دور اللامركزية في تنمية الاقتصادات المحلية
    

حامد عبد الحسين الجبوري/مركز الفرات للتنمية والدراسات الستراتيجية

 

هناك صعوبة بالغة أمام تنمية الاقتصادات المحلية عند سيادة الدكتاتورية سياسياً والمركزية اقتصادياً، مما جعل هناك توجه عالمي نحو تنمية الاقتصادات المحلية من خلال الديمقراطية واللامركزية الاقتصادية.

في ظل مرور النظام العالمي فيما يعرف بالعولمة التي عملت، من خلال أدواتها السياسية والاقتصادية المعروفة - كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي - بالتزامن مع ثورة المعلومات والاتصالات، على جعل العالم "قرية كونية صغيرة" تنتقل فيه رؤوس الأموال والسلع والخدمات والأيدي العاملة والبيانات والمعلومات والثقافات والسلوكيات وغيرها، بسرعة هائلة كنتيجة لاختصار الزمن والمكان وباقل الكلف، وذلك بالاستناد إلى مبادئ، الحرية وإزالة الحدود وغيرها، التي تؤمن بها العولمة والتي دفعت لسحب البساط من تحت الدولة المركزية بشكل عام والمركزية الاقتصادية بشكل خاص، ولذا اصبحت اللامركزية الاقتصادية هي الخيار الأفضل لتنمية الاقتصادات المحلية بما يتناسب مع الاحتياجات المحلية، لجميع الدول وخصوصاً المنضوية تحت لواء العولمة.

تنمية الاقتصادات المحلية

إن الهدف من تنمية الاقتصادات المحلية هو تعزيز القدرات الاقتصادية لمنطقة محلية من أجل تحسين مستقبلها الاقتصادي ومستوى المعيشة ككل في هذه المنطقة. فهي عبارة عن عملية يقوم خلالها الشركاء، القطاع الحكومي والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، بالعمل بشكل جماعي من أجل توفير ظروف أفضل لتحقيق النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل[i].

 وبما إن كل منطقة في كل دولة في العالم لها ظروف معينة تختلف عن المناطق الاخرى يمكن أن تسهم في تحسن أو تردي واقعها وهذا التحسن أو التردي يتوقف على مدى الاهتمام بها، وعليه لابد من إيلاء التنمية المحلية قدر كبير من الاهتمام حتى تكون بيئة مناسبة لاستقبال الاستثمارات المحلية والاجنبية خصوصاً في ظل شيوع العولمة والشركات المتعددة الجنسيات التي تبحث لاستثماراتها عن مناطق ذات ميزة نسبة لممارسة نشاطها فيها. ان استقبال الاستثمارات سينعكس على النمو الاقتصادي وفرص العمل، وهذا ما يعني تحسين المستوى الاقتصادي والمستوى المعاشي للمنطقة المحلية.

لا يمكن تحقيق الهدف أعلاه المتمثل بتنمية الاقتصادات المحلية دون وجود رؤيا واضحة بكيفية إدارة وتحقيق ذلك الهدف ولكن قبل توضيح كيفية ادارة ذلك الهدف وتحقيقه لابد من الاشارة الى العلاقة بين الجانب السياسي والجانب الاقتصادي، حيث لا يمكن تناول الجانب الاقتصادي بمعزل عن الجانب السياسي كون هناك علاقة وثيقة بينهما وأحدهما يؤثر في الآخر، لكنه بشكل عام إن الجانب الاقتصادي يتبع الجانب السياسي، فكلما يكون أداء هذا الأخير إيجابي وجيداً ستنعكس آثاره على اغلب الجوانب وبالخصوص الجانب الاقتصادي بشكل إيجابي وجيد أيضاً. وتجدر الإشارة إلى انه في البلدان المتقدمة ان الجانب السياسي يتبع الجانب الاقتصادي عكس البلدان المتخلفة التي يكون الجانب الاقتصادي فيها تابع للجانب السياسي.

اللامركزية الاقتصادية

يقصد باللامركزية الاقتصادية الانتقال من إدارة الاقتصاد بشكل مركزي بواسطة الدولة عبر وزارة التخطيط إلى إدارة الاقتصاد بشكل لامركزي بواسطة السوق من خلال تفاعل قوى العرض والطلب بشكل حر، بالتزامن مع نقل صلاحية القرارات والاجراءات الادارية والاقتصادية التي تصدرها الدولة مركزياً بناءاً على مقتضيات الاقتصاد الوطني بشكل عام، إلى الادارات المحلية التي تضع مقتضيات الاقتصادات المحلية في سلم أولوياتها انطلاقاً من واقعها المحلي.

