لاجئون عراقيون عالقون خلف سياج المخيمات
    

 المياه تتدفق من الخيم والخدمات سيئة جدا، المرض يفتك ببعضهم ولم يقابلهم أي مسؤول لغرض تقديم طلبات لجوء. عراقيون عالقون في مخيمات أشبه بالمعتقلات في ليتوانيا. لماذا غادروا العراق؟ وهل يرغبون في العودة رغم الظروف الصعبة؟

 استغرق الأمر نحو أربعين دقيقة بالسيارة من العاصمة فيلنيوس حتى مخيم رودنينكاي. توقفنا أكثر من مرة لسؤال سكان القرية عن الطريق المؤدي إلى المخيم. شاهدنا رجلا يخرج من منزله قرب الغابة، قدماه تكادان لا تستطيعان حمله، وجهه يبدو غاضبا لكن عينيه ترقصان من تأثير السُكر. سألته مرافقتنا عن الطريق إلى المخيم فأجابها: “إن كنتم من فيلنيوس وجئتم للتجول في الغابة فتبا لكم. أما إن كنتم صحفيين تريدون مساعدة أولئك المساكين في المخيم، فإنه هناك”.

سرنا في طريق قديم في الغابة، فجأة ظهر لنا المخيم، توقفنا وهرول إلينا بسرعة الحرس للسؤال عن سبب قدومنا، فنحن رجلان شرق أوسطيان يشبهان كثيرا ملامح المحتجزين في المخيم ومعنا سيدة أوروبية. قلنا للحرس نحن صحفيون من DW عربية وموقع مهاجر نيوز. طلب واحد منهم رفيع الرتبة هوياتنا، وحين قرأ أننا من “دويتشه فيله” ابتسم قائلا “أعرف قناتكم”. لكنه رفض دخولنا المخيم من دون إذن من وزارة الداخلية، فالمخيمات أغلقت لتوها بوجه الصحافة بعد هروب عدد من المهاجرين غير النظاميين.

انتظرنا ثلاث ساعات حتى حصلنا على موافقة من مكتب وزيرة الداخلية، فجاء الحرس مهرولين هذه المرة أيضا لكن لفتح بوابة المخيم.

الصدمة

كارافانات وخيم صغيرة وكبيرة تحيط بها أسيجة من الحديد، لم يسمح لنا بدخول الخيم ربما حفاظا على سلامتنا وصحتنا، لكن سمح لنا بلقاء المهاجرين من خلف السياج. معظم الوجوه شرق أوسطية والبعض من أفريقيا. الملابس رثة وسخة والوجوه متعبة لحد الأعياء. أغلبهم شباب بالعشرينات.

العراقيون منهم يشكون من ظلم الدولة وسلطة الأحزاب والميليشيات، واحد منهم بدأ بشتم أحد أبرز القادة العراقيين، فرد عليه آخر بإن “القائد” لا يتحمل مسؤولية الفساد في العراق. صراع في الأفكار، حتى وهم خلف سياج حديدي في وضع مزر وسط غابة رطبة. أغلبهم ممن اشترك في التظاهرات التي اندلعت بالعراق في أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

اشتكوا من الخدمات ومن أن وجبات الطعام سيئة ويقولون إن هناك وجبة طعام واحدة ساخنة في اليوم، والمتبقي بسكويت وخبز مجفف لا يؤكل. صرخ واحد منهم اسمه أحمد بالجميع: “لا تتكلموا عن الطعام والوجبات، فنحن جئنا من أجل أن نعيش بحرية لا لغرض الطعام، لسنا جياعا في بلادنا”.

المياه تميل إلى اللون الأصفر، مرافقتنا الأوربية قالت إن الجميع يستعمل هذه المياه للغسيل في القرى، وهذه ليست مياه ملوثة. مياه الشرب يحصلون عليها في قناني بلاستيكية. كل يوم تأتي شاحنة تبيع لهم ما يحتاجون، لكن الأسعار مرتفعة. يصرخ أحدهم :”السيدة صاحبة المتجر المتنقل تضاعف الأسعار كل يوم. وتستغل حاجتنا للطعام”.

“كل يوم أموت أكثر من مرة“

أحمد شاب من كربلاء، الإصابات بجسمه في كل مكان. يروي وأصابعه تلتف حول الفراغات في السياج الحديدي، قصة إصابته قبل 6 أعوام بانفجار سيارة مفخخة في الكاظمية في بغداد، فقد إحدى عينيه “خرجنا للتظاهر في العراق فقتلوا بعضنا، جئنا إلى أوروبا فعاملونا مثل الحيوانات”. يتكلم أحمد وعينه الأخرى التي ينظر فيها تبدو حزينة، مثل صوته.

عبد الله مصاب بداء الصدفية عمره 21 عاما، يعاني من المرض منذ 19 عاما والصدفية تغطي جسمه من رأسه إلى أخمص قدميه، خلع عنه ثيابه فبدا الجسد نحيلا متشققا وقال: “لا أستطيع الوقوف، كل يوم أموت أكثر من مرة، لم يعطوني العلاج”. وهناك أيضا شخص مصاب بمرض مزمن قاتل في الجهاز العضلي، وشقيقه الآخر مصاب بنفس المرض، لكنه ممدد في الخيمة لا يستطيع النهوض.

