العراق فوق الجميع...
    

 بقلم: مصطفى قطبي

الأزمة في العراق، أو بتعبير أدق فيها وعليها، تحتاج إلى الحل... الشعب العراقي يحتاج إلى الحل، حل لهذه الحرب بكل مفاعيلها القاتلة وهو الذي يكتوي بنارها على كل الصعد... وعندما يطالب العراقيون بالحل، فهم بالتأكيد لا يتحدثون عن أزمة سياسية، أو مشكلات في الحياة الاجتماعية والإدارية العراقية، بما فيها الفساد وإرهاصاته... هم يصرخون من وجع الحرب، من الموت يحدق بهم، والفقر يقض مضاجعهم.

فما علاقة الحرب بالسياسة؟! وهل تقتضي هذه العلاقة \'\'حلاً سياسياً\'\'، أم تفرض \'\'الحوار\'\'، أم أن الحلول العسكرية، أو ما يسمى \'\'بالحسم\'\' هو الوصفة المطلوبة..؟!

الحرب الدائرة في العراق هي بالتأكيد مثل كل الحروب في التاريخ الحديث، حرب منشؤها وأهدافها سياسية، وهي بالتأكيد ليست لأسباب سياسية داخلية، وإلا لما شاهدنا دولاً بإعلامها وسياساتها وتمويلها ومسلحيها تهجم على الساحة العراقية، ولما شاهدنا مجالس ومؤسسات \'\'دولية\'\' تشارك في هذه الهجمة...
إذاً، فالصورة شاملة ومعقدة التركيب، ولا يصح اجتزاؤها وتصوير شطر منها على أنه هو وحده الواقع... العراق اليوم بحاجة إلى حزمة من الحلول، ومن حسن الحظ أن كبار المسؤولين يجمعون على هذا، وهو كلام وإن بدا صعباً ويحمل في طياته مسؤوليات جساماً، لكنه حقيقة الاستحقاق الوطني الذي يعيشه العراقيون اليوم.
ثمة ضوء في آخر النفق، وإنها مسؤولية كل الطوائف أن تمسك بهذا الضوء، قبل أن تغرق في عتمة قاتلة في لحظة من الفوات التاريخي، ستترك الجميع نادمين، ولات ساعة مندم! لقد خسر الشعب العراقي وأهدر لكثير من الفرص، ومع ذلك لا يمكن لأي عاقل إلا أن يرى هول الكارثة الآتية إليه إذا لم يعالج أزمته بأقصى درجات الحكمة والعقلانية وتجاوز الأنانية، وباستعداد الجميع للتنازل والتسوية، لإنقاذ العراق.
وقد آن الأوان للجميع موالاة ومعارضة أن يعترف ويدرك بأنه يستحيل حل الأزمة بالمستوى نفسه من التفكير الذي أنتجها، وبأنه لابد من اختراق جدار المعاندة التي لا طائل منها سوى المزيد من الموت والخراب والنزف المفتوح، فالحل ليس بكسر إرادة الآخر، والوقت ليس للتذاكي وليس لاستعراض الخفة العقلية والسياسية على شاشات الفضائيات التي تقتات على الدم العراقي وحياته ومستقبله.
فهل يعقل أن ينسى العراقيين تاريخهم وتراثهم في إدارة أزماتهم لتلمّس الحلول وتسوّل المساعدة عند من كانوا ينبهرون بأي شيء له نكهة عراقية؟!
آن للعراقيين أن يوقظوا روحهم العراقية، وينفضون الغبار عن ذاكرتهم وجوهرهم العراقي، لاستيعاب ما جرى والبحث عن ممكنات الحل، الذي يرضي الجميع ويلبي رغبتهم في التطلّع نحو مستقبل أفضل.
وعليه فإن تقديم الحلول الممكنة يقتضي أولاً طرح الأسئلة الضرورية وتلمّس الإجابات عنها، وعلى رأس هذه الأسئلة:
هل هنالك عراقي عاقل يصدق بأن الأميركيين والأوروبيين والأتراك وغيرهم حريصون على كرامة العراقيين وحريتهم ومستقبلهم أكثر مما يريده العراقيون لأنفسهم؟!
