عمالقة التكنولوجيا باتت خطرا على الديمقراطية قبل أي شيء آخر
    

مصطفى الأنصاري (اندبندنت عربية)- عُرف الأكاديمي الأميركي فرنسيس فوكاياما بنظرياته الاستشرافية، خصوصاً “نهاية التاريخ”، التي دافع عنها كثيراً، وقال إنها فهمت على غير ما أراد. لكنه هذه المرة يطل من جديد متسلحاً برفقة باحثين آخرين هما باراك ريتشمان، وأشيش غويل ليحرض المشرعين في الولايات المتحدة على عرقلة هيمنة عمالقة التكنولوجيا هناك قبل أن تأتي على الأخضر واليابس.

يأتي ذلك في وقت تشهد فيه المحاكم الأوروبية والأميركية معارك قانونية ضارية، لمحاولة كسر احتكار “أمهات وادي السيليكون” اقتصاد البيانات الآخذ في التمدد شرقاً وغرباً، خصوصاً بعد أزمة جائحة كورونا.

يؤكد الباحثون في رؤية نشروها في مجلة “فورين أفيرز” الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، أخيراً، أن السؤال عن “كيفية إنقاذ الديمقراطية من التكنولوجيا”، تبدأ إجابته بالعمل الجاد في سبيل “إنهاء احتكار شركات التكنولوجيا الكبرى للمعلومات”، بوصفها تشكل خطراً بالغ الأثر على الجوانب السياسية، بما في ذلك جوهر النموذج الأميركي، وهو الديمقراطية.

ويضيف الثلاثي البحثي أن “الحجة الاقتصادية لكبح جماح شركات التكنولوجيا الكبيرة معقدة، لكن هناك قضية سياسية أكثر إقناعاً، إذ تتسبب منصات الإنترنت في أضرار سياسية أكثر إثارة للقلق من أي ضرر اقتصادي تسببه، وذلك لأن الخطر الحقيقي ليس في تشويه الأسواق، وإنما في تهديد الديمقراطية نفسها”، وفقاً لرؤية أريد بها كتابة نهاية تاريخ تلك الشركات بسلبها أهم مصادر هيمنتها، مما قد يذكر المتابعين لفرانسيس فوكوياما ولعه القديم بنظرية “نهاية التاريخ” وإسقاطها على الدول والحضارات، والآن الشركات التي أطلق عليها العديد من الأوصاف مثل “الدول الافتراضية”، لشدة ما تؤثر في حياة مئات الملايين من البشر، وتتحكم.

فقاعات التصفية

واعتبر الباحثون أن مخاطر هذا النوع من السيطرة، بدأت ملاحظتها منذ عام 2016، حين استيقظ الأميركيون على قوة شركات التكنولوجيا في تشكيل المعلومات، “لقد سمحت هذه المنصات للمخادعين بنشر الأخبار المزيفة والمتطرفين لدفع نظريات المؤامرة. لقد أنشأوا “فقاعات التصفية”، وهي بيئة يتلقى فيها المستخدمون، بسبب طريقة عمل الخوارزميات، فقط المعلومات التي تؤكد معتقداتهم الموجودة مسبقاً. ويمكنهم تضخيم أصوات معينة أو دفنها، وبالتالي يكون لها تأثير مزعج على النقاش السياسي الديمقراطي. الخوف النهائي هو أن المنصات قد جمعت كثيراً من القوة بحيث يمكنها التأثير في الانتخابات، إما عن قصد أو عن غير قصد”.

وكان السجال حول أن احتكار الشركات التكنولوجية بدأ مبكراً في المجتمع الغربي خصوصاً أوروبا، إلا أن الاستنفار الأكبر ضد هيمنتها؛ تطور إلى هبة سياسية واقتصادية، إثر دخول عمالقة الصين التكنولوجية على الخط، وبدأت تنافس نظيرتها الأميركية، ليس فقط في حصد الأرباح وتفريغ جيوب المستهلكين في السوق الأوروبية والأميركية، ولكن أيضاً في حشد المعلومات والبيانات الهائلة، التي يقدر الإستراتيجيون في بروكسل والبيت الأبيض وحتى لندن أن من شأنها أن تمكن الصين من أدوات تأثير في الداخل الغربي الذي يخوض معها منافسة شديدة وحرب أسعار وهيمنة على الأسواق، حذر، أخيراً، هنري كسنجر من أنها مرشحة لأن تصل ذروتها إلى مواجهة عسكرية.