البعض تحدث عن وجود حالات إصابة بفيروس كورونا داخل المخيم. حالات الأمراض كثيرة والمخيم لا يصلح للعيش. ووزارة الداخلية الليتوانية تعرف ذلك. السياسي المحافظ ومساعد وزيرة الداخلية أرنولداس أبرامافيسيوس اعترف في حوار مع DW عربية أن هذا المخيم واحد من “أكثر الموضوعات تعقيدا في المخيمات التي تأوي لاجئين في ليتوانيا، قضية هذا المخيم قيد الدراسة”. وأضاف أبرامافيسوس أنه كان قد “أوضح مع وفد عراقي وصل إلى فيلنيوس قبل أسابيع أن السلطات ستهتم بأوضاع المهاجرين أكثر في حال توقف تدفقهم من بيلاروسيا بعد توقف الطيران المباشر من بغداد إلى مينسك”.

هناك بالفعل مخيمات أفضل، خصوصا تلك التي تأوي الأسر. كما أن الأوضاع ستتحسن في المستقبل ويتم الآن إنشاء مخيمات ملائمة، حسبما كشف لنا مسؤول رفيع في وزارة الداخلية، ونحن في طريقنا إلى مكتب مساعد الوزيرة، وعرض علينا بعض الصور لغرف حديثة ومؤثثة جيدا.

تذكرة سياحة أم لجوء؟

خلال متابعتي لأسابيع مجموعات على الفيسبوك وتلغرام، دخلت إلى واحدة من أكبر هذه المجموعات على فيسبوك تحمل عنوان “الهجرة عن طريق بيلاروسيا إلى أوروبا”، المجموعة أغلقها موقع فيسبوك قبل أسبوعين، بعد أن بلغ عدد الأعضاء فيها عشرات الآلاف خلال أيام قلائل. كان الحوار فيها يدور حول أسعار التذاكر من مطار بغداد إلى مطار مينسك وحول عدم الحاجة إلى مهربين لأن الطريق مفتوح. وعادة عند بلوغ “السائح” العراقي مطار مينسك، يكون في انتظاره موفد الشركة السياحية البلاروسية المتعاونة مع مكاتب السياحة في بغداد، موفد المكتب السياحي يطلب الاحتفاظ بجواز السائح وينقله إلى الفندق مباشرة ويبقى الفندق محتفظا بالجواز طيلة بقاء السائح في ميسنك ( بحسب ما كتبه كثيرون في هذه المجموعات).

ولغرض الهروب من الموفدين، ينفي السائحون أنهم حجزوا تذاكرهم عن طريق المكاتب ويستمرون بطريقهم، يستقلون سيارة أجرة إلى فندق آخر وربما البقاء لبضعة أيام كي يكونوا مجموعة أكبر من 6 أشخاص أو أكثر، بعضهم لا ينتظر طويلا يستقل سيارة أجرة مباشرة من المطار إلى الحدود مع ليتوانيا. 

أحدهم كان جريئا جدا، نشر على الهواء مباشرة فيديو على المجموعة وهو جالس مع اثنين آخرين في سيارة أجرة تقلهم إلى الحدود، كان بصحبتهم سيارة أخرى فيها ثلاثة شباب عراقيين. الشاب بدأ بالسرد، توقف بالطريق في محطة بنزين، أشتروا بعض الطعام المجفف والبسكويت وقناني المياه، كان في نفس الوقت على اتصال مع (صديق) له يعيش في روسيا، يتحدث مع السائق البيلاروسي بالروسية ويسأله عن الطريق. قرب الحدود تقف شاحنات في اتجاهها إلى ليتوانيا، قبل نقطة العبور بين البلدين، انعطفت السيارة إلى اليسار، نزل على طريق غير معبد وعلى بعد مئات الأمتار دخلت السيارات الغابة، اعتذر الشاب عن المواصلة في البث المباشر، قال إن هناك رجل شرطة على الحدود، نزل الجميع من السيارة وانقطع البث. بحثت في وجوه المهاجرين في مخيم رودنينكاي الذي يضم أكثر من 800 مهاجر، ربما سأعثر على الشاب الذي كان ينقل في بث مباشر طريقه إلى الحدود، لكني لم أعثر عليه.

مساعد وزيرة الداخلية في ليتوانيا أرنولداس أبرامافيسيوس حمل السلطات في بيلاروسيا حادث مقتل أحد المهاجرين العراقيين على الحدود، لأنها “تدعو شركات السياحة العراقية إلى جلب الشباب الراغب بالهجرة إلى أوروبا وتساعدهم في بلوغ الحدود مع ليتوانيا، ولهذا فإن السلطات البيلاروسية تتحمل المسؤولية الكاملة”.

