أوروبا أمام تحديات تهدد اتحادها
    

قبل خمس سنوات، لم يكن السؤال عن خطر تفكك الاتحاد الأوروبي وارد اً. ولكن اليوم لم يعد في الإمكان الكلام عن أوروبا على المنوال السابق بعد التصويت البريطاني بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي والاستفتاء الكتالوني وانتخابات النمسا وإيطاليا. فحركات الانفصال والتطرف تسعى إلى إعادة رسم خريطة أوروبا عبر الارتكاز على معايير اثنية ولغوية أو ثقافية.

هذا فضلاً، عن أزمة الاتحاد الأوروبي التي تُنسب إلى شوائب أساسية في بنيته الدستورية أو إلى ابتلائه بشح في الديموقراطية. ولا مناص من الإقرار بأن أزمة المهاجرين ساهمت في تغيير طبيعة السياسة الديموقراطية على المستوى الوطني، وهي وراء ذعر أخلاقي في أوساط أوروبيين يخشون الإرهاب، وتقلقهم التغيرات الكبيرة والعنيفة، وهم يشعرون بأن الأمور انفلتت من كل عقال. وفي عصر الهجرة، بدأت عجلة الديمقراطية تدور دوران آلة إقصاء وليس آلة دمج.

فالهاجس الأمني يشكل العامل الرئيسي الذي يؤرق المسؤولين الفرنسيين الذين يرون في العائدين تهديدا أمنيا جديا نظرا لما عرفوه في سوريا والعراق ولآيديولوجيتهم الجهادية وللخبرات التي اكتسبوها إن في القتال أو في التفخيخ والتفجير وبالنظر لمشاركة متسللين من سوريا في العمليات الإرهابية التي ضربت فرنسا في عام 2015 ، ولهذا يلجأ الرئيس ماكرون إلى فتح ملف “الإسلام الفرنسي” أو” إسلام فرنسا” ويعتزم الخوض في موضوع حساس وعملية إصلاحية عميقة تتناول وضع المسلمين في فرنسا والطريقة المثلى لإيجاد بنية تنظيمية فاعلة وقادرة حقيقة على تمثيل المسلمين في فرنسا بتنوع مشاربهم، ولا تكون محصورة فقط بالمساجد التي ينهض عليها “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية” الحالي.

وغير بعيد عن الإرهاب الذي يهدد أمن أوروبا، نجد أيضاً تصاعد الحركات الانفصالية المطالبة بالاستقلال، والتي كان أوضحها وأشهرها في كاتالونيا الإسبانية، وتسعى حركات الانفصال إلى إعادة رسم خريطة أوروبا عبر الارتكاز على معايير إثنية ولغوية أو ثقافية، واستنادا إلى عدم تمتع هيئات الاتحاد الأوروبي بالشرعية الديمقراطية، والزوال التدريجي للحدود، وتوحيد سبل الحياة، وفرض اللغة الإنكليزية لغة مشتركة، وهذه الحركات هي حركات مناطق ثرية نظرا لموقعها الجغرافي وسكانها واقتصادها، وهي ترى أنها تسدد ضرائب كثيرة إلى الدولة تفوق حصة غيرها من المناطق.

كما عاد أيضاً إلى الواجهة الحديث عن الانقسام بين أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية. فأوروبا الشرقية تأخذ على ألمانيا مسألتين، استبداد برلين في إلزام الاتحاد الأوروبي سياسة الهجرة الخاصة بها وحمل دوله على الطاعة. بينما أوروبا الشرقية ترفض خطاب إعلاء شأن حسنات مجتمعات التعددية الثقافية.

هذا الأمر استغله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أجل إحداث الشقاق، فهو يعمل جاهدا لتفكيك الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من خلال تشجيع الحركات الانفصالية الأوروبية، سواء كان ذلك بالعمل على حرف مسارات العمليات الانتخابية لصالح القوى اليمينية المتطرفة أو التيارات الشعبوية المناهضة للمشروع الأوروبي، أو باختراق المجتمعات الأوروبية عبر تسخير مشاعر الغضب المتنامية في أوساط فئات الشعب ضد الحكومات الليبيرالية والأحزاب السياسية التقليدية.

نزعة الانفصال التي تغذيها روسيا، أزعجت الاتحاد الأوروبي القلق من تزايد النفوذ الروسي في دول البلقان، وأيضا النفوذ التركي، فقد دخلت تركيا الأردوغانية في الفترة الأخيرة، على الخط إلى جانب روسيا وعمدت إلى شبك علاقة خاصة مع صربيا في 2017، وكان الرئيس أردوغان يستثير الجاليات التركية في دول الاتحاد الأوروبي والغالبيات المسلمة في دول غرب البلقان بمفرداته الجديدة حول “الصليبية الجديدة” و”الفاشية” و”النازية” ضد دول الاتحاد الأوروبي التي تنتقد انتهاكات حقوق الإنسان في تركيا، وبخاصة بعد فشل المحاولة الانقلابية في صيف 2016.

ومع تزايد النفوذ الروسي- التركي في دول غرب البلقان خلا ل 2016-2017 إندفع الأوروبيون إلى وضع إستراتيجية جديدة لتوسع جديد للاتحاد الأوروبي يضم دول غرب البلقان خلال السنوات المقبلة، وعرض على أردوغان الشراكة مع الاتحاد الأوروبي عوضا عن الانضمام الى الاتحاد الأوروبي.

في المقابل الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يضيّع الوقت للبدء بعملية تفكيك المؤسسات متعددة الأطراف، ووقف إلى جانب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. في الواقع، يرى الأوروبيون في ترامب مصدر تهديد لأمنهم لتشجيعه انفصال بريطانيا ودول أخرى، وانتقاداته المباشرة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في سابقة لم تحدث من قبل في واشنطن وتحولت من التحالف إلى ما يشبه التنافس، وبقيت تراوح بين المد والجزر إلى أن جاء ترامب وهبط بالعلاقات إلى درجة هي الأسوأ بين ضفتي الأطلسي.

سياسات إدارة ترامب والأزمات التي تنجم عنها من جهة والحضور المتزايد لروسيا والصين على المستوى الدولي من جهة أخرى سيعزز وجهة نظر الداعين إلى سياسة أوروبية أكثر استقلالية وإلى بناء شراكات جديدة على حساب الشراكة الحصرية عبر الأطلسي التي فرضتها سياقات دولية تغيرت بشكل كبير.

ثمة من يقول إن أوروبا أمام مفترق طرق، والاتحاد الأوروبي يمر بمرحلة حرجة تهدد قيمه الليبرالية كشفتها النقاشات الساخنة حول مستقبله. ويعتبر هؤلاء أن الاتحاد غير قابل للاستمرار سياسياً في بنيته الحالية. ولكن في المقابل، ثمة من يقول إن أوروبا صامدة في وجه التحديات التي تهزها (بروز الشعبوية، موجات الهجرة، انبعاث المخاطر الأمنية) .

*العهد

محرر الموقع : 2018 - 04 - 08