الديمقراطية والمدنية والعلمانية إشكالية الفهم وآلية العمل في الحالة العراقية
    

حسام الدين شلش/مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

 

 تتحول المجتمعات الإنسانية في شكلها ونظمها بنيوياً في مستويين: الاول يتمثل في تحول النسق الاجتماعي للمجتمع (الاجتماعي بالمعنى العام)، والثاني في النسق الثقافي والمعرفي، ففي الحالة الأولى تكون الثقافة والنظم القيمية والمعرفية تابعة لتحول النظام الاجتماعي، اما في الحالة الثانية تكون الثقافة والنظم القيمية والمعرفية هي العامل الرئيس والفاعل في ذلك التغير.

 شهدت الحالة العراقية بعد عام 2003 تحولاً بنيوياً للمجتمع العراقي، وهذا التحول شمل الأنساق الاجتماعية والثقافية، ولأن التغير الاجتماعي أسرع تأثراً واستجابة بقيت الأنساق الثقافية عالقة بين الموروث والمعتاد من جهة، وما يجب ان تكون عليه استجابة للتحول من جهة أخرى.

 ومن التحولات التي شغلت المسألة العراقية هي نشوء المجتمع المدني وما ترتب عليه من ارتباطه بالسياسي والاجتماعي والثقافي، فالمجتمع المدني في العراق نتيجة التجربة الديمقراطية، ومجتمع الحزب الواحد والنظام المنغلق، قد احيل الى مجتمع ديمقراطي، والمجتمع العسكري احيل الى مجتمع مدني، وهذه التحولات التي لم تنتج عن منبع نضج في الذات الاجتماعية العراقية، افرزت خللاً في الفهم والممارسة لمفاهيمها من قبيل العلمانية والديمقراطية والمجتمع المدني وعلاقتها بالدولة. ولان بوادر الاستجابة الاجتماعية بدأت تظهر في الفضاء العام لكنها تعاني من ضبابية او مغالطة في التعاطي معها، ارتأينا ان نقدم قراءة سوسيولوجية لهذه الثلاثية المفاهيمية من حيث علاقتها بالدولة والمجتمع، وسنحاول ان نناقش في هذا المقال مفهوم المجتمع المدني والحراك المدني العراقي وآلية اشتغاله.

المجتمع المدني ومؤسسة الدولة:

 كان الفهم الاول للمجتمع المدني يشير الى مجتمع الدولة او مؤسسات الدولة التي تقابل المجتمع الطبيعي وهو (المجتمع المنظم دون نظام سياسي) وهو مجتمع التنظيمات السياسية ومؤسسات الدولة التي تقابل المجتمع العام، ومن ثمّ تطور المجتمع المدني الى المجتمع المبني على قدرة الافراد في تشكيل تعاقدات سياسية واجتماعية تدير الحياة العامة، يتضمن تلك التعاقدات بناء نظام سياسي وفضاء عام يكفل للأفراد ممارسة حرياتهم كأفراد لا كجماعات منتمية. وهو بذلك يفترض توفر عناصر أساسية هي:

- وجود افراد احرار(مواطنين) بالمعنى العام للمواطنة الذي افترض الانتماء للهوية الوطنية للدولة وما يلزمه من حقوق وواجبات وفقاً للقانون، لهم الحرية في التعبير عن الرأي...وغيرها.

- وفصل المجتمع المدني على العلاقات الطبيعية (الانتماءات القبلية والدينية) أي العمل بموجب القانون والتعاقد الاجتماعي.

- وجود مجتمع مؤسسي قادر على ادارة شؤونه بعيداً عن ممارسات سلطة الحكم (مجتمع الاتحادات والجمعيات).

 عليه ان التفكير في بناء مجتمع مدني دون تحقيق الأسس الأولى يأخذ بالمسار بعيداً عن مجراه، وهذا أحد إشكالات بناء المجتمع المدني في الحالة العراقية، فهو يقتضي بناء فهم عام لماهية المواطنة والحقوق الفردية والاجتماعية ودور المواطن في الفضاء العام، ومن ثم تشكيل الاتحادات والجمعيات والعمل باتجاه الضغط والتأثير على القرار السياسي. ومن اجل تحقيق مجتمع مواطنة يوفر الأرضية الصالحة لبناء دولة صالحة لإدارة الحياة العامة للمجتمع العراقي يتوجب التفكير في بناء الأسس الأولى وعبر مراحل متتابعة، والاسس هي المشار اليها انفاً.

