الطريق.

ولم يكن هذا الانقلاب في الحظوظ أكثر وضوحًا مما هو في سورية. هناك، تصاعد ما بدأ كحركة احتجاجية سلمية ضد حكومة الأسد ببطء إلى حرب أهلية عندما قام النظام بقمع المتظاهرين بعنف. وكانت لانزلاق البلاد إلى الصراع تكاليف لا تعد ولا تُحصى: مئات الآلاف من القتلى، وملايين اللاجئين، وانتشار الأشكال الفتاكة الجديدة من الطائفية، وتنشيط الحركات المتشددة. ووفرت الفظائع التي حدثت في سورية فزاعة مفيدة للحكام المستبدين. وأصبحوا يشيرون إلى هذا على أنه ما قد يحدث لكُم إذا عدتم إلى الشوارع.

وبحلول العام 2013، وبسبب انزلاق سورية في الفوضى والإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي، ترسخ إجماع جديد. لقد انتصر النموذج القديم، وفشلت الانتفاضات، وتحول الربيع العربي إلى شتاء عربي.

الإسلاميون

ثمة القليل من الديناميات الأخرى التي يمكن أن توضح الآثار التحويلية للانتفاضات أفضل من حظوظ الجماعات الإسلامية السائدة. فقد تم الترحيب بالإسلاميين في الأصل باعتبارهم لاعبين مهمين في الأنظمة الديمقراطية الجديدة، لكن العديد منهم تعرضوا للقمع في نهاية المطاف على يد الأنظمة الناشئة، أو أنهم كافحوا للملاحة وتلمُّس الطريق في الديمقراطيات الانتقالية. وقد أضاف هذا المسار القوسي المزيد إلى تعزيز الشعور بأن الانتفاضات قد فشلت.

في العقد الذي سبق العام 2011، كان الإسلاميون المرتبطون بجماعة الإخوان المسلمين، الحركة المؤثرة التي تأسست في مصر في عشرينيات القرن الماضي، هم القوة المعارضة المهيمنة في العديد من الدول العربية. وقد جعلتهم مهارتهم التنظيمية، وقدرتهم على تقديم الخدمات الاجتماعية، وسمعتهم كأناس متّسمين بالنزاهة، واستخدامهم النداء الديني، قوة سياسية هائلة. وابتداءً من التسعينيات، أنتج مفكرو الإخوان حججًا متقنة لإثبات توافق الإسلام مع الديمقراطية، وانتقدوا الحكم الاستبدادي للأنظمة العلمانية القائمة.

لم يلعب الإسلاميون دورًا مهمًا في الأيام الأولى للانتفاضات. في تونس، كانت الحكومة قد أقصت هذه الجماعات إلى حد كبير من الحياة العامة. وفي مصر، انضم الإسلاميون إلى احتجاجات ميدان التحرير في وقت متأخر. ولكن عندما أتيحت لهم الفرصة، دخل الإسلاميون بسرعة إلى الساحة السياسية. وحقق حزب النهضة في تونس وجماعة الإخوان المسلمين في مصر انتصارات هائلة في أول انتخابات انتقالية في هذين البلدين. وشكل نظيرهما في المغرب، حزب العدالة والتنمية، سلسلة من الحكومات بعد انتصاراته الانتخابية في العامين 2011 و2016. وانضم الإسلاميون الليبيون أيضًا إلى اللعبة الانتخابية -ولو بنجاح أقل. ولعبت جماعة الإخوان المسلمين السورية دورًا تنظيميًا حاسمًا، معظمه من الخارج، في الانتفاضة ضد بشار الأسد. وبحلول العام 2012، بدا أن الإسلاميين في صعود.