ان اللامركزية الاقتصادية تسهم بشكل فاعل في تحقيق تنمية الاقتصادات المحلية كونها على تماس أو بالأحرى أقرب إلى واقع المجتمعات المحلية فتكون على إطلاع بما يحصل في المجتمع بشكل اسرع من الادارة المركزية، ويكون تشخيصها أدق وأسرع من حيث حجم الاحتياجات المحلية وأولوياتها وكذلك أسرع من حيث تلبية تلك الاحتياجات عبر إصدار القرارات واتخاذ الاجراءات اللازمة لتنفيذها، سواء كانت سياسية أو إدارية أو اقتصادية أو غيرها، فتلبية الاحتياجات المحلية من قبل الادارات المحلية بشكل أسرع يؤدي إلى تعزيز الاستقرار المحلي وهذا ما يشجع على تنمية الاقتصاد المحلي لأنه في ظل غياب الاستقرار لا يمكن تنمية الاقتصاد بشكل سليم.

الديمقراطية واللامركزية هما الطريق المعبد لتحقيق الهدف

ان الانتقال من المركزية الاقتصادية الى اللامركزية الاقتصادية لا يمكن أن يتحقق دون أن يسبقه انتقال سياسي من الدكتاتورية الى الديمقراطية، ومن الديمقراطية الشكلية الى الديمقراطية الحقيقية بالنسبة للبلدان المتحولة نحو الديمقراطية، عبر إرساء المؤسسات السياسية التي تحتاجها الديمقراطية المتمثلة بـ (موظفون منتخبون، انتخابات حرة وعادلة ومتكررة، حرية التعبير، الوصول إلى مصادر بديلة للمعلومات، جمعيات مستقلة، مواطنة متضمنة)[ii].

إذ إن غياب المؤسسات السياسية التي تحتاجها الديمقراطية وعدم اتخاذ الاجراءات اللازمة لتجذير الديمقراطية بشكل حقيقي عند الانتقال، بالتزامن مع الفوضى والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعقب تفكك النظام الدكتاتوري، ستكون النتيجة ولادة نظام قمع جديد، لان بعض -الافراد والجماعات- يرى في سقوط النظام القمعي فرصة ليصبحوا هم الأسياد الجدد، وقد تختلف دوافع هؤلاء الافراد والجماعات ولكن غالباً ما تكون النتائج مشابهة بحيث يصبح نظام الحكم الدكتاتوري الجديد أشد بطشاً وتحكماً من نظام الحكم الدكتاتوري القديم[iii]، وهذا ما يقوّض الطريق المعبد للامركزية الاقتصادية وهي الديمقراطية.

وعليه لابد اولاً من ضمان تطبيق الديمقراطية بشكل حقيقي بعيداً عن السطحية، عبر ترسيخ المؤسسات السياسية التي تتطلبها المذكورة آنفاً واتخاذ الاجراءات اللازمة لمنع ظهور دكتاتورية جديدة من خلال معالجة الفوضى والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تكون بحد ذاتها بيئة خصبة لنشوء دكتاتورية جديدة، ثم اللجوء إلى تطبيق اللامركزية الاقتصادية المذكورة آنفاُ، لان الديمقراطية تُعد بمثابة الطريق المُعبد للامركزية الاقتصادية وهذه الأخيرة تعد في الوقت ذاته، الطريق المعبد لتنمية الاقتصادات المحلية.

 فكلاهما، الديمقراطية واللامركزية، ينبعان من معينٍ واحد وهو "الحرية" فكما تعطي الديمقراطية الحرية للأفراد بممارسة حقوقهم السياسية من حيث الترشيح والانتخاب وحرية التعبير وانتقاد الحكومة وحق الوصول للمعلومات وتكوين المنظمات والجمعيات المستقلة والمشاركة السياسية وغيرها، كذلك اللامركزية الاقتصادية تعطي الحرية للأفراد باتخاذ قراراتهم الاقتصادية تجاه جميع العمليات الاقتصادية وبالخصوص مسألة الملكية لوسائل الانتاج، بشكل مستقل بعيداً عن الجبر والإكراه الذي تمارسه المركزية الاقتصادية في ظل الدكتاتورية السياسية. فالديمقراطية واللامركزية الاقتصادية هما الطريق المعبد لتنمية الاقتصادات المحلية.

ما يساعد على الانتقال نحو الديمقراطية الحقيقية واللامركزية الاقتصادية وتنمية الاقتصادات المحلية التجارب العالمية والتوجه العالمي نحو تعميم هذه الموضوعات وترسيخها في اغلب دول العالم وهذا ما يختصر الطريق امام الدول التي تروم التوجه لتطبيق هذه الموضوعات، فابرز دراسة عن موضوع تنمية الاقتصادات المحلية التي تتحقق بسهولة في ظل الديمقراطية واللامركزية الاقتصادية، دراسة مشتركة صادرة عن "مدن التغيير" في البنك الدولي عام 2004 والتي حملت عنوان "التنمية الاقتصادية المحلية... دليل وضع وتنفيذ استراتيجيات تنمية الاقتصاد المحلي وخطط العمل بها" تتكون هذه الدراسة من 137 صفحة.

