الإيكونوميست: الصين تسعى لتأسيس "التكنولوجيا الفاضلة"
    

لقد أصبحت الرؤيا واضحة للعيان، ففي غضون عقد أو نحو ذلك، ستكون الصين قد أسست "مدينة التكنولوجيا الفاضلة" بخصائص صينية بحتة مليئة بـ"التكنولوجيا العميقة" مثل الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، والسيارات ذاتية القيادة والمنازل المغطاة بالرقاقات التقنية المتطورة.

وأوضحت مجلة "الإيكونوميست" البريطانية في هذا الصدد،أن الصين ستتخذ جملة من الإجراءات تهدف إلى الحد من القوة السوقية للعديد من عمالقة التكنولوجيا في بكين مثل (Alibaba) و (Tencent) بجعل أرباحهم غير مبالغ فيها والعمل على إعادة توزيع بعض أرباحهم على صغار التجار ومطوري التطبيقات والعاملين لديهم.

وأشارت إلى أنه إذا ما تم تحقيق هذا الأمر، فستتباهى مدن الدرجة الثانية بصناعاتها التكنولوجية الخاصة المدمجة بالخدمات المحلية والتي ستتنافس مع العمالقة الأقل قوة عند ربطها بمصادر البيانات الوطنية. كما ستنطلق البيانات من خلال النظام، المتاح للشركات من جميع الأحجام، تحت العين الساهرة للحكومة في بكين.

ويتجلى هذا الاتجاه في الطريقة التي يريد بها الرئيس الصيني شي جين بينج تحويل هذه الرؤية إلى حقيقة، ففي الأشهر التسعة الماضية، اتخذ المشرعون في الصين إجراءات صارمة ضد المشهد التكنولوجي المتصاعد في البلاد، والذي، على الرغم من أنه ولّد ابتكارات تضرب العالم وتقدم قيمة مذهلة للمساهمين، لم يعد يُنظر إليه على أنه مناسب للغرض. ونتيجة لذلك، خسرت أهم مجموعات التكنولوجيا في البلاد ما لا يقل عن 1 تريليون دولار من القيمة السوقية المجمعة منذ فبراير الماضي.

كما تراجع عدد المستثمرين الأجانب الذين دعموا الشركات الصينية عبر الإنترنت، وزاد قلق المستثمرين الصينيين المحليين، وتراجعت مؤشرات تتبع أسهم التكنولوجيا الصينية في هونج كونج والمجموعات الصينية على نطاق أوسع في نيويورك بنسبة 40-45% منذ منتصف فبراير 2021.

ورغم أن ذلك لا يهم بل قد يكون في الواقع جزءًا من الخطة، فشركات الإنترنت الاستهلاكية تشكل 40% على الأقل من الأسهم الصينية الكبيرة في مؤشر (MSCI) للأسواق الصينية الناشئة مثل نظرائهم الأمريكيين -Apple و Alphabet و Amazon و Facebook و Netflix - وجنت هذه الشركات أطنانا من الأموال لمساهميها، لكن يبدو أن الصين تفكر في ذلك.

ونقلت المجلة البريطانية عن نائب رئيس مجلس الدولة الصيني، ليو هي، قوله مؤخرا، إن الصين تنتقل إلى مرحلة جديدة من التنمية تعطي الأولوية للعدالة الاجتماعية والأمن القومي، وليس عقلية النمو بأي ثمن التي كانت سائدة في الثلاثين عاما الماضية.

وأشار إلى الكيفية التي ستوجه بها الحكومة "التنمية المنظمة لرأس المال"، والتي ستتم بأفضل ما يمكن لتلائم "بناء نمط تنموي جديد".

وبالحديث عن البيانات، فقد وضعت أوروبا وبعض الولايات الأمريكية، مثل كاليفورنيا، قوانين تهدف إلى حماية المستهلكين من إساءة استخدام معلوماتهم الشخصية من قبل الشركات الكبيرة، وبدورها وضعت الصين قواعد مماثلة؛ في بعض الحالات تكون أكثر حدة مما هي عليه في الغرب.

لكن المشرعين الصينيين، بحسب المجلة البريطانية، يذهبون إلى أبعد من ذلك، ففي ورقة سياسية من مجلس الوزراء الصيني، في أبريل من العام الماضي، تم تسمية البيانات على أنها "عامل إنتاج" إلى جانب رأس المال والعمالة والأرض والتكنولوجيا، ويشير ذلك إلى الأهمية التي توليها الدولة الصينية للمعلومات.