في هذا السياق تأتي المقالة البحثية للكتاب والأكاديميين الأميركيين الكبار، من ذوي التخصصات السياسية والتكنولوجية والقانونية، ففي مجتمع يعتمد على حرية الاقتصاد، ويراهن منظروه مثل فوكاياما ورفيقيه على العولمة، لا يمكن تخصيص “توك توك” و”هواوي” الصينيتين بالحصار وكسر الهيمنة، في وقت تمارس فيه شقيقاتهما في “وادي السيليكون” الهيمنة نفسها. من هنا كانت انطلاقة الكتاب الثلاثة مرتكزة على “آبل، وغوغل، وفيسبوك”.

تعارض المصالح والمبادئ

وقالوا “إن النقاد استجابوا للمخاوف من خلال مطالبة المنصات بتحمل مسؤولية أكبر عن المحتوى الذي تبثه، ودعوا (تويتر) إلى قمع أو التحقق من صحة تغريدات الرئيس دونالد ترمب المضللة، كما انتقدوا (فيسبوك) لقوله إنه لن يقوم بتعديل المحتوى السياسي. يود كثيرون رؤية منصات الإنترنت تتصرف مثل الشركات الإعلامية، وتنظم محتواها السياسي وتحاسب المسؤولين الحكوميين”.

لكن الضغط على المنصات الكبيرة لأداء هذه الوظيفة، يقر الباحثون المخضرمون أنه ليس حلاً طويل الأجل، إذ يشيرون إلى أن الحد من نفوذ تلك الشركات، يعني تراجع قوتها ومن ثم أرباحها، بما يتعارض مع مصالحها الذاتية، بما يعني أنها لن تقدم على ذلك بسهولة.

ويتناولون بصراحة مديري تلك الجهات بالنقد، ويضيفون “في الوقت الذي يشتكي المحافظون إلى حد كبير من التحيز السياسي لمنصات الإنترنت؛ يفترضون مع بعض المبررات، أن الأشخاص الذين يديرون منصات اليوم مثل جيف بيزوس من (أمازون)، ومارك زوكربيرغ من (فيسبوك)، وسوندار بيتشاي من (غوغل)، وجاك دورسي من (تويتر)، يميلون إلى أن يكونوا تقدميين اجتماعياً، على الرغم من أنهم مدفوعون بشكل أساسي بالتجارة والمصلحة الذاتية”.

سلاح على الطاولة

ويشبه الباحثون السيطرة التي أصبحت في يد أولئك العمالقة التكنولوجيين بالسلاح الفتاك الموضوع على الطاولة، وينبغي أن يتأكد العقلاء من أن الذي يستحوذ عليه يستخدمه بشكل لا يؤدي إلى الدمار.

ومع أنهم في هكذا تشبيه لا يذهبان للمبالغة باعتبار شبكات التكنولوجيا مثل السلاح النووي، إلا أنهم فصلوا ذلك بأن “القوة الاقتصادية والسياسية المركزة للمنصات الرقمية مثل سلاح مشحون بالذخيرة على طاولة. في الوقت الحالي، من المحتمل ألا يلتقط الأشخاص الجالسون على الجانب الآخر من الطاولة المسدس ويسحبوا الزناد. ومع ذلك فإن السؤال بالنسبة للديمقراطية الأميركية هو، ما إذا كان من الآمن ترك البندقية هناك، حيث يمكن لشخص آخر لديه نوايا أسوأ أن يأتي ويلتقطها. لا توجد ديمقراطية ليبرالية تكتفي بإسناد سلطة سياسية مركزة للأفراد بناءً على افتراضات حول نواياهم الحسنة. لهذا السبب تضع الولايات المتحدة ضوابط وتوازنات على تلك القوة”، ولفتوا إلى أن فرضية الاستحواذ على تلك البندقية من جانب أمثال مالك “فوكس نيوز” ليست ببعيدة، مما يعني في نظرهم أنها حينئذ معرضة للاستخدام الأسوأ من جانب من يعتبرون توظيفه سيشكل تهديداً.

وبدلاً من الوضع الحالي، يرى فوكاياما ورفيقاه أن الحل هو في النموذج الأوروبي، “حيث تقوم ألمانيا على سبيل المثال، بإقرار قانون يجرم نشر الأخبار المزيفة”، لكنهم يعتقدون على الرغم من ذلك أن التنظيم قد يظل ممكناً في بعض الديمقراطيات بدرجة عالية من الإجماع العام، بينما “من غير المرجح أن ينجح في بلد مستقطب مثل الولايات المتحدة”.

استراتيجية “التفتيت” لكسر الهيمنة

ولذلك يرون في الخلاصة أن “أفضل طريقة للتعامل مع التهديد السياسي الخطير… أخذ هذه القوة (البيانات) بعيداً عن منصات التكنولوجيا وتسليمها ليس إلى جهة تنظيمية حكومية واحدة، ولكن إلى مجموعة جديدة من الشركات المنافسة التي من شأنها أن تسمح للمستخدمين بتصميم تجاربهم عبر الإنترنت. لن يمنع هذا النهج خطاب الكراهية أو نظريات المؤامرة من الانتشار، ولكنه سيحد من نطاقها بطريقة تتماشى بشكل أفضل مع الهدف الأصلي من التعديل”.

