*( رسائل ومبعوث)
لَحِقَ الأمَّةَ عارٌ بعد تسلّم يزيد الخلافة , ممَّا دعا أهل الكوفة الى إرسال الرسائل المتكررة لابن بنت رسول الله في المدينة , أرسلوا له الدعوة يحملونه المسؤولية أَمام الله والأمَّة إنْ تأخر عن إنقاذهم من ظلم الأمويِّين وعُنفهم.
تمهل الإمامُ, تأمَّل قبل أن يمتطي راحلته , ارتأى أَن يبعث مبعوثا فطنا وأمينا يوافيه بالأخبار !
وقع اختياره لهذه المهمة على ثقته وابن عمه , حمَّله رسالة لأَهل الكوفة : مِن الحُسينِ بن عَلي إِلى مَن بلغهُ كتابي هذا مِن أوليائِه وَشيعَتِه بالكوفة: سلامٌ عليكم، أما بعد: فَقَد أتَتْني كُتُبكُم، وفهمتُ ما ذكرتُم مِن مَحبَّتِكم لِقُدومِي عَليكم، وأنا بَاعثٌ إِليكم بِأخي وابنِ عَمِّي وثِقتي من أهلي مسلم بن عقيل، لِيعلمَ لِي كُنْهَ أمْرِكُم، ويكتبَ إِليَّ بما يَتبَيَّن له من اجتماعِكُم، فإن كان أمرُكم على ما أتَتْني بِه كُتُبُكم، وأخبَرَتني به رُسُلُكم، أسرعتُ القُدومَ إليكُم إِن شَاء اللهُ، وَالسَّلام.
ودَّعَ أهلَه وعمومَتَهُ ومضَى من مكَّة إلى ضريح النَّبيِّ يطوف حوله , صلَّى , سار يطوي البيداء حتى وصل ونزل ببيت المختار , سارع الناس يبايعونه تحت لواء الحسين.
استبشر مسلم حين بايعه ثمانية عشر ألفًا, كتب إلى الإمام يستعجله القدوم : فإنَّ الرائدَ لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا، فَعجِّل حين يأتيك كتابي، فإن الناس كُلُّهم معك، ليس لَهم في آل معاوية رأي وَلا هَوى.
سارع جواسيس يزيد إلى والي الكوفة النعمان بن بشير يطلعونه على ما يدور ويجري , رَدَّهم : إنِّي لا أقاتل إلَّا مَنْ يقاتلني, ولا أَثبُ إلَّا على مَن يثبُ عليَّ, ولا أخذُ بالظَّنة أَحدا .
هتف أَحدُهم : هذا رأي المستضعفين .
زجرهُ الوالي قائلًا : لأَنْ أكونَ ضعيفًا وأنا في طاعة الله أحَبُّ إليَّ من أَن أكون قويًا في معصية الله، وما كنتُ لأهتك سترًا ستره الله.
كتبوا إلى سيِّدهم يزيد في دمشق : مسلم بن عقيل استولى على أَفئدة الناس, والنعمان لا يحرِّك ساكنًا .
أجتمع يزيد مع مستشاريه يعرض عليهم المعلومات , أخذ برأي سرجون : عزل النعمان بن بشير وتولية عبيد الله بن زياد والي البصرة على ولاية الكوفة .
كتب له : أما بعد: فإنه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يُخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لِشَقِّ عصا المسلمين، فَسِرْ حين تقرأُ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه، أو تقتله، أو تنفيه، والسلام.
أخذ الخليفة برأي صاحبه الذي على غير ملة الإسلام, فعلها ابن مرجانه ؟
****
*( مطاردة)
جن جنون ابن زياد لإخفاقه بالقبض على مبعوث الحسين وفشل شرطته !
سهر ليلته يوحي إليه شيطانه مجموعة حيل خبيثة للإطاحة بخصمه , صرخ بالحاجب: نادِ لي على معقل التميمي , وقف بين يديه , سلمه صرة فيها مال , أمره أن يجرد نفسه شخصا غير شخصه , يجوب الكوفة زاعما ومتظاهرا بأنه أحد أنصار الحسين ويريد أن يأخذ مكانه بين الأنصار ويتبرع بما معه من المال لأشراء السلاح .
بعد عناء طويل أهتدى الجاسوس لضالته المنشودة , أستغل رجل صالح من أصحاب الحسين , أتقن دوره ليخدعهم جميعا , أصبح أثيرا عندهم , كان يزور مسلما في النهار كل يوم ,ويقضي ليله مع ابن زياد ينقل له الأخبار والأسرار .
*****
*( الطاغية يمسك قنصه)
ارسل شرطته لبيت هاني بن عروة , انتصب أمامه كالجