اللقاء الرائع بين الكنيسة والجامع
    

لا يزال الحدث التاريخي المهم سنة ٢٠٠١ وهو زيارة يوحنا بولس الثاني (١٩٢٠ - ٢٠٠٥) بابا الفاتيكان الرابع والستون بعد المائتين جامع اسلامي كبير في سوريا والصلاة فيه له الاثر الكبير عند الباحثين حول مستقبل الحوار الاسلامي المسيحي.
إذ استطاع هذا البابا أن يؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات الاسلامية المسيحية. فقد اختار زيارة الجامع الذي يحتضن مقام يوحنا المعمدان -المعروف عند المسلمين بالنبي يحيى بن زكريا- ومن ذلك المكان برهن للجميع صدق محبته ودعوته وكشف عن سمو اخلاقي وأدبي منقطع النظير، إذ أصّر على اتباع العادات الاسلامية المعروفة في زيارة الاماكن المقدسة.
١- خلع حذائه عند دخوله المسجد
٢- قام بتقبيل القرآن الكريم، وهي مبادرة ذات دلالات كبيرة تدل على اقتناع واعتراف مسيحي من اعلى سلطة دينية بقدسية هذا الكتاب وانه مبارك.
٣- أقام الصلاة امام ضريح يوحنا المعمدان، وان كانت صلاة صامتة تأملية ولكن صوتها كان مسموعا بقوة يدعو للمحبة والتسامح.
ومن المكان ذاته دعا هذا البابا الى إجراء حوار بين الكنيسة الكاثوليكية والإسلام، كما دعا الى الصفح المتبادل بين المسلمين والمسيحيين عن اي اهانات سببها البعض للبعض الاخر.
واضاف: انه من المهم ان يتابع المسلمون والمسيحيون البحث معا في القضايا الفلسفية واللاهوتية حتى يصلوا الى معرفة المعتقدات الدينية لدى بعضهم البعض بشكل أكثر موضوعية وعمقا.
هذه المواقف المشرفة لهكذا شخصية انسانية عالمية، اعتبرتها المرجعية الدينية الاسلامية رسائل سلام ومحبة من هذا البابا المبارك، وتلقتها بالقبول الحسن وبنت عليها آمال في نشر ثقافة التسامح المتبادلة، وثمنت المرجعية في النجف الاشرف موقفها من ذلك عرفانا منها بثقافة التعايش والتسامح ونوهت لهذا المعنى برسالة التعزية التي ارسلها المرجع الاعلى السيد السيستاني سنة ٢٠٠٥ بوفاة البابا يوحنا بولس الثاني والتي جاء فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
غبطة الكاردينال أنجلو سودانو أمين سرّ حاضرة الفاتيكان المحترم
نعزّيكم وسائر أتباع الكنيسة الكاثوليكية بوفاة الحبر الأعظم يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان، الذي أدّى دوراً متميزاً في خدمة قضايا السلام والتسامح الديني، وحظي بذلك باحترام الناس من مختلف الملل والأديان.
إن البشرية اليوم بأمسّ الحاجة إلى العمل الجادّ والدؤوب _ ولا سيما من الزعامات الدينية والروحية _ لتثبيت قيم المحبة والتعايش السلمي المبني على رعاية الحقوق والاحترام المتبادل بين أتباع مختلف الأديان والمناهج الفكرية.
نسأل الله العلي القدير أن يأخذ بأيدي الجميع إلى ما فيه صلاح الانسانية وسعادتها، ونتمنّى لكم ولسائر المسيحيين في العالم الخير والسلام.
مكتب السيد السيستاني دام ظله ٥ نيسان ٢٠٠٥. النجف الاشرف.

