فِي ذِكْرى شَهَادَةِ رَاهِبُ أَهْلِ الْبَيْتِ الأَمام موسى الكاظِم (ع)؛ المَظْلُومِيَّةُ بِالْمَفْهُومِ القُرْآنِيِّ [٣]
    

 

   تأسيساً على هذهِ المفاهيم التي استنطقتُها من آياتِ القرآن الكريم يمكنُ القولُ بأَنَّ الاستضعاف والمظلوميَّة بالمفهوم القرآني على نوعَين؛

   النَّوع الاوَّل هو نوعُ الخُضوع والخُنوع والاستسلام والهرَب من الواقع!.

   والنَّوع الثَّاني هو إِستضعاف ومظلوميَّة التَّحدِّي والالتزام وعدم الخُضوع والاستسلام، إِستضعاف الاستخلاف من خلالِ تهيئَةِ الأَدواتِ اللَّازمة لذلك!.

   إِستضعافُ الذلِّ والعبوديَّة واستضعافُ العزِّ والحريَّة!. 

   وإِذا تتبَّعنا سيرة أَهل البيت (ع) بوعيٍّ وإِنصافٍ ومسؤوليَّة بعيداً عن العواطِف والهَيام القشري الذي يصفهُ الامامُ عليٍّ (ع) بقولهِ؛ {يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَرٍ} وقولهُ (ع) {وَسَيَهْلِكُ فِيَّ صِنْفَانِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَمُبْغِضٌ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَخَيْرُ النَّاسِ فيَّ حَالاً الَّنمَطُ الاَْوْسَطُ فَالْزَمُوهُ} فسنلحظُ بشَكلٍ جليٍّ أَنَّ إِستضعافهُم كان إِستضعاف الاستخلاف، إِستضعاف العزِّ والكرامة والحريَّة وليس إِستضعاف الاستسلام والذلِّ بأَيِّ شَكلٍ من الأَشكالِ، والدَّليلُ على ذلك؛

   أَوَّلاً؛ سعيهُم الحثيث لإزالةِ وإِزاحةِ كلِّ أَسباب الاستضعاف عن طَريقِ الأُمَّة! مهما كلَّفهم ذلك من معاناةٍ، ولهذا السَّبب فانَّ كلَّ حياتهم نضالٌ وجهادٌ وتضحيةٌ وهجرةٌ وقتلٌ واستشهادٌ! لا يثنيهِم عن ذلك شيءٌ أَبداً.

   ينطبق ذلك على أَوَّل أَئِمَّة أَهل البيت (ع) أَلا وهو الامام أَميرُ المؤمنين (ع) مروراً بالسِّبطَين الشَّهيدَين (ع) وبقيَّة الأَئِمَّة عليهمُ السَّلام ومنهُم الامام مُوسى بن جعفر الكاظِم عليه السَّلام الذي عانى ما عانى في سجونِ الظَّلمة المتكبِّرين والمستكبرين! فانَّ السِّجنَ دليلُ الحركةِ والنَّهضةِ والانتفاضةِ والجِهادِ من أَجْلِ نفضِ غُبار الاستضعاف والمظلوميَّة عن الأُمَّة، وهوَ ليسَ دليلُ خُضوعٍ وخُنوعٍ واستكانةٍ أَبداً، فلم يحدِّثنا التَّاريخ أَنَّ مُستسلماً للظُّلم إِعتقلهُ الظَّالِم أَو أَنَّ لا أُباليّاً قضى ساعةً من نهارٍ تحت سقفِ السِّجن أَو أَنَّ خائفاً جباناً أَظَّلهُ سقفُ مُعتقل! أَبداً! فانَّ أَصحابِ المبادئ والمواقف الصُّلبة همُ الذينَ يكونونَ هدفاً للسِّجن والاعتقال من قِبَل أَزلام الطَّاغوت المتجبِّر.  

   فنبيُّ الله يوسُف (ع) سُجِنَ لأَنَّهُ تحدَّى الانحراف ولم يستسلِم أَو يخضع لمراودة إِمرأَة العزيز لَهُ، فلو كانَ (ع) قد إِنهار أَمام رغبتها لما تعرَّض للسِّجن! ولقد أَشارَ القرآن الكريم الى هذهِ الحقيقة بقولهِِ على لسانِ النبيِّ الكريم (ع) {قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ* قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}.

   هنا أَودُّ الإشارةِ الى الفهمِ الخاطيء لبعضِ النَّاسِ لمفهومِ الَّلقب الذي اشتهرَ بهِ الامام الكاظِم (ع) أَلا وهوَ [راهبُ آلَ مُحمَّد] فيظنُّون أَنَّ الرَّهبنة هُنا بمعنى الاعتزال والانقطاع الى الله تعالى بعيداً عن همومِ الأُمَّة وتحمُّل مسؤوليَّة التَّبليغ والإرشاد والهِداية والقيادةِ الفكريَّة على الأَقلِّ! وهو فهمٌ خاطئٌ جملةً وتفصيلاً، فلو كان الامامُ عليه السَّلام مُنعزلاً عن المجتمع وغير متحمِّل لمسؤوليَّاتهِ الرِّساليَّة لما قضى سنينَ طُوال في سجونِ الطُّغاة! ولما تعرَّض للمراقبةِ الأَمنيَّة المستمرَّة التي كلَّفتهُ وشيعتهُ الكثير!.

   إِنّ الرَّهبنةَ هُنا هي تجسيدٌ للمفهومِ الذي وردَ في الحديثِ الشَّريف عن رَسُولِ الله (ص) {رهبانيَّة أُمَّتي الجِهاد} فبالجهادِ تختلي الأُمَّة مع ربِّها وتقترب مِنْهُ، وبالجهادِ نالَ أَهلُ البيت (ع) كلَّ هذهِ المنزِلة الرَّفيعة عندَ الله تعالى في الدُّنيا والآخرة! وليسَ بالانعزالِ والانطواءِ، وهي الرهبانيَّة التي ذمَّها الله تعالى عندما اتَّخذها بعضُ رُهبان بني إِسرائيل منهجاً لأنفسهِم هرباً مِن المسؤوليَّة! كما في قولهِ تعالى {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا 

ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}.

   إِنَّها بدعةٌ إِذن! وحاشا للإمامِ أَن يأتي بها!.

   ولذلكَ فليسَ غريباً أَبداً أَن يصفَ أَميرُ المؤمنين (ع) الجِهاد بقولهِِ {أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِباسُ التَّقْوَى، وَدِرْعُ اللهِ الحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ الوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ البَلاَءُ، وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَالقَمَاءَةِ، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالاِْسْهَابِ، وَأُدِيلَ الحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الجِهَادِ، وَسِيمَ الخَسْفَ، وَمُنِعَ النَّصَفَ}. 

   *يتبع

   نـــــــــزار حيدر

محرر الموقع : 2017 - 04 - 22