في الوقت الراهن، يُحدد المحتوى الذي تقدمه المنصات من خلال خوارزميات، يصفها الباحثون بـ”الغامضة”، أنشئت بواسطة برامج الذكاء الاصطناعي، أما “عند استخدام البرامج الوسيطة، فسيُسلم مستخدمو النظام الأساسي عناصر التحكم، وليس بعض برامج الذكاء الاصطناعي غير المرئية التي ستقرر ما تشاء”.

ويعرف الباحثون “البرامج الوسيطة” التي يرونها صيغة الحل الأمثل بعد استعراض مجموعة حلول؛ بأنها تعني بوجه عام “برمجيات تعمل فوق منصة موجودة ويمكنها تعديل عرض البيانات الأساسية. إضافة إلى خدمات منصات التكنولوجيا الحالية، ويمكن أن تسمح البرمجيات الوسيطة للمستخدمين باختيار كيفية تنظيم المعلومات وتصفيتها لهم. سيختار المستخدمون خدمات البرامج الوسيطة التي من شأنها تحديد أهمية وصحة المحتوى السياسي، وستستخدم المنصات تلك التحديدات لتنظيم ما شاهده هؤلاء المستخدمون”.

ويؤكدون في هذه الحالة أن “تدخل الحكومة سيكون ضرورياً، إذ من المحتمل أن يضطر الكونجرس إلى إصدار قانون يتطلب من المنصات استخدام واجهات برمجة تطبيقات مفتوحة وموحدة، أو واجهات برمجة تطبيقات، من شأنها أن تسمح لشركات البرامج الوسيطة بالعمل بسلاسة مع منصات تقنية مختلفة، سيتعين على الكونغرس أيضاً تنظيم موفري البرامج الوسيطة بعناية”.

على خطى “الأخوات السبع”؟

ومع أن ترمب هو الذي اشتهر بعلاقته المتوترة مع شبكات التواصل الاجتماعية، وشركات التكنولوجيا العملاقة المالكة لها، إلا أن بايدن هو الآخر توعدها بأن “حرية التعبير لا يمكن أن تكون بمثابة ترخيص لشركات التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي لتسهيل انتشار الأكاذيب الخبيثة.

يجب أن تعمل هذه الشركات على ضمان أن أدواتها ومنصاتها لا تعمل على تمكين دولة المراقبة أو تقويض الخصوصية أو تسهيل القمع في الصين وفي أي مكان آخر أو نشر الكراهية والمعلومات المضللة أو تحفيز الناس على العنف أو البقاء عرضة لإساءة الاستخدام”، بحسب ما قال الرئيس المنتخب نفسه، أثناء شرح معالم برنامجه السياسي في أبريل (نيسان) الماضي.

ويعتقد مراقبون أن هيمنة شركات التكنولوجيا العملاقة “أمهات وادي السيليكون” ستواجه تحديات كبيرة، على غرار تلك التي واجهتها “الأخوات السبع” الكبرى في القرن الماضي، عندما أدى احتكارها السوق إلى غضبة من الدول المنتجة، وإحداث تحول في الصناعة، جعل النفط مثل بقية السلع الإستراتيجية في العالم التي تتأثر بالعرض والطلب. خصوصاً بعد أن برزت أهمية سوق البيانات والتكنولوجيا وصارت ميدان تنافس الدول العظمى، بما يرجح معه أن تكون شركاتها هي “أخوات السبع” هذا العهد، وفقاً لمنطق الثورة الصناعية الرابعة.

وتنظر معظم الدول إلى الشركات الجديدة بريبة أكبر، بوصفها تمتلك أدوات للتأثير على جمهورها، مما يجعلها أشبه بالقابضة على المفتاح في نواح كثيرة، حتى جرى إطلاق وصف الدولة على بعضها مثل “فيسبوك”، التي تفاخر بأن سكانها يتجاوزون المليار، والآن تنتج عملة خاصة بهم، وربما غداً جوازات سفر على طريقتها.

لكن في الجهة المقابلة، يرى كثيرون بمن فيهم الكتاب الثلاثة فرانسيس فوكوياما وباراك ريتشمان وأشيش غويل، أن ما يذكر من مخاوف ووقائع الاحتكار من جانب عمالقة التكنولوجيا، لا يعني نكران الدور الذي لعبته في جعل حياة الناس أكثر سلاسة، خصوصاً في أزمة مثل كورونا التي نهضت فيها “أمازون” على سبيل المثال بدور بالغ، في وقت أُغلقت فيه منافذ البيع التقليدية.

محرر الموقع : 2021 - 02 - 01