لكن هذه الجماعات أثبتت كونها أهدافاً جذابة لحملات القمع الاستبدادية وسياسات القوة الإقليمية أيضاً. وقامت الأنظمة بتسويق رد الفعل المعادي للديمقراطية بعد العام 2011 في الغرب، جزئيًا كرد فعل على استيلاء الإسلاميين المزعوم على السلطة. وقد استخدم الجيش المصري مثل هذه الحجج لإضفاء الشرعية على أحداث تموز (يوليو) 2013. وتبنّى حزب النهضة في تونس استراتيجية تقوم على التقييد الذاتي؛ فتنحى رئيس وزرائه لصالح تكنوقراطي لنزع فتيل الصراع السياسي المتصاعد بسرعة. وبدأت بعض الدول التي اعتبرت جماعة الإخوان المسلمين تهديدًا لها في قمع الحركة وإعلانها منظمة إرهابية. ورداً على ذلك، كثفت دول أخرى في الإقليم دعمها للمجموعة، ورحبت بأعضائها الفارين من القمع، وقدمت المساعدة للفروع التي ما تزال نشطة على الأرض في ليبيا وأماكن أخرى.

بدلاً من الفوز باللعبة الديمقراطية، فشلت معظم الجماعات الإسلامية بفضل مزيج من أخطائها الخاصة والقمع الحكومي. ولم تعد جماعة الإخوان المسلمين المصرية -الأكبر والأكثر نفوذاً من بين تلك الجماعات- موجودة في شكل يمكن التعرف عليه. ويقبع عشرات الآلاف من أعضائها في السجون، وقادتها الباقون إما ماتوا أو يعيشون في المنفى، وأموالها صودرت على يد الحكومة المصرية. وفي بلدان أخرى، قطعت الحكومات شوطًا طويلاً نحو تفكيك جماعة الإخوان، وتركتها مجزأة ومنقسمة. وفقد حزب العدالة والتنمية الإسلامي المغربي بريقه بعد سنوات من الحكم في ظل القيود التي وضعها النظام. وتبرأ حزب النهضة التونسي بوضوح من الإسلاموية، وأعاد تعريف نفسه باعتباره حزباً يعتنق مبدأ الديمقراطية الإسلامية. وباستثناء الكويت، بالكاد تعمل الحركات الإسلامية في معظم دول الخليج. وأصبح الإسلام السياسي السائد الحديث الآن ظلاً لما كان عليه في السابق.

وللإسلاموية العنيفة قصة أخرى. في البداية، تفاجأ تنظيم القاعدة وأمثاله من الانتفاضات. وجعل النجاح السريع للاحتجاجات السلمية الحجة القائلة بأن الجهاد العنيف وحده هو الذي يمكن أن يحدث التغيير تبدو متطرفًة. لكن الحرب السورية أنقذتهم. في وقت مبكر من الصراع، أطلق الأسد سراح كادر من المتشددين من السجن في محاولة لتصوير الحرب على أنها صراع ضد الإرهاب. وانضمت إليهم لاحقًا فلول ما كان يعرف آنذاك بتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، والذي نقل بعض قادته ومقاتليه إلى سورية للانضمام إلى المعركة ضد الأسد. ومع تحول الانتفاضة إلى تمرد، قامت الحكومات من داخل المنطقة وخارجها بنقل الأسلحة والأموال إلى الجماعات المتمردة. وعلى الرغم من أن الحكومات الغربية حاولت فحص المساعدات وتوجيهها نحو الشركاء المعتدلين، أظهر بعض الآخرين القليل من ضبط النفس. وقد وجهت بعض الدول العربية وتركيا المساعدة إلى الجماعات الإسلامية المسلحة وغضت الطرف عن الدعم المالي الخاص الذي أرسله مواطنوها لأطراف الصراع. وذهبت هذه الأموال في أغلبيتها الساحقة إلى الجماعات الأكثر تطرفاً، مما أدى إلى قلب التوازن داخل التمرد.

