د. فاضل حسن شريف
ولو أن كلمة أمة بمفهومها العام تعني مجموعة ولكنها جاءت في القرآن الكريم بسياقات المجموعة الصغيرة والكبيرة منها المكانية والزمانية والعقائدية وغيرها كما في قوله تعالى “ما تسبق من أمة أجلها”، “أمة هي أربى من أمة”، “نبعث من كل أمة شهيدا”، “أمة من الناس”، “أمة معدودة”، “أمة واحدة”، “أمة وسطا”، “ادكر بعد أمة”، “كنتم خير أمة”، “إبراهيم كان أمة”، “أمة قد خلت”، “قالت أمة منهم”، “أمة يهدون بالحق”، “لكل أمة رسول”، “لكل أمة عملهم”، “دخلت أمة لعنت أختها”، “أمة مقتصدة”. قال الله تعالى “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (النحل 120) ) أي: كان إماماً وقدوة للناس يؤتمون به، يهتدون بهديه، ويقتدون بنهجه ولو أن هنالك آية تشير أنه عليه السلام اماما “وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ” (البقرة 124)، أو قائما مقام جماعة في عبادة الله، وقيل: إنه كان أمة منحصرة في واحد مدة من الزمان لم يكن على الأرض موحد يوحد الله غيره. وترجع تسمية أمة الاسلام الى ابراهيم عليه السلام “اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ” (الحج 78) وبهذا فان ابراهيم يمتلك خصوصية الامة والامامة بالأضافة الى الرسالة.
عن تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله عز وعلا “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (النحل 120) “إن إبراهيم كان أُمَّة” إماما قدوة جامعا لخصال الخير “قانتا” مطيعا “لله حنيفا” مائلاً إلى الدين القيم “ولم يك من المشركين”.
جاء في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قوله عز وعلا “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” ﴿النحل 120﴾ “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً” اختلف في معناه فقيل: قدوة ومعلما للخير قال ابن الأعرابي يقال للرجل العالم أمة وهو قول أكثر المفسرين وقيل أراد إمام هدى عن قتادة وقيل سماه أمة لأن قوام الأمة كان به وقيل لأنه قام بعمل أمته وقيل لأنه انفرد في دهره بالتوحيد فكان مؤمنا وحده والناس كفارا عن مجاهد ” قانتا لله ” أي: مطيعا له دائما على عبادته عن ابن مسعود وقيل مصليا عن الحسن “حنيفا” أي: مستقيما على الطاعة وطريق الحق وهو الإسلام “وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”.
وعن التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله عز وعلا “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” ﴿النحل 120﴾ بعد أن أشار سبحانه في الآيات السابقة إلى المشركين وانهم حللوا ما حرم اللَّه، وحرموا ما أحل، احتج عليهم بإبراهيم ( عليه السلام ) الذي يقدسونه، ويوجبون الاقتداء به، وقد وصفه بالصفات التالية: 1- “إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً” واختلفوا في تفسير الأمة، ونقل الرازي أربعة أقوال، أرجحها قولان: الأول ان إبراهيم كان يعدل أمة بما فيها. الثاني انه كان إماما، ومهما يكن فإن المراد بالأمة هنا أنه كان عظيما. 2- “قانِتاً لِلَّه” أي مطيعا له. 3- “حَنِيفاً” مستقيما متبعا الحق تاركا الباطل. 4- “ولَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”. هذا رد على المشركين الذين يدعون أنهم على ملة إبراهيم.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله عز وعلا “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” ﴿النحل 120﴾ كان إِبراهيم لوحده أُمّة. كما قلنا مراراً بأنّ هذه السورة هي سورة النعم، وهدفها تحريك حس الشكر لدى الإِنسان بشكل يدفعه لمعرفة خالق وواهب هذه النعم. والآيات تتحدث عن مصداق كامل للعبد الشكور لله، ألا وهو “إِبراهيم” بطل التوحيد، وأوّل قدوة للمسلمين عامة وللعرب خاصة. والآيات تشير إِلى خمس من الصفات الحميدة التي كان يتحلى بها إِبراهيم عليه السلام. 1 ـ “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً”. وقد ذكر المفسّرون أسباباً كثيرة للتعبير عن إِبراهيم عليه السلام بأنّه “أُمّة” وأهمها أربع: الأوّل: كان لإِبراهيم شخصية متكاملة جعلته أن يكون أُمّة بذاته، وشعاع شخصية الإِنسان في بعض الأحيان يزداد حتى ليتعدى الفرد والفردين والمجموعة فتصبح شخصيته تعادل شخصية أُمّة بكاملها. الثّاني: كان إِبراهيم عليه السلام قائداً وقدوة حسنة ومعلماً كبيراً للإِنسانية، ولذلك أطلق عليه (أُمّة) لأنّ (أُمّة) اسم مفعول يطلق على الذي تقتدي به الناس وتنصاع له. وثمّة إرتباط معنوي خاص بين المعنيين الأوّل والثاني، حيث أنّ الذي يكون بمرتبة إِمام صدق واستقامة لأُمّة ما، يكون شريكاً لهم في أعمالهم وكأنّه نفس تلك الأُمّة. الثّالث: كان إِبراهيم عليه السلام موحداً في محيط خال من أيِّ موحد، فالجميع كانوا يخوضون في وحل الشرك وعبادة الأصنام، فهو والحال هذه (أُمّة) في قبال أمّة المشركين (الذين حوله). الرّابع: كان إِبراهيم عليه السلام منبعاً لوجود أُمّة، ولهذا أطلق القرآن عليه كلمة “أُمّة”. ولا مانع من أنْ تحمل هذه الكلمة القصيرة الموجزة كل ما ذكر ما معان كبيرة. نعم فقد كان إِبراهيم أمّة وكان إِماماً عظيماً، وكان رجلا صانع أُمّة، وكان منادياً بالتوحيد وسط بيئة إِجتماعية خالية من أيّ موحد. وقال الشاعر: ليس على اللّه بمستنكر أنْ يجمع العالم في واحد. 2 ـ صفته الثّانية في هذه الآيات: أنّه كان “قانتاً لله”. 3 ـ وكان دائماً على الصراط المستقيم سائراً على طريق اللّه، طريق الحق “حنيفاً”. 4 ـ “وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” بل كان نور اللّه يملأ كل حياته وفكره، ويشغل كل زوايا قلبه.