هل كان الأداء السياسي والاقتصادي والإداري والقضائي والتعليمي قبل الأزمة بالمستوى الذي يليق بتطلعات العراقيين وطموحاتهم؟!
هل يحق لأي مسؤول عراقي أو أي قوة سياسية أو حزبية، أن تتجاهل حقوق العراقيين في المشاركة الحقيقية في صناعة مستقبل العراق، وهل يمكن لأحد أن يزعم بأنه يمثل كل الشعب وبأن له الأحقية في الحكم دون الآخرين؟!
هل ثمة مبررات وأسس أخلاقية وسياسية وشرعية لأي قوة أو جهة في العراق تحاول تهميش أو إقصاء أو اجتثاث أو إلغاء أي قوة أخرى من المشهد العراقي لمجرد أنها تخالفها في الرأي والبرنامج والتطلعات؟!
لعل الإجابة عن الأسئلة الآنفة الذكر تقتضي من كل عراقي وطني أيا كان موقعه أن يعيد النظر في قناعاته ويتحرر من الآراء المسبقة والأحكام القطعية والاستنتاجات السهلة المشحونة بالعاطفة، للتقدم بخطوات جسورة وشجاعة، نحو إنقاذ الوطن الذي يواجه لحظة من لحظات القدر التاريخية، التي قد تقوده إلى الخراب والدمار، أو إلى الازدهار والتقدم شرط أن نعرف كيف نقبض على هذه اللحظة.
ولعل الخطوة الحاسمة للقبض على هذه اللحظة، هي إقدام الجميع ودونما تردد أو إبطاء، إلى الحوار المسؤول. ومن يقتنع بما نقول: لابدّ من أن يؤمن بضرورة سلوك مسلك الحوار، حوار منضبط ومبني على أسس وطنية واضحة، وليس حوار إرضاء كل الأطراف، لأن ذلك \'\'توافق\'\' كالذي يحدث في لبنان، مشروع شلل وتفتيت... الحوار العراقي يجب أن يكون أسلوب جذب وتلاقٍ، ومنبعاً للنقد الذاتي والترفع عن السلبيات والأخطاء، عبر ومن خلال \'\'الخصم\'\' الذي يمكن أن يكون أخاً من جديد إذا أحسنا حواره. وقد يؤسس هذا الحوار لبناء العراق ما بعد الأزمة وذلك انطلاقاً من الأسس التالية:
1 ـ الإقرار بأن العراق يعاني من أزمة مركّبة من ناحية، ويواجه مؤامرة تهدد مستقبله من ناحية أخرى، وكذلك فإن عدم الإقرار بوجود أزمة يجعل فعالية المؤامرة أكبر، وكذلك فإن تجاهل المؤامرة سيفاقم الأزمة.
2 ـ إيقاف كل أشكال العنف وانتزاع أدواته من الجماعات والقوى التي تهدد أمن العراق على أن يترافق ذلك بخطوات إصلاحية مفصلية وحاسمة تطول رموز الفساد في جميع المستويات لتعزيز مصداقية الدولة وهيبتها لدى المواطن، ولتخفيف مصادر التوتر والعنف وإضعاف احتمالات نشوب الأزمة مرة أخرى.
3ـ إن مواجهة الأزمة تقتضي اعتراف الجميع بالأخطاء التي ارتكبت، دون أن تكون هذه الأخطاء مبرراً لأحد للتعامل بسلبية، أو بعبثية مدمرة، أو مدخلاً لتصفية الحسابات لاحقاً، مع ضرورة تحرر جميع القوى الفاعلة في المجتمع العراقي من منطق: من ليس معنا فهو ضدنا، لأن هذا المنطق يقود إلى التناحر وإقصاء الآخر، حيث لم يعد ينفع بعد اليوم التمترس خلف مفاهيم إيديولوجية، أثبت الواقع عدم فاعليتها ولا جدواها، فالعراق لا يستطيع اليوم حل أزمته بمفاهيم سلفية أو أصولية، ولا بمفاهيم شيوعية تقليدية، ولا بأوهام قومية رومانسية لاستعادة كيانات مندثرة، ولا بمنطلقات فكرية تشكلت منذ أكثر من ستة عقود، دون أن تخضع لمراجعة نقدية شاملة وجدية، ولم يتجسد أي من أهداف هذه المنطلقات في مشروع سياسي حقيقي، بل إن ما تجسد، ويا للمفارقة، هو ما يعاكس جوهر هذه المنطلقات، ويتناقض مع أهدافها!