وجاء رد الفعل بسرعة. في العام 2013، انقسم الإسلامويون المتشددون في سورية بدايةً حول إعلان إقامة “الدولة الإسلامية في العراق وسورية”، أو “داعش”، لكن التنظيم سرعان ما وجه أسلحته ضد بقية المعارضة. واجتاح “داعش” شرق سورية وغرب العراق، ومحا الحدود وأعلن نفسه –بطريقة مسرحية- دولة الخلافة الجديدة. وأدت الحملة الذكية التي أدارها التنظيم على وسائل التواصل الاجتماعي ورسائله المروعة بطريقة استثنائية، إلى جانب نجاح عسكري واضح حققه على الأرض، إلى اجتذاب عشرات الآلاف من المؤيدين إلى صفوفه وألهم الهجمات في الخارج. ووجدت الحركات الإسلامية السائدة نفسها الآن محاصرة بين رفضها طويل الأمد للجهاد العنيف وبين حماس جمهورها للجماعات المتشددة العنيفة مثل “داعش”. كيف يمكن لجماعة الإخوان المسلمين المصرية أن تستمر في الدعوة إلى السياسة السلمية بينما لم تؤد مشاركتها الانتخابية سوى إلى تعرضها لقمع شرس وكارثة تنظيمية، بينما حقق عنف “داعش” نتائج مذهلة؟

الحركات الإسلامية بشكل جذري. فقد ارتفعت حظوظ المنظمات التي شاركت في السياسة الانتخابية الرسمية أولاً، ثم انهارت وتحطمت. وفي المقابل، عانى المتشددون من نكسات خطيرة، لكنهم ما يزالون يشكلون قوة سياسية وأيديولوجية قابلة للحياة: مع بقاء عدد قليل من الحركات الرئيسية كصمامات أمان، والصراعات الراسخة المتخندقة التي توفر فرصًا كبيرة للتعبئة، ما يزال قيام المزيد من التمردات الجهادية ممكناً.

المنطقة التي صنعتها الثورة المضادة

لم تكن الجماعات الإسلامية وحدها هي التي رأت حظوظها وهي تأخذ منعطفات حادة في أعقاب الانتفاضات العربية. بدا أن تطلعات المحتجين الديمقراطية تؤذِن بدور جديد للولايات المتحدة -واحدٍ ربما يفي بمضامين خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما الشهير في القاهرة، والذي كان يعِد بـ”بداية جديدة” للعلاقات الأميركية مع المنطقة. لكن الواقع، في الحقيقة، كان مختلفًا كثيرًا.

تحدت الانتفاضات العربية النظام المدعوم من الولايات المتحدة بالكامل، ما أدى إلى تسريع انسحاب واشنطن من المنطقة. ويعود فك الارتباط الأميركي مع المنطقة إلى العديد من الأسباب، بما فيها الفشل الذريع الذي مُني به مشروع غزو العراق في العام 2003، والتحولات في الاعتماد على الطاقة، والحاجة الاستراتيجية إلى التوجه نحو آسيا، والنفور الداخلي من الحروب البعيدة. لكن الانتفاضات قوضت بشدة التحالفات الأساسية للولايات المتحدة، وشجعت القوى المحلية على انتهاج سياسات تتعارض مع سياسات واشنطن، ودعت المنافسين العالميين، مثل الصين وروسيا، إلى منطقة كانت أحادية القطب ذات مرة.

ربما كان احتضان الولايات المتحدة للانتفاضات بطريقة أكثر قوة سيساعد على ترسيخ المزيد من التحولات الديمقراطية. لكن جهود إدارة أوباما أثبتت كونها فاترة وغير فعالة، وتركت النشطاء وهم يشعرون بالتخلي عنهم، بينما جعلت الحلفاء المستبدين يشعرون بأنه يتم التخلي عنهم هم أيضاً في الوقت نفسه. وأدى إحجام الإدارة عن التصرف بقوة أكبر في سورية وسعيها الحازم للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران إلى مزيد من نفور شركاء الولايات المتحدة في المنطقة. ونتيجة لذلك، خلال معظم العقد الماضي، عمل حلفاء الولايات المتحدة المفترضون في المنطقة ضد السياسات الأميركية، بشكل علني في كثير من الأحيان.