وبالإضافة إلى ذلك مازالت سياسة البيانات الجديدة في الصين عملا قيد التقدم، حيث سيدخل قانون أمن البيانات حيز التنفيذ في الأول من سبتمبر المقبل، ومن المقرر أن يعتمد البرلمان الصيني قانون حماية المعلومات الشخصية قريبا، لكن من غير الواضح كيف سيتم إنفاذها، على الرغم من أن المتخصصين في البيانات يستشعرون أن العديد من أنواع البيانات التي يحتفظ بها عمالقة الإنترنت حاليا يمكن تداولها في نهاية المطاف. فعلى سبيل المثال، تم حث شركة Ant بالفعل من قبل السلطات على فتح مخازنها الضخمة من البيانات المالية الشخصية للشركات المملوكة للدولة والمنافسين التكنولوجيين الأصغر، ولم يتم إصدار قواعد محددة لشركات التكنولوجيا المالية، لكن الجميع ينتظرها.

ويتمثل أحد الجوانب الأخرى لاستراتيجية الدولة في إعادة توزيع الثروة وقوة المنصات التقنية الكبيرة التي تراكمت خلال العقد الماضي، فقد تم استهداف مجموعات التجارة الإلكترونية مثل Alibaba و JD.com و Pinduoduo من قبل إدارة الدولة لتنظيم السوق (SAMR)، الجهة المنظمة الجديدة لمكافحة الاحتكار في الصين، والتي تتهمهم بالسلوك الاحتكاري، وغالبا ما يدفع التجار على هذه المنصات رسوما عالية ويجب عليهم الاختيار بين البيع على أحدهما أو الآخر، كما حالت أنظمة الدفع التي تديرها Tencent و Alibaba دون تبادل المعلومات بينهما، مما أدى إلى تشعب السوق.

ويُجبر العمالقة الآن على التحول إلى نماذج أكثر انفتاحًا حيث لم تعد المدفوعات وأنشطة التسوق مقصورة على منصة واحدة، مما يسمح للتجار باستعادة بعض السيطرة على أسعار بضاعتهم.

ويعتقد المحللون أن هذه التغييرات ستؤدي إلى هوامش أعلى للبائعين وأسعار أقل للمستهلكين ولكن نموا أبطأ لعمالقة التكنولوجيا، وفي هذا الصدد حذرت شركة علي بابا المستثمرين في أوائل أغسطس من أن المزايا الضريبية طويلة الأمد قد تنتهي قريبا، مما يضيف مليارات الدولارات في التكاليف.

ومن المقرر بموجب هذه الإجراءات أن يستفيد العمال من نقل الثروة، فشركات مثل Didi و Meituan ، التي تستخدم جيوشا من السائقين ذوي الأجور المنخفضة أو موظفي المستودعات، أصبحت في مأزق، فبالفعل تلاحق السلطاتMeituan لعدم توفير الرعاية الكافية لهؤلاء الموظفين، وستضطر إلى رفع الأجور ومنح السائقين تأمينا أفضل، ومنذ إعلان هذه الإجراءات انخفضت القيمة السوقية لشركة Meituan بمقدار الخمس، أو 42 مليار دولار في أواخر يوليو الماضي.

ويتمثل الوجه الأخير لحملة الصين في نقل الموارد من شركات الإنترنت إلى الشركات التي يمكنها تحقيق تقدم ملموس في التقنيات التي يعتبرها الحزب أقل عبثية، ومن شأن هذا أن يمثل تحولا مذهلا في الحوكمة الاقتصادية الصينية، التي وضعت منذ تسعينيات القرن الماضي التطور السريع وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر فوق كل شيء آخر، فقد كانت شركات الإنترنت غير الخاضعة للتنظيم هي المثال الرئيسي، حيث خفض المسؤولون المحليون الضرائب وتنازلوا عن الأراضي لجذب عمالقة الإنترنت إلى مدنهم ومقاطعاتهم.

والآن تريد الحكومة الصينية إنشاء قطاع تكنولوجي أقل عنادا وأكثر تركيزا على الأجهزة التي ستساعدها على تجاوز أمريكا وبقية دول الغرب في القوة الاقتصادية، وذلك وفقا لما ذكره راش دوشي، مستشار الرئيس الأمريكي جو بايدن، في كتابه الجديد "اللعبة الطويلة: استراتيجية الصين الكبرى لإزاحة النظام الأمريكي".

كما يعتقد كبار المسؤولين أنه إذا تمكنت الصين من الحصول على ميزة المحرك الأول في طليعة التكنولوجيا، فلن تصبح قوة اقتصادية عظمى فحسب، بل قوة جيوسياسية وعسكرية أيضا.

ولفتت مجلة الإيكونوميست إلى أن الطريقة التي يسير بها النظام الصيني نحو التحول المنشود بعيدة كل البعد عن ضمان نجاحها، خاصة وأن الحزب الشيوعي يقدم صورة لقوة موحدة ذات مجموعة واحدة من الأهداف.

بينما أشارت أنجيلا زانج من جامعة هونج كونج إلى أن السياسة الأخيرة من البنك المركزي الصيني تهدف إلى تفكيك مجموعات التكنولوجيا المالية القوية التي امتدت إلى منطقة مكافحة الاحتكار التي تغطيها.

محرر الموقع : 2021 - 08 - 17