مابين البابا ٢٦٤ والبابا ٢٦٦ :
عشرون سنة ما بين هذه الزيارة وتلك ٢٠٠١ و ٢٠٢١ م، فإذا كان البابا ٢٦٤ أرسى ثقافة الحوار مع مختلف الاديان، فأن البابا ٢٦٦ قد طبق هذا المعنى وانطلق من هذا الأساس.
فاليوم هو عصر البابا فرنسيس المولود في الارجنتين سنة ١٩٣٦ الذي تسنم منصب بابا الفاتيكان منذ سنة ٢٠١٣، وهو راهب يسوعي ينتمي الى الرهبنة اليسوعية التي تعد من أكبر منظمات الكنيسة الكاثوليكية واكثرها تأثيرا وفاعلية، وبعد ان كان اسمه (خورخي ماريو بير جوليو) اختار اسما رهبانيا له وهو اسم (فرنسيس) تأسيا بالقديس فرنسيس الأسيزي (من القرن الثالث عشر الميلادي) أحد معلمي الكنيسة الجامعة والمدافع عن الفقراء والبساطة والسلام.
والمثير في الأمر أن القديس فرنسيس الأسيزي في العام ١٢١٩ م، سافر لزيارة الاراضي المقدسة في الشرق والتقى بسلطان المسلمين محمد الأيوبي بزيارته لدمياط مصر ونال حضوة وقبول عنده حتى غادر مصر، وعقد معه حوارا مهما حول العلاقات الاسلامية المسيحية، ووصف اللقاء بأنه كان مليئا بالاحترام والمحبة وأعجب السلطان المسلم بشخصية فرنسيس الاسيزي وبساطته وشجاعته فاستضافه بضعة ايام وقدم له الهدايا. فكان بحق أول لقاء حواري بين الاديان في التاريخ جمع رمزين من الديانتين المسيحية والاسلامية، وقد منحه سلطان المسلمين تصريحا كتابيا يخول له زيارة البلاد المقدسة والوعظ في مصر.
واليوم نحن أمام فرنسيس ذاته ولكن ليس بنسخة ١٢١٩ وانما بنسخة ٢٠٢١ يأتي لزيارة الاراضي المقدسة يحمل بيد الارث التاريخي للقديس فرنسيس الاسيزي وباليد الاخرى الامتداد البابوي ليوحنا بولس الثاني، ليلتقي بزعيم المسلمين الروحي وصاحب التأثير الأكبر في العالم الإسلامي المرجع الاعلى السيد السيستاني.
فراعي الكرسي الرسولي ومدبر الايمان المسيحي الكاثوليكي الذي تخضع لكلماته ما لا يقل عن مليار ونصف المليار انسان، يحط رحاله في فاتيكان الشيعة المسلمين حاملا رسالة السلام والمحبة داعيا لوحدة العائلة البشرية، ليمهد الطريق للتقارب الاسلامي المسيحي وسيخص ذلك بإرشاد رسولي يضع به النقاط على الحروف لتحقيق هذا المسعى سواء بوعظته في أور أو بغداد أو النجف.
وجه مقابلة:
البابا فرنسيس خليفة ونائب بطرس. والسيد السيستاني نائب وخليفة الامام المعصوم.
البابا فرنسيس أسقف روما عاصمة الكثلكة. والسيد السيستاني المرجع الاعلى في النجف الاشرف عاصمة التشيع.
البابا فرنسيس سيد دولة الفاتيكان، والسيد السيستاني زعيم الحوزة العلمية الشيعية في العالم.
البابا فرنسيس وجه لوجه مع مرجعية الانسان قبل ان يكون مرجعا للاديان الذي فرض احترامه بعلمه وزهده وتقواه وانسانيته عند اتباع كل الديانات، فهو الشجاع بمواقفه فلم يداهن حتى السياسيين والحكام ممن هم على عقيدته ومذهبه ويظهرون له الاحترام والتقديس، فأظهر لهم أن الحق والورع عنده فوق كل الاعتبارات وطردهم من بابه واغلقه امامهم وبياناته تصدح بلسان الحال: انكم بافعالكم المشينة تقننون الفساد وتأكلون اموال الفقراء واليتامى بالباطل وتتسترون كذبا وزورا بعباءة الايمان والدين والانتماء لعلي بن ابي طالب وهو بريء منكم ومن افعالكم.
فها نحن اليوم بين متشابهين في كثير من الصفات والامتيازات والمواهب، فهذا البابا فرنسيس يخاطب رئيس الولايات المتحدة الاميركية المسيحي على ديانته دونالد ترامب: (انه الشخص الذي لا يفكر الا في بناء الجدران، اينما كان، وليس بناء الجسور، ليس مسيحيا، ليس هذا هو الانجيل).

البابا ومرقد الامام علي
عرف المسيحيون المشرقيون وغيرهم باعجابهم الكبير بشخصية الامام علي واسموه رائد العدالة الاجتماعية في دنيا الاسلام، وكتبوا في حقه القصائد والمؤلفات، إمام التسامح والانسانية والمحبة والعدالة والرقي الاجتماعي. 
فكما ان البابا فرنسيس هو خليفة بطرس (شمعون الصفا عند المسلمين) رأس الكنيسة المسيحية ووصي يسوع المسيح وخليفته والبابا يجلس على الكرسي الرسولي في روما، قرب ضريح بطرس الرسول، ويستمد شرعيته من هذا الموقع والمكان.
فالسيد السيستاني هو خليفة ونائب الامام المعصوم بالحق ويجلس على كرسي المرجعية الدينية العليا الممتد لاكثر من ألف سنة ومتلبس بعنوان نيابة الامام في هذا العصر، ويقيم كذلك قرب ضريح الامام علي بن ابي طالب وصي وخليفة النبي محمد صلى الله عليه وآله، ويستمد شرعيته من هذا الموقع والمكان.
فخليفة شمعون الصفا سيجلس أمام حفيد النبي محمد والمدبر لأمر الأمة في هذا العصر وابن إمام المسلمين علي بن ابي طالب.
فياله من لقاء مثير قمة الهرم المرجعي في عالم الاسلام الذي يحظى بتقديس واحترام كافة المذاهب الاسلامية في جلسة زيارة ولقاء وحوار وتواصل بمحبة ورحمة مع قمة الهرم الديني المسيحي، واول لقاء لبابا مع شخص يمتد نسبا وحسبا ومقاما ومنصبا وامتدادا للنبي محمد (ص).
لا مجال بعد اليوم لدعاة الفتنة والتعصب والطائفية فالدينان الاسلامي والمسيحي بثقلهما الايماني والتاريخي والموقعي والنسبي يجتمعان تحت قبة علي إمام الانسانية وفي رحاب بلاد ما بين النهرين، فقد اتى فرنسيس للسيستاني ليظهر نفسه كصديق للمجتمع الاسلامي وانه شخص يقف موقف الداعم للحوار، ويحمل شعار النبي محمد للبشرية (رحمة للعالمين) اذ ان البابا فرنسيس ينطلق من تركيزه في تعليمه اللاهوتي على مبدأ الرحمة (لانها أقوى رسالة من الرب) واتخذ من الرحمة شعارا يحمله انفرد به عن غيره من البابوات، وسيجد باستقباله ابن من يقول الله في حقه (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

ماجستير في حوار الاديان.. 
من الجامعة اليسوعية بيروت..
 واستاذ في الحوزة العلمية في النجف الاشرف.

السيد وليد البعاج

 

محرر الموقع : 2021 - 02 - 25