الدِّيمُقْرَاطِيَّةُ وَنُقَلُ السِّيَاسَةِ الى الْوَسَطَ الْجَمَاهِيرِيَّ
    

حكمت البخاتي/مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

 

السياسة في اشتقاقها اللغوي من السائس ويبدو ان الموافقة بين مادة اللفظ هي التي دعت الى هذا التصور في الاشتقاق العربي، لكن هناك في تراث الاسلام وان كان طارئا عليه هو "الياسة" وهي شرعة او دستور المغول حين بلغوا بغداد واستولوا عليها كانت هي قانون الحكم ونظام دولتهم الداخلي، ويبدو ان مقاربة مادة اللفظ "الياسة" للسياسة واحتواءها المعنى في سياسة الحكم كانت تؤهل او تمّكن في نسبة اشتقاق مصطلح السياسة منها.

لكن رغم هذا التأصيل الهش لمصطلح السياسة في تراثنا فإننا لا نجد ما يشتق عنه او يتشقق من الفاظه لفظ او مصطلح السياسي في تراثنا السياسي والاداري، بل حتى لفظ السياسة ورد نادرا في استخدامه في ادبيات الحكم والسياسة الاسلامية، وغاية ما استخدمته مصادر التشريع السياسي في تاريخنا هي الفاظ ومعاني تنصرف الى الادارة في الحكم. وهنا يتعلق اللفظ/السياسة بإدارة احوال المجتمع في القضاء والخراج والحسبة وترتكز نظريا الى مفهوم العدل والشريعة وبهذا المعنى وبهذا اللفظ النادر في استخدامه في ادبيات التراث وردت في بيت من الشعر للشاعر أبي نؤاس حيث يقول:

لأعزّ ينفرج الدجى عن وجه......عدلُ السياسة حبّه ايمان

وجاء عنده في وصف قادة الدولة بانهم الساسة حيث يقول:

ألا قل لأمين الله......وأبن القادة الساسة

وعندما تتبع الدكتور علي زوين الفاظ الحضارة في الشعر في القرن الثاني الهجري وهو عنوان كتابه، وجد أن من بين الفاظ الحياة السياسية والخاصة بالخلافة والقضاء والوزارة والادارة وجد مرة واحدة استخدم فيها لفظ السياسة في هذا العصر في الشعر العربي، وهو ما أشار اليه في بيت شعر ابي نؤاس، وهي بالمعنى المختص لها قديما لم تخرج عن العلاقة بالرعية حصرا. وقد عرفها التهانوي في كتابه كشاف إصطلاحات الفنون بانها "القانون الموضوع لرعاية الآداب وإنتظام الأحوال" أو هي "تدبير المعاش بإصلاح أحوال جماعة مخصوصة على سنن العدل والاستقامة" نقلا عن الدكتور علي زوين، وهي بهذا المعنى أقرب موردا من الادارة في نظم السياسة والحكم، وهو ما يقارب المعنى الحديث للسياسة في المصادر الرسمية والاكاديمية وهو المعنى الذي يقصر مفهوم السياسة على السلطة والدولة ويصدر عن تعريف او موضوع السياسة عند ارسطو مقتصرا به على الطبقة الحاكمة والدولة.

ويذكر برنارد لويس في كتابه "لغة السياسة في الاسلام" أن لفظ السياسة يشتق في اللغة اليونانية القديمة من قيادة دفة السفينة وهي بذلك تقتصر على القادة والحكام دون الشعوب" وهي بذلك ليست مقتصرة على تراث الاسلام السياسي.

والسياسة في تعريفها القديم والحديث لا تخرج عن المعنى الرعوي القديم الذي ينظم العلاقة بين الحاكم والشعب ويكرس العلاقة الرعوية التي تظل بمفهومها السائد تعبير عن رواسب نفسية واجتماعية تخلفت من مرحلة الرعي في تاريخ البشر القديم وهي تشكل عنصر الهيمنة/القوة الذي يمتاز به تعريف السلطة في الدولة في المعنى القديم والحديث لها، ويقول لويس "ان التصور الرعوي للحكومة هو امر شائع ومعتاد منذ النصوص القديمة ومستحسن جدا عند كتاب العصور الوسطى المسيحيين الذين يكتبون في السياسة"، وبذلك فهو يمنحه بعدا قديما ودينيا عميقا، لكنه ذو بعد اجتماعي أعمق مما هو ديني، ويستند اليه مفهوم أرسطو للسياسة حين يشرع في مناقشة السياسة والدولة بدءا من البيت/الاسرة ومراتب العلاقة والانقسام بينها، بل ويستند الى التصور الرعوي للدولة ومن ثم للسياسة ضمنيا مفهومها الحديث.

 واصطلاحاً حديثا ُتعرف السياسة "بمفهومها العام على أنّها مجموعة الإجراءات والطرق والأساليب الخاصة باتخاذ القرارات من أجل تنظيم الحياة في شتّى المجتمعات البشرية، بحيث تدرس آليات خلق التوافق بين كافّة التوجّهات الإنسانية الدينية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها، وتضم أيضاً آليات توزيع الموارد، والقوى، والنفوذ الخاصة بمجتمع أو دولة ما"، وهي تعكس حالة الرعاية التي تقوم بها الدولة الحديثة.

 ويظل مفهوم دولة الرعاية تعبيرا متطورا عن مفهوم الرعوية في الدولة القديمة مع الاختلاف الناشئ بحكم هذا التطور التاريخي، لكن يظل المفهوم الرعوي على النقيض من المفهوم الحديث للسياسة الذي أسست له الديمقراطية الحديثة في مشاركة السلطة من قبل الشعب/الرعية في صناعة السياسة، وهو ما يدعو حتى أنظمة الدول الحديثة والمعبر عنها بالدول الديمقراطية أن تتوجس الخشية من الديمقراطية باعتبارها ضمنا دول رعوية وان كانت بصورة مخففة وهو ما نشهده في خشية هذه الدول من صعود الاتجاهات اليمينية الى السلطة والحكم في ظل الديمقراطية وصناديق الاقتراع باعتبارها مشاركة شعبية في صناعة السياسة والحكم، وكان قبل ذلك يخشى أفلاطون ومعلمه سقراط من صعود الغوغاء الى الحكم عن طريق الديمقراطية والانتخاب رغم نخبوية الديمقراطية الأثينية.

ان أبرز صفات الدولة الرعوية هي احتكار الحكم، وأبرز خصائص الديمقراطية هي كسر هذا الاحتكار ونقل السياسة من احتكارها النخبوي والسلطوي الى إمكانية المشاركة الجماهيرية، وبهذا سوغت الديمقراطية كذلك إمكانية تغيير مفهوم السياسة ونقله من احتكار التعريف له أكاديميا وقبله تراثيا بالسلطة والدولة الى الاستخدام الوظيفي والاستعمال اللغوي له في الوسط الجماهيري.

محرر الموقع : 2017 - 04 - 25