 وربما يتساءل أحد عن سبب هيمنة الجماعات الحزبية والدينية والقبلية على المؤسسات العامة والفضاء العام وتجييرها لصالحها، بالرغم من ان الهوية العامة للدولة هوية مدنية وهي نتاج التعاقدات الاجتماعية بين عامة افراد المجتمع من ناحية، والأشخاص المكلفين بإدارة تلك المؤسسات من ناحية أخرى؟

 تجيبنا على ذلك مراجعة سريعة للأسس والمراحل التي يبنى عليها المجتمع المدني، ويمكن تشخيص الخلل في الحالة العراقية بعد اتفاقنا على الخلل الذي تعانيه المؤسسة من فساد وغياب للقانون في الآتي:

 اولاً: النظر الى المؤسسة الحكومية باعتبارها ندا وخصما للمواطن وعليه فإن رفض التعامل معها وتقويم عملها يتيح لهذه الجماعات والاحزاب الاطمئنان لكونهم المهيمن والمسيطر بالمناصفة مع القوى الاخرى-الجماعاتية- من غير المواطنين.

وثانياً: ان الفصل بين العلاقات الطبيعية -الانتماءات الدينية والقبلية- والعلاقات العقدية على مستوى الفضاء العام للدولة لم يتحقق، وهذا ما شكل عامل دعم لتلك الجماعات ووفر لها أرضية داعمة من عامة المجتمع للتكفل في الدفاع عنها.

وهنا سيكون التساؤل عن آلية تخطي هذه العقبة؟ يحدد الدكتور عزمي بشارة ملامح المجتمع المدني ومن بين اهم الأسس التي يبنى عليها هي الدولة القوية، أي ان هناك مؤسسة قوية قادرة على إدارة الشؤون العامة في حال حدوث ارباك لعمل الحكومة القائمة على الامر او القيادة وإلا يستولي الأقوى على الأضعف في تلك الحالة. وتنفصل هذه المؤسسة عن القيادة العامة من ناحية السلطة (أي لا تكون مجيرة لصالح الحاكم بل عاملة بمبدأ الوظيفة).

 بذلك ان بناء مؤسسات رصينة يتطلب التدخل العام من قبل المواطنين او من قبل الاتحادات والجمعيات التي تدافع عن حقوق المواطنين وتعمل بوظيفة الدور الرقابي المقوم لعمل المؤسسة الحكومية، من خلال هذا التدخل سيتحقق شرط مهم جداً في بناء مجتمع مدني ودولة صحية الا وهو مشاركة المجتمع في خلق الفضاء العام والمساهمة في رسم سياسة مؤسسة الدولة وآلية عملها فيما يخص طرق التعامل مع توفير حقوق المواطنين وحاجاتهم، وهذا الدور الرقابي والبنائي هو أحد واجبات المواطن.

يستلزم ذلك التثقيف وبناء الوعي العام بالمواطنة والحقوق الفردية وهو ما ينزع الفرد عن دعمه لفساد مؤسسة ما لان القائمين عليها من نفس هويته، فالمواطنة الأساس الأول التي تبنى عليه كل المراحل اللاحقة للمدنية والمجتمع المدني والدولة المدنية.

 في العراق حدث هذا التدخل وأقيمت مجموعة من المحاولات في التفاعل مع المؤسسة الحكومية من اجل تقديم ما هو أفضل من الأداء، بالمقابل فإن الحركة العامة التي مثلت مشروع المدنية دخلت في معترك ومطب أبعَدَها عن العمل المدني السليم والمشاركة المدنية في بناء الدولة، اذ ان النشاط المدني العراقي ومعبر عنه هنا في مجموعة من المنظمات والناشطين والمواطنين اتخذ شكل الاحتجاج العام والاعتراض على كل ممارسات الدولة السياسية والاقتصادية والأمنية وغيرها.

ما جعل امر التعامل من قبل الحكومة مع المطالب صعب جدا بالنسبة لها، اذ يتعارض دعم المشروع المدني مع مصالح الاحزاب القائمة على إدارة الدولة، التي بدورها (كما ترى) تولت زمام الامر بطريقة ديمقراطية سليمة ومن اعترض على ممارساتها ليس منتخبوها بل هم المعارضون وهذا ما لا يفقدها شرعية وجودها، كما ان الالتجاء الى الاحتجاج المباشر دون العمل بالوسائل المدنية الأخرى واستعمال القائمين على المؤسسة الحكومية التسويف والتغاضي جعل من جدية المشروع المدني اقل قدرة على احداث فارق حالي.

