هوية الكتلة الأكبر ومخاضات التَشكُل
    

 

تعرض مصطلح ومفهوم الكتلة النيابية الأكثر عددا لتجاذبات وإشكاليات سياسية وقانونية ولغوية إستنزفت دلالتها وجوفت معناها، ورغم أن المحكمة الإتحادية حددت بتفسيرها عام ٢٠١٠ بأن الكتلة النيابية الأكثر عددا المتشكلة داخل مجلس النواب بعد أداء اليمين الدستورية، وبعد ممارسة سياسية لوظيفة الكتلة الأكبر، إلا أنها لازالت تتعرض للسجال السياسي الحي، ويبدو في هذه الدورة الإنتخابية السجال مستمر ولا ينحصر بدائرة التفسير المفاهيمي والوظيفي (كالكتلة الأبوية والفضاء الوطني والأغلبية السياسية والوطنية، فهذه تسميات جديدة لبضاعة قديمة). بقدر ما تتعرض الكتلة الأكبر لسجال تحديد الهوية وصعوبة التشكل وتوسيع مدار التدخلات والمناورات والمساومات لدعم تشكيلها.

بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على الانتخابات البرلمانية في العراق وإنتهاء إعادة العد والفرز يدويا ومصادقة المحكمة الإتحادية على نتائج الانتخابات، إلا أن مشهد تحديد هوية الكتلة الأكبر لا زال يراوح في مكانه، وبالرغم من دخول القوى السياسية مرحلة ترتيب الأوراق وفتح قنوات الإتصال مع بعضها، لكن احتدمت المناورات لتشكيل نواة الكتلة الأكبر وبرزت تعقيدات في مشهد التحالفات النيابية وبالتالي تعقيد مخاضات تشكيل الحكومة.

هنالك عدة أسباب لتعطل مشهد تحديد هوية الكتلة الأكبر وأهمها: التصارع على منصب رئيس الحكومة، إذ تتقاذفه جهتان داخل المكون الشيعي لغاية الآن مما شق وحدة صف هذا المكون سياسيا، إذ يتمسك تحالف الفتح ودولة القانون بهذا المنصب بالمقابل يتمسك تحالف سائرون والنصر والحكمة به كذلك، رغم أن هوية مرشحا هذين المحورين تدوران حول هادي العامري للأول وحيدر العبادي للثاني، رغم توقع حصول معطيات جديدة قد تطرح أسماء أخرى وفقا لخريطة التفاهمات مع المكونات الأخرى، وأيضا موائمات داخل التحالفات الشيعية ذاتها خاصة بعد تعرض جزء منها لتصدعات وعدم تماسك كون بعض تلك التحالفات مرحلية وطارئة.

ومن الأسباب والظروف الأخرى المعيقة هي التدخلات المكشوفة في شؤون العراق خاصة في قضية تشكيل الحكومة، إذ لن تسمح إيران بتشكيل أغلبية نيابية مخالفة لمصالحها وتكون الأساس في اختيار رئيس الحكومة وتركيبتها، لأن العراق يعد عمق أساس للأمن القومي الإيراني بكل مجالاته.

وكذلك تعمل الولايات المتحدة الأمريكية بضمان تكليف رئيس حكومة حليف لها ويعمل على تأمين مصالحها وضمان بقاء التواجد العسكري في العراق، وأهم تلك المصالح هو محاربة النفوذ الإيراني في العراق، كما لتركيا تأثير على مجريات تشكيل الحكومة، فأي رئيس لها لابد أن يحصل على دعم تركي لضمان عدم حصول توترات حدودية وأزمة مياه، وتوازنات العلاقة مع كُردستان، خاصة مع وجود قوات تركية في الشمال تحت غطاء محاربة حزب العمال الكُردستاني.

 وأيضا للمملكة العربية السعودية مطامح كبيرة في توسيع نفوذها في العراق عبر دعم قوى سياسية تضمن مصالحها وتوجهاتها، خاصة أن المملكة تعمل على تصفية حساباتها مع إيران في العراق عبر بوابة تشكيل الحكومة، وهي تستفيد كما تستفيد الولايات المتحدة وتركيا من الإنقسام السياسي، كما تدخل قطر على خط إطار تشكيل الحكومة وتوزيع المناصب ضمن بوابة الضغوط الخارجية التي تمارس على القوى المتفاوضة ويقال: "إن قطر تمارس ضغوطات على زعيم المشروع العربي خميس الخنجر"، مما سبب في حصول تصدعات داخل تكتله في الاختيار بين المتنافسين لرئاسة الحكومة وأيضا مرشح رئيس البرلمان.

ولهذا تعمل إيران على حصول حلحلة داخل البيت الشيعي في الأيام المقبلة لحسم هوية الكتلة الأكبر، وهذا غير مستبعد في حال نجاح إجتماع خماسي للقوى الشيعية وفرض تقارب بين إئتلاف النصر وسائرون والفتح إضافة إلى إئتلاف دولة القانون وتيار الحكمة.

لكن يبرز موقف يحمل تعقيدات تواجه سيناريو هذا التقارب يتمثل ربط إيران للموقف الصادر من رئيس الوزراء حيدر العبادي حول موقفه بتطبيق الحكومة العراقية للعقوبات الأميركية ضد إيران. كما أن هنالك فيتو طرحه الموفد الأميركي إلى العراق بريت ماكغورك ضد بعض مكونات تحالف الفتح ومرشحها لرئاسة الحكومة هادي العامري لقربهم من إيران.

وان فرضت الظروف التئام أطراف المكون الشيعي فهذا لا يعني أن التفاهمات والقناعات المتبادلة على مرشح رئيس الحكومة سيضع نهاية للمتاعب داخل هذا المكون سياسيا، إذ يتطلب الأمر إستكمال ترتيب الأمور مع المكون السني والمكون الكردي من حيث القبول بمرشحيّ رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان، إضافة إلى توزيع الحقائب الوزارية التي ستنعكس على الطرف الذي سينبثق منه مرشح رئيس الحكومة، إذ ستتضرر بقية أطراف إئتلاف أحد القوى الخمسة بعدم الحصول على حقائب وزارية لأنها ستستنفذ رصيدها بموقع رئيس الحكومة.

تأخير تحديد هوية الكتلة الأكبر وعدم الإتفاق على تسمية رئيس الحكومة، يثبت بلا شك أن منهج المحاصصة أخفق في بناء الدولة في العراق، ولو كانت التحالفات قائمة على أساس البرامج الخادمة للمواطن لتقنن التكالب والتصارع على السلطة ولأعلن عن هذه التفاصيل منذ أول يوم بعد إعلان نتائج الانتخابات، لكن التحالفات قائمة على أساس المصالح الفئوية، ولإدارة هذا التصارع تلجأ وتسمح الأحزاب والقوى السياسية بتغليب التدخل الخارجي الذي يشمل عدة أطراف دولية وإقليمية مما يزيد من الإرباك والتأزم، بحيث يصبح النفوذ الإقليمي والدولي شريك في العملية السياسية لا متدخل فقط، ولهذا يعيش العراق على وقع أزمات حكم تعيق إمكانية إعادة بناء الدولة بكل معنى الكلمة.

د. أحمد الميالي/مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية

 

محرر الموقع : 2018 - 10 - 09