وفي المقابل، شاركت إدارة ترامب هؤلاء الحلفاء في النظرة العالمية، بما في ذلك ازدراؤهم للديمقراطية العربية والصفقة الإيرانية. لكن سياساتها أثبتت أنها لم تعد مطَمئنة في كثير من الأحيان. وكان عدم رد الرئيس دونالد ترامب على الهجوم الصاروخي الإيراني في العام 2019 على مصفاة بقيق النفطية السعودية، على سبيل المثال، والذي أدى إلى تعطيل ما يقرب من خمسة في المائة من إنتاج النفط العالمي، موقفاً صدم المنطقة. وفي معظم القضايا الإقليمية، بدا أن الولايات المتحدة في عهد ترامب لا تمتلك أي سياسة على الإطلاق. وبينما يتلاشى الوجود الأميركي في المنطقة، كانت قوى الشرق الأوسط عاكفة على تشكيل نظام جديد خاص بها.

بعض أجزاء هذا النظام الإقليمي البديل مألوفة. كان موت حل الدولتين الإسرائيلي-الفلسطيني قادماً على الطريق منذ وقت طويل. وانتشر الصراع بين إيران وخصومها من العرب السنة مثل السرطان، لكنه ظل يتبع خطوطًا مألوفة منذ الأعوام الأولى من القرن. وزادت إيران من استخدام القوى بالوكالة، خاصة في العراق وسورية، واحتفظت بنفوذها الإقليمي على الرغم من انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي وحملة “الضغط الأقصى”. وأرسل هجوم طهران على بقيق رسالة إلى دول الخليج مفادها أن أي صراع محتمل سيكون مكلفًا. بل إن حملة الهجمات المستمرة على القوات الأميركية في العراق التي تشنها الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران دفعت وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى التحذير من أن الولايات المتحدة قد تتخلى عن سفارتها في بغداد -وهو حلم يراود إيران منذ وقت طويل.

كان التغيير الحقيقي في المنطقة بعد الانتفاضة هو ظهور خط صدع داخل العالم السني نفسه، والذي يمتد عبر الخليج والشام وشمال إفريقيا. ومع وجود الولايات المتحدة إما على الهامش أو مهووسة بإيران، خاض السنة الطامحون إلى القيادة العربية صراعات بالوكالة عبر الخريطة الإقليمية برمتها. ودعمت هذه الكتل السنية المتنافسة جماعات متنافسة في كل عملية انتقال سياسي وحرب أهلية تقريبًا، محولة التنافسات السياسية المحلية إلى فرص لخدمة التنافس الإقليمي. وكانت الآثار مدمرة: تمزُّق السياسة المصرية والتونسية؛ وانهيار المرحلة الانتقالية في ليبيا ما بعد القذافي؛ وانقسام المعارضة السورية.

لا شيء يجسد الأنماط الفوضوية لهذا الشرق الأوسط الجديد متعدد الأقطاب أفضل من الخلاف السعودي الإماراتي مع قطر في العام 2017، والذي حدث ردًا على دعم قطر المفترض لجماعات إسلامية. وقد أثر الخلاف الدبلوماسي على مجلس التعاون الخليجي الذي كان في يوم من الأيام أكثر الهيئات متعددة الأطراف فعالية في المنطقة، وأعاق جهود الولايات المتحدة لبناء جبهة موحدة مناهضة لإيران. وبدلاً من الخضوع للضغوط، اعتمدت قطر ببساطة على الدعم الإيراني والتركي والحماية الأميركية (تستضيف الدوحة قاعدة العديد الجوية الضخمة التي تستخدمها الولايات المتحدة)، وعلى مواردها المالية الهائلة. وقد استقر هذا الحصار في نهاية المطاف على واقع جديد شبه دائم، لكنه ليس خطيرًا بشكل خاص؛ حيث تدور التوترات في الغالب من خلال المنافسة بالوكالة في ليبيا والسودان وأماكن أخرى. ويُظهر عدم قدرة الولايات المتحدة على إجبار حلفائها على حل خلافاتهم والتعاون ضد إيران مدى تراجع نفوذها في المنطقة منذ العام 2011.