الشركاء السائرون على الطريق المُعبد

بعد إن تم إيضاح الطريق المُعبد، المتمثل بالديمقراطية واللامركزية الاقتصادية، اللازم لتحقيق الهدف المرسوم، لابد من تحديد الشركاء السائرين على هذا الطريق وأدوارهم المساهمة في تنمية الاقتصادات المحلية، الذين يغيب وجودهم أو بالأحرى يغيب دورهم في ظل الدكتاتورية والديمقراطية الشكلية واللامركزية الاقتصادية أو يسيرون بشكل لا إرادي بعيداً عن الادوار التي ينبغي أن يمارسوها والتي تسهم بفاعلية في تحقيق الاهداف التنموية بصورة عامة والمحلية بصورة خاصة سواء بشكل مباشر أو شبه مباشر أو غير مباشر في ظل الديمقراطية واللامركزية الاقتصادية.

من أبرز الشركاء الذين يمارسون دوراً كبيراً في تنمية الاقتصاد المحلي، هم القطاع الحكومي المحلي والقطاع الخاص (قطاع الاعمال) وقطاع المجتمع المحلي بما فيه منظمات المجتمع المحلي ولكل قطاع من هذه القطاعات دور معين لا يقل أهمية عن القطاعات الاخرى كون هذه القطاعات هدف تنمية الاقتصاد المحلي ووسيلتها، فالعمل على توعية كل قطاع من هذه القطاعات بدوره وكيف سينعكس أداء دوره بشكل جيد على الاقتصاد المحلي بشكل عام وعلى واقعه بشكل خاص، لان هذه القطاعات كالسلسلة مترابطة التأثر والتأثير فيما بينها.

 القطاع الاول: يسهم بشكل مباشر في تنمية الاقتصاد المحلي كالقطاع الخاص من خلال مباشرته النشاط الاقتصادي بشكل مباشر، وفقاً لمبادئ اقتصاد السوق المتمثلة بالحرية والمنافسة وعدم الاحتكار، في كافة القطاعات الاقتصادية كالزراعة والصناعة والسياحة والتجارة والاعلام والنقل والمواصلات والعقارات والمؤسسات المالية والتعليمية والبحثية وغيرها، إلا ما يتعارض مع المصالح العامة كالاحتكار مثلاً.

 القطاع الثاني: يسهم بشكل شبه مباشر في تنمية الاقتصاد المحلي كالقطاع الحكومي المحلي مثلاً لأنه في ظل اللامركزية الاقتصادية ينسحب من النشاط الاقتصادي لصالح القطاع الخاص ويقتصر دوره على الإشراف ويأخذ على عاتقه مسؤولية تقديم تشكيله واسعة من الخدمات التنظيمية والرقابية للأنشطة الاقتصادية المذكورة آنفاً، كالتسجيل والترخيص والموافقات، فضلاً عن توفير البنى التحتية وصيانتها وتوفير فرص التعليم والتدريب وتوفير البيئة الاستثمارية الملائمة والداعمة لقيام القطاع الخاص بنشاطه الاقتصادي بشكل انسيابي.

 القطاع الثالث: يسهم بشكل غير مباشر مثل منظمات المجتمع المدني (منظمات غير ربحية) في تنمية الاقتصاد المحلي كونها لا تمارس النشاط الاقتصادي وحتى وإن مارسته فلا تهدف للربح كما يهدف قطاع الاعمال، فتأخذ على عاتقها دور توعية المجتمع المحلي بمدى أهمية تنمية الاقتصاد المحلي وتطويره وكيف سنعكس على واقعه حتى يتفاعل ويتعاون مع الجهات الساعية لتفعيله، وذلك من خلال إقامة الندوات والحوارات والمؤتمرات حول أهمية التنمية المحلية، من جانب وربط هذه النشاطات وغيرها المرتبطة بالاقتصاد المحلي بالجانب الاعلامي من جانب ثانٍ، حتى يتم إشاعتها بشكل أكبر وأوسع لتوليد ثقافة عامة عند الجميع، كي تتم تنمية الاقتصاد المحلي بأسرع الأوقات وبأقل الكلف.

كذلك تعمل على فتح نافذة مع المراكز البحثية المتخصصة لدراسة دور الديمقراطية واللامركزية الاقتصادية في تحقيق التنمية المحلية لتغذية الندوات والحوارات والمؤتمرات والاعلام بآخر الدراسات المتخصصة عن تنمية الاقتصاد المحلي لمواصلة تثقيف المجتمع بمدى أهمية تنمية الاقتصاد المحلي وتطويره.

وأخيراً، تجدر الإشارة إلى ضرورة وجود لجنة عُليا لكل شريك بشكل مستقل حتى تضمن استمرار اداءه وفقاً لما يحقق الهدف المشترك، ووجود لجنة عُليا مشتركة للشركاء الثلاثة تضمن عدم انحرف الادوار الرئيسية للشركاء المساهمين في تنمية الاقتصاد المحلي وتعمل على زيادة التنسيق بينهم ومناقشة المستجدات وما حصل وما سيحصل وفق برنامج زمني دوري.

محرر الموقع : 2018 - 10 - 18