اخر الاخبار
إثارةُ الأمةِ تجاهَ أيتامِها: مبرّاتُ التضامنِ نَموذجًا في رعايةِ الروحِ قبلَ الجسدِ

في مرحلةٍ أعقبتْ سقوطَ النظامِ السابقِ في العراق، كانتِ الساحةُ الاجتماعيةُ والإنسانيةُ في أمسّ الحاجةِ إلى مَن يُضمدُ جراحَ الطفولةِ اليتيمةِ، ويُعيدُ للمجتمعِ بوصلتَهُ الأخلاقيةَ والقرآنيةَ. وكانَ لا بدَّ من مشروعٍ يُوقظُ في الأمةِ شعورَها الفِطريَّ تجاهَ الأيتام، فبرزتْ مبرّاتُ التضامنِ لرعايةِ وتأهيلِ الأيتام في محافظةِ ذي قار، بوصفِها صرخةً من نورٍ، ومبادرةً تستنهضُ الضمائرَ وتُوقظُ القلوبَ.
المبرّةُ من “البرّ”: المصطلحُ القرآنيُّ الذي أثارَ الوعيَ
تحدّثَ سماحةُ الشيخِ محمدٍ مهدي الناصري، المشرفُ العامُّ على مبرّاتِ التضامنِ، عن أصلِ المصطلحِ الذي أثارَ في بداياتِه تساؤلاتٍ مشروعةً لدى عامةِ الناسِ: ما “المبرّة”؟ وماذا تعني؟ ولماذا لا نستخدمُ مفرداتٍ مألوفةً كدارٍ أو مدرسةٍ أو مؤسسةٍ؟
ويُجيبُ الشيخُ الناصريُّ بأن مصطلحَ “المبرّةِ” مُستقى من القرآنِ الكريمِ، من قولِه تعالى: “لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ” [آل عمران: 92]، ليُغرسَ في الوعيِ الشعبيِّ أن البرَّ لا يكونُ بالأقوالِ، بل بالإنفاقِ الفعليِّ والعطاءِ المُحبَّبِ، وأنَّ رعايةَ اليتيمِ ليستْ صدقةً جاريةً فحسبُ، بل سبيلٌ إلى البرِّ القرآنيِّ الكاملِ. وهكذا، أصبحتِ التسميةُ جزءًا من الرسالةِ.
من التساؤلِ إلى الفهمِ.. ومن الفهمِ إلى التفاعلِ
لم تكنْ مهمةُ الترويجِ للمبرّاتِ إعلانًا عن مشروعٍ إنسانيٍّ فحسبُ، بل كانتْ معركةَ وعيٍ. ومع كلِّ خطوةٍ، ازدادَ الفهمُ المجتمعيُّ لكونِ هذه المبرّاتِ ليستْ مؤسساتِ رعايةٍ تقليديةٍ، بل محاضنَ تربويةً تهدفُ إلى إعادةِ تأهيلِ اليتيمِ على المستوياتِ النفسيةِ والتعليميةِ والاجتماعيةِ، في ظلِّ رعايةٍ متكاملةٍ تنبعُ من روحِ الإسلامِ الأصيلِ.
ومع انتشارِ المبرّاتِ، تغيّرتْ لغةُ الناسِ، وأصبحتِ “المبرّةُ” مفردةً يوميةً تترددُ في مجالسِ الخيرِ والعطاءِ، وأضحتْ تمثّلُ هويةً إنسانيةً قرآنيةً ذاتَ بُعدٍ وطنيٍّ واجتماعيٍّ.
دورُ التنسيقِ المؤسسيِّ: التربيةُ والإحسانُ جنبًا إلى جنبٍ
ولم يكنْ بدٌّ من أنْ تُثمرَ هذه الرؤيةُ تنسيقًا بين مديريةِ التربيةِ في المحافظةِ ومؤسساتِ الدولةِ من جهةٍ، وبين أهلِ الخيرِ والإحسانِ من جهةٍ أخرى. فتجلّى تناغمٌ واضحٌ بينَ التربيةِ وفاعلي الخيرِ من مختلفِ الفئاتِ، مما أضفى على المشروعِ طابعًا شعبيًّا لا نخبويًّا، وجعلَه جزءًا من وجدانِ المجتمعِ.
لماذا أُثيرتِ الأمةُ؟
أُثيرتِ الأمةُ لأن المشروعَ استندَ إلى حديثِ النبيِّ الأكرمِ (ص): “أنا وكافلُ اليتيمِ كهاتينِ في الجنةِ”، وأُثيرتْ لأن مبرّاتِ التضامنِ لم تكنْ مجردَ بناياتٍ، بل منظومةً إيمانيةً تبثُّ الروحَ في القيمِ المهجورةِ. أُثيرتْ لأن اليتيمَ فيها لا يُطعَمُ فحسبُ، بل يُحبُّ، ويُعلَّمُ، ويُربّى ليغدوَ مواطنًا فاعلًا لا عالةً.
مدارسُ الفرحِ وأمثلةٌ أخرى
ولعلَّ من مظاهرِ هذا الوعيِ المتنامي، تبنّي الحكومةِ العراقيةِ مشاريعَ مماثلةً، مثل مدارسِ الفرحِ للأيتامِ التي أطلقَها رئيسُ الوزراءِ محمد شياع السوداني، ما يُشيرُ إلى التأثيرِ العميقِ الذي أحدثتْه مبرّاتُ التضامنِ كنموذجٍ ناجحٍ، لم يقتصرْ على الخدمةِ، بل شملَ التأثيرَ المجتمعيَّ والسياسيَّ أيضًا.
الخلاصةُ: من الإثارةِ إلى الرسوخِ
لم تكنْ “إثارةُ الأمةِ” لحظةَ تعاطفٍ عابرةً، بل انبثقتْ منها حركةُ برٍّ متكاملةٍ، وأصبحتْ مبرّاتُ التضامنِ عنوانًا يُشارُ إليه بالبنانِ. وقد نجحتْ، بفضلِ مصطلحاتِها القرآنيةِ، ورسالتِها النبويةِ، وتفاعلِ الأمةِ معها، في تحويلِ رعايةِ اليتيمِ من مسؤوليةِ مؤسسةٍ إلى قضيةِ مجتمعٍ.
محمد الناصري