علاوة على ذلك، دعا هذا الخلاف الخليجي الداخلي إلى ظهور مسعى تركي جسور إلى قيادة المنطقة. في شمال سورية، أعاد الجيش التركي ترسيم حدود المنطقة بحكم الأمر الواقع، ومارس ضغوطًا على الوحدات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، والتي كانت كافية لإجبار القوات الأميركية على الانسحاب. وأتْبعت تركيا هذا النجاح بتدخل عدواني في ليبيا بهدف مواجهة ما تعتبره دعما مصريا وإماراتيا لخليفة حفتر، قائد القوات العسكرية المعارضة للحكومة المؤقتة التي تعترف بها تركيا وقوى أجنبية أخرى. وكان التوسع العسكري التركي، ودعم الجماعات السنية التي تخلت عنها الدول العربية الراعية، كلها عوامل أدت إلى ظهور محور إقليمي جديد شق طريقه عبر القسمة الشيعية-السنية.

كانت الولايات المتحدة غير مرئية تقريبًا في معظم هذه الصراعات. في عهد ترامب، الذي ركزت إدارته على إيران ولم تكن مهتمة بالفروق الدقيقة في السياسة الإقليمية، اختفت واشنطن إلى حد كبير كجهة فاعلة رئيسية، حتى في مناطق مثل العراق وسورية، حيث ما تزال القوات الأميركية منتشرة. وبعيدًا عن تشجيع التغيير الديمقراطي -أو حتى الدفاع عن حقوق الإنسان- اختار ترامب بدلاً من ذلك الاعتماد على شركاء الولايات المتحدة في المنطقة لتشكيل تحالف عريض ضد إيران. ومع ذلك، في غياب الوساطة الأميركية في أماكن أخرى، أدت تدخلات الجهات الفاعلة الإقليمية إلى إطالة أمد النزاعات القائمة، مع القليل من الاهتمام بمعاناة الناس الموجودين على الأرض. وعلى الرغم من أن المتقاتلين ضيعوا منذ فترة طويلة هدفهم الأصلي، فإن العنف الراسخ ما يزال مستمراً من خلال التدخل الإقليمي واقتصاديات الحرب المحلية.

ما الذي سيأتي؟

على الرغم من نعي الانتفاضة العربية السابق لأوانه وإرثها المظلم، لم تكن الموجة الثورية للعام 2011 مجرد سرابٍ عابر. الآن، بعد عشرة أعوام، شرعت الواجهة الاستبدادية للمنطقة في التصدُّع مرة أخرى. وأدت انتفاضات كبرى مؤخرًا إلى منع إعادة انتخاب الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، وأفضت إلى الإطاحة بالزعيم السوداني الذي حكم لفترة طويلة، وتحدت الأنظمة السياسية الطائفية في العراق ولبنان. ولا يكاد يتمكن لبنان من تشكيل حكومة بعد عام من الاحتجاجات والكارثة المالية وتداعيات انفجار غير مفهوم في ميناء بيروت. كما شهدت بعض الدول انفتاحاً جديداً وعرضت رغبة في التغيير.