كذلك فيتيس يوركونيس الباحث السياسي في منظمة فريدوم هاوس، يرى أن السلطات في بيلاروسيا تورط العراقيين الراغبين بدخول الاتحاد الأوروبي من خلال طريق الهجرة هذا، وقال في حوار مع DW عربية إن “ليتوانيا لا تمتلك البنية التحتية ولا الخبرة البشرية في معالجة قضايا اللجوء. وأول أزمة لاجئين عصفت بليتوانيا هي بعد لجوء كثير من المواطنين من بيلاورس إليها بعد الصراع السياسي مع الرئيس لوكاشينكو. النظام هناك لا يسمح لمواطنيه بعبور الحدود، لكنه يسمح لمواطنين من الشرق الأوسط بفعل هذا”.

ورقة سياسية

العراق أوقف رحلات شركة الخطوط الجوية العراقية إلى مينسك، وأرسل طائرات فارغة لتعيد العالقين منهم في بيلاروسيا،بعضهم مازال عالقا في مينسك بعد أن خسر كل ما عنده من أموال وعليه دفع تذكرة العودة بنفسه. السلطات في بغداد لا يمكنها منع العراقيين الذين يغادرون مطار بغداد بطريقة قانونية، حسبما ذكر مسؤولون عراقيون. كما أنها لا يمكنها منع من يرغب بالطيران منهم إلى الخارج إلى إسطنبول مثلا ومن ثم إلى مينسك. وحين أغلقت ليتوانيا حدودها ومنعت المهاجرين من العبور، فتحت حدود أخرى مجاورة في لاتفيا وبولندا، إذ عبر هناك المئات من بيلاروسيا إلى تلك الدول. 

حين تجولنا في مخيم رودنينكاي سألنا بعضهم عن طريق وصولهم إلى ليتوانيا، قالوا: “جئنا عن طريق مينسك، لكننا لسنا هجرة منظمة ولم نصل عن طريق مهربين، سمعنا بفرصة فتح منفذ إلى أوروبا وسافرنا”. أحدهم قال إنه قرر المجيء بعد وصول وزير خارجية ليتوانيا غابريليوس لاندسبيرغيس إلى بغداد لمناقشة قضية لجوء بعض العراقيين إلى بلاده.

سمعوا عن طريق وسائل التواصل بطريق بيلاروسيا المفتوح نحو أوروبا، يقول أحدهم يبيت ليله في شوارع مينسك، بعد أربعة محاولات لعبور الحدود إلى ليتوانيا وبولندا. اتصلت به وهو في مينسك، يروي لـ DW المعاملة السيئة التي تعرض لها من قبل رجال حرس الحدود الليتوانيين ورجال يصفهم بالملثمين “قابلونا بالضرب واستعمال العصا الكهربائية، رمونا داخل سيارة وانهالوا علينا بالضرب. صديقي الذي كان معي ضربه أحدهم بحذائه العسكري ولم يستطع التنفس لمدة خمس دقائق”.

هناك أنباء تتحدث عن معاملة سيئة على الحدود مع لاتفيا، لكن لا يمكن التأكد من صحتها. أما في بولندا التي دخلها فعلا الشاب يحي (اسم مستعار) وأمسكت به السلطات وأعادته إلى الحدود مع بيلاروسيا، فيقول إن الحرس لم يعاملوهم بشكل سيئ، لكن كانوا لا يعطوهم المساعدات. 

ويضيف يحي: “كنا في الوسط بين رجال حرس الحدود الليتوانيين والبيلاروسيين وكانوا يصرخون على بعضهم حتى أنني اعتقدت أننا سيطلق علينا النار ونموت وكنت أتوسل لحرس الحدود الليتوانيين ألَّا يطلقوا النار”. 

من الواضح أن العراقيين الذين توهموا أن الطريق مفتوح إلى أوروبا وبالخصوص إلى ألمانيا عن طريق بيلاروسيا قد وقعوا ضحية لعبة سياسية، يحي قرر ألّا يعود مرة أخرى إلى أوروبا، إلا بطريقة قانونية. 

سؤال مهم يبقى من دون إجابة: من أين انطلقت المعلومة الأولى أن  بيلاروسيا فتحت حدودها للعبور إلى ليتوانيا؟ رغم البحث عن إجابة، غير أن الأكيد في مأساة هؤلاء الشباب وأكثر من 4100 مهاجر دخلوا إلى ليتوانيا، أن الوضع ليس ورديا كما خيل لهم، وهذا ما تراهن عليه السلطات هناك أيضا لمنع تدفق المهاجرين، حسبما ألمح مساعد وزيرة الداخلية في فيلنيوس: “لقد انحشروا في مثل هذه المخيمات، وشاهدوا أن الحقيقة أصعب بكثير، وأنهم لن يحصلوا على اللجوء ولن يتمكنوا من الحصول على الخدمات المقدمة، فليتوانيا لا تملك الإمكانيات وتقديم طلبات اللجوء سيكون صعبا جدا، والعراقيون لن يحصلوا عليه، لأن ليتوانيا تعتبر العراق بلدا آمنا”.

فريق DW عربية ومهاجر نيوز

تقرير: عباس الخشالي

تصوير: حمزة الشوابكة

 

محرر الموقع : 2021 - 08 - 15