والسؤال الأكثر إلحاحاً اليوم هو ليس عن جدوى الحوار، وإنما عن المبرر الأخلاقي والسياسي والبراغماتي لرفض الحوار من أي طرف سياسي أو مكون من مكونات المجتمع العراقي، لأن هدر الوقت وتعطيل الحوار أو مقاطعته، يعني ترسيخ الاستبداد والإسهام في خلق بيئة إلغائية، تناحرية تنسف أي جسور للثقة في المستقبل، وتؤسس لعنف لاحق، من خلال إتاحة الفرصة أمام أسوأ أنواع القناصة لتحريك المجتمع الأهلي نحو التشرذم والانقسام والتقاتل، ويندرج ضمن قائمة هؤلاء القناصين:
متعهدو الطوائف، والمقاولون الدينيون الجدد، والتكفيريون، وفلول المعارضة المهزومة تاريخياً، وحديثو النعمة الذين يدافعون عن امتيازاتهم وفسادهم، وأشباه المثقفين الطامحين نحو بريق الأضواء! لذلك فإن من يرفض الحوار يمارس شمولية مضادة، حتى ولو زعم أنه ضد الشمولية، وهو بمثل هذا السلوك كأنه يحقق نبوءة الصهيوني \'\'ناتان شارانسكي\'\' الذي لا يرانا إلا أقليات دينية وعرقية متناحرة!
فالعراق الجديد يعني إمكانية تحول الجديد إلى عادة أو تقليد يصبح مع الزمن مشكلة، أما العراق المتجدد فيعد بنموذج إقليمي يحتذى.
فالحكومة الوطنية في المرحلة القادمة يجب أن يشترك فيها كل الأطراف وألا يظهر فيها بالمقابل طرف مهيمن أو بارز يتحمل كل تبعات الفشل في حال حصوله، حتى نصل بسلام أو بأقل الأضرار إلى طاولة حوار يتقابل فيها (أنداد) يحملون الهم الوطني، للعبور بالعراق إلى بر الأمن والأمان أولاً، وبناء الدولة العصرية الديمقراطية ثانياً، التي تكفل لجميع المواطنين حياتهم وحقوقهم وكراماتهم وتطالبهم بما عليهم من واجبات تجاه وطنهم بعدما أثبتوا خلال هذه المرحلة الصعبة من تاريخ العراق أن مدد الجيش العراقي في مواجهته لجيش الإرهاب الدولي كان من بين صفوف هذا الشعب الذي أثبت للعالم قدرته الأسطورية عندما يواجه حرباً، وسيؤكد قريباً عمقه التاريخي عندما يخوض تجربته الديمقراطية.
وهنا نتساءل: ألسنا اليوم بأحوج ما نكون إلى التفكير بطريقة العبقري الإيطالي \'\'ليوناردو دافينشي\'\'، الذي اعتاد أن يفكر بالجسر كلما فكر بالهاوية، ولعل مثل هذا التفكير هو الذي ينبغي أن تتسلح به كل الطوائف العراقية، لمد الجسور مع الآخرين المختلفين لتجنب السقوط في الهاوية، فالدم العراقي المسفوك ومستقبل الأجيال، يستحقان من الجميع الجلوس على طاولة الحوار، والتخلي عن الخسائر التكتيكية كأفراد وكقوى سياسية، من أجل إستراتيجية ولادة العراق الجديد المتحرر من أعباء الفساد والطائفية والاستبداد ليكون نموذجاً يحتذى به، وإلا فإن العراقيين سيمنحون الآخرين فرصة تحديد مسارات وتوجيه خطوات العراق نحو موت معلن في وضح النهار.

محرر الموقع : 2014 - 08 - 20