بدت هذه الأحداث في البداية محيرة. ألم يكن من المفترض أن يعيد انتصار حكاما مستبدين الاستقرار لأنظمتهم؟ ألم تكن الجماهير العربية مهزومة ومرهقة ويائسة؟ في واقع الأمر، لم يكن ما بدا وكأنه النهاية سوى منعطف آخر فحسب من دورة لا هوادة فيها. في الحقيقة، كانت الأنظمة التي يُفترض أنها توفر الاستقرار هي الأسباب الرئيسية لعدم الاستقرار. كان فسادها، واستبدادها، وحكمها الفاشل، ورفضها الديمقراطية، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان هي التي دفعت الناس إلى الثورة في المقام الأول. وبمجرد أن بدأت الانتفاضات، أدى القمع العنيف الذي تعرضت له إلى تأجيج الاستقطاب الداخلي والحروب الأهلية، وهو ما أفضى بدوره إلى تفاقم الفساد والمشاكل الاقتصادية. وبذلك، بما أن هذه الأنظمة تشكل العمود الفقري للنظام الإقليمي، فلن يكون هناك استقرار.

الآن، يبدو اندلاع المزيد من الاحتجاجات الجماهيرية حتمياً لا مفر منه. ثمة، ببساطة، الكثير من المحركات لعدم الاستقرار السياسي، والتي تجعل من الصعب، حتى بالنسبة لأكثر الأنظمة قسوة، البقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى. وقد أدى قدوم جائحة “كوفيد -19″، وانهيار أسعار النفط، والانخفاض الحاد في تحويلات العمال المهاجرين إلى زيادة الضغوط الجديدة المكثفة على الاقتصادات الضعيفة مسبقاً بطريقة كارثية. وتستمر الحروب المستعرة في ليبيا، وسورية، واليمن في إنتاج اللاجئين، والأسلحة والتطرف، بينما تجتذب التدخل الخارجي. ويمكن أن تسوء الأمور أكثر. فقد تتصاعد المواجهة الأميركية المتوترة مع إيران فجأة إلى حرب ساخنة؛ أو قد يؤدي انهيار للسلطة الفلسطينية إلى اندلاع انتفاضة أخرى.

هذا هو السبب في أن معظم الأنظمة في المنطقة، على الرغم من تأكيدها العنيد لنفسها، تشعر بانعدام الأمن بوضوح. الحكومة المصرية تسحق كل علامة محتملة لقيام اضطرابات شعبية. ولم تتعاف أنقرة أبدًا من صدمة محاولة الانقلاب الفاشلة في العام 2016. وقادة إيران مهووسون بالمحاولات الخارجية لإثارة الاضطرابات في بلدهم، في حين يكافحون للتعامل مع العقوبات الاقتصادية. وما تزال الدول تعتقل المعارضين. وليست هذه كلها من سلوكيات الحكومات الواثقة. بالنسبة لهذه الحكومات، كان الدرس المستفاد من العام 2011 هو أن التهديدات الوجودية -مثل الديمقراطية- يمكن أن تظهر من أي مكان وفي أي وقت. ويدفعها جنون الارتياب، بدوره، إلى انتهاج السياسات نفسها التي تغذي مشاعر السخط الشعبي. وبفضل ما يقرب من عقد من القمع الحكومي المتزايد، لم يعد المجتمع المدني والمؤسسات السياسية التي قد توجه الإحباط الشعبي في العادة موجودة. وعندما يصل هذا الغضب حتمًا إلى درجة الغليان، فإن تجلياته ستكون أكثر دراماتيكية من أي وقت مضى.

من غير المرجح أن تشبه الاحتجاجات المستقبلية انتفاضات العام 2011. فقد تغيرت المنطقة كثيراً. لقد تعلم الأوتوقراطيون كيفية احتواء المتحَدّين، وإحباطهم وهزيمتهم. ومن غير المرجح أن تفاجئ الاضطرابات الداخلية أو العدوى الإقليمية الأنظمة في حالة من الغفلة وإهمال الحذر. ويغلب أن لا تمتنع الحكومات عن استخدام القوة ضد المواطنين في المراحل الأولى من الاحتجاج. لكن المتظاهرين المحتملين تعلموا أيضًا دروسًا قيمة. على الرغم من أن العديد من الجماهير العربية محبطة ومكسورة، إلا أن الحركات الثورية الأخيرة في الجزائر والعراق ولبنان والسودان أثبتت أن الانضباط والالتزام ما يزالان حاضرَين شعبياً. وفي جميع هذه البلدان الأربعة، أثبت المواطنون أنهم قادرون على إدامة التعبئة اللاعنفية لأشهر متتالية، على الرغم من القمع والاستفزازات.