 والتساؤل هنا لو ان الاحتجاج المدني والاعتراض على الممارسة الكلية للدولة تحول باتجاه تشخيص حالات محددة في فشل المؤسسة الحكومية مثلاً تقويم المؤسسة التعليمية وتستخدم بذلك وسائل الضغط المتعددة (كتابات المثقفين والإعلاميين الذين يقع عليهم عاتق تحشيد الرأي العام وتوعية العامة بمخاطر الارباك والخلل في أداء المؤسسة، تقديم المشاريع التطويرية لعمل المؤسسة التعليمية من قبل الاكاديميين، تشخيص حالات الفساد والانهيار والقصور، الاحتجاجات والمطالبات بمعالجة الفساد واللاجدوى في هذه المؤسسة)، وتعمل كل هذه الوسائل بشكل متواز معاً فيما يسمى بالاصطلاح المدني - التشبيك، ألن يُحدث ذلك ضغطاً على صاحب القرار ويجبر القائمين على إدارة الدولة على تبني تلك المطالبات؟ باعتبار ان الموضوع أصبح رأي عام لكل فئات المجتمع اتجاه قضية محددة تهدد الصالح العام ولا تصطدم بمشاريع التغير الجذري وإلغاء الآخر، وهكذا تتحول الى المؤسسات الخدمية والصحية وصولاً الى التشريعية والقضائية، بالتدريج، ان التشخيص والاستهداف والتجزئة امر ضروري في العمل المدني وخطوة سليمة في تحقيق مشروع المجتمع المدني العراقي الهادف الى بناء مؤسسات قادرة على تأدية وظائفها بشكل يحقق مطامح المجتمع العام.

 ومن هذا المنطلق اعتقد ان هناك وظيفة أساسية افتقدها المشروع المدني العراقي وهي البناء المعرفي والثقافي للمدنية والمواطنة، ويلاحظ ذلك من ضعف أداء المنظمات المدنية في تطبيق البرامج والورشات التي تستهدف مفاهيم المواطنة والحقوق المدنية والسياسية والتوعية بدور المواطن الرقابي وبناء الثقافة القانونية وغير ذلك، كما ان ضعف أداء هذه المنظمات الى جانب المثقف في ذلك يتجلى في عدم رسمهما لرؤية عمل المجتمع المدني كإطار معرفي ثقافي يخلق المشترك المفهومي بين عامة المجتمع من جانب وتشجيع المؤسسة الحكومية على تفعيل حوار المواطنية في خلق الفضاء العام المشترك بين المؤسسة الحكومية والمواطنين ورسم اطار عام بمخرجات ثقافية وادبية وعلمية، بدلاً من التحفيز على الرفض لسوء الأداء والاكتفاء به، ففي اعتقادي ان عصر المفاهيم الكبرى من قبيل الثورات الراديكالية ورفض الاخر والاخضاع القسري للمطالب وغير ذلك لم يعد يجدي، المهم الان خلق فضاء التشاركية في العمل والدعم والدفاع عن الحقوق وتلبيتها.

 وبالرغم من الخلل الواضح في أداء الحكومة وفسادها وعدم اهتمامها في المجتمع وقمعها للمحاولات المحتجة، فإن الحراك في غير محله يسوّف الوسائل والطرق الضامنة للدفاع عن الحقوق، فاتباع الخطوات الناجعة وعدم تعجل حصد ثمرة العمل في رؤية مجتمع مواطنة له حقوقه وواجباته والعمل الدؤوب المفحوص جيداً يضمن لنا مستقبل أكثر نجاحاً، فالتجربة العراقية مازالت وليدة اللحظة إذا ما نظرنا الى عمرٌ طويل من الجماعاتية والحزبية والقمع والعسكرة...الخ، وليس بالسهل نزع هذه الذاكرة بكل قيمها ووضع القيم المدنية بلاً عنها.

 خلاصة القول في هذا المحور ان تأسيس دولة مدنية صحية يلزم وجود مجتمع مدني سليم، والأخير يلزم وجود مواطن مدني بدوره يسهم من طريق وعيه المدني بحقوقه وواجباته في بناء جمعيات ومؤسسات تعمل على التفاعل والتكامل مع مؤسسة الدولة في تحقيق الحاجات والحقوق الخاصة به، وهذا يوجب ان يكون العمل المدني مكمل ومراقب ومقوم لعمل مؤسسات الدولة بواسطة الرصد والتجزئة واستهداف مؤسسات محددة وتقويم عملها تباعاً، والركيزة الأساس هي النظر الى الحكومة كتجربة جديدة تحتاج الى متابعة ومساعدة وتقويم، هذا من جانب، ومن جانب اخر جنينية الثقافة العراقية وصغر وعي المدنية في منظومتها ما يحتاج الى رعاية معرفية وثقافية داعمة.

محرر الموقع : 2017 - 07 - 22