كما أن البيئة السياسية في الشرق الأوسط أصبحت مستقطبة أيضًا في محاور متنافسة، بطريقة تحول دون وجود ذلك النوع من الهوية عبر-الوطنية التي سمحت للانتفاضات العربية بالانتشار بسهولة. الآن، على عكس العام 2011، لا يوجد جمهور عربي موحَّد. ووسائل الإعلام الإقليمية، التي كانت ذات يوم مصدرًا للوحدة، تفتتت. وأصبح يُنظر إلى القنوات الإعلامية المؤثرة الآن على أنها أدوات منحازة لخدمة سياسة البلدان التي تديرها، وليس كمنصة للنقاش المشترك. وفي الأثناء، تعرضت وسائل التواصل الاجتماعي العربية للاستعمار الكامل من خلال حرب المعلومات والروبوتات والبرمجيات الضارة، ما خلق بيئة سامة تكافح فيها التحالفات الجديدة العابرة للأيديولوجية من أجل الاندماج. لكن هذه الصعوبات، كما توحي التفاعلات بين المحتجين الجزائريين والسودانيين، وصلابة الحركات العراقية واللبنانية، تظل قابلة للتغلب عليها.

إضافة إلى ذلك، أصبحت البيئة الدولية اليوم، بالمقارنة مع العام 2011، أقل انفتاحًا على موجة ثورية جديدة، ولكنها أيضًا في وضع يجعلها أقل قدرة على منعها. وفي حين كافحت إدارة أوباما للتوفيق بين القيم الديمقراطية والمصالح الاستراتيجية، دعمت إدارة ترامب بالكامل حكاما وشاركتهم في وضع حد للاحتجاج الشعبي. ولن يتطلع أحد في الشرق الأوسط اليوم إلى واشنطن للحصول على إشارات أو إرشادات. وتفهم الأنظمة العربية والمتظاهرون على حد سواء أنهم سيكونون وحدهم.

لا يعني القول إن موجة أخرى من الانتفاضات مقبلة على الطريق المصادقة على نظرة حتمية للتاريخ، والتي ينتصر فيها الجانب المحق حتمًا. بعيداً عن ذلك، سوف تحدث الانتفاضات، وعندما تفعل، فإنها ربما تؤدي إلى تحطيم الأنظمة الحالية بطرق لم تفعلها في العام 2011.

ولكن، على الرغم من كل الإمكانات الهائلة غير المستغلة لشباب الشرق الأوسط، لا يوجد سبب وجيه للتفاؤل بشأن آفاق الشرق الأوسط. لن تكون هناك أي إعادة ضبط تلقائية سهلة عندما يتولى الرئيس المنتخب جو بايدن منصبه. من المرجح أن تقاوم المحاور الجديدة التي شكلها دونالد ترامب أي تغيير تدريجي في السياسة الأميركية. ولن تثق إيران بالتزام الولايات المتحدة في أي وقت قريب. ولن تتم إعادة بناء الدول الممزقة بسهولة. ولن يعود اللاجئون إلى بلدانهم في القريب. وسوف تستمر حركات التمرد في العثور على طرق لتجديد نفسها. وإذا لم يتم تعلم أي درس آخر من العام 2011، فلا بد أن يتعلم درس أن الشرق الأوسط بعيد كل البعد عن قدرة أي قوة خارجية على السيطرة.

Marc Lynch: أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن

محرر الموقع : 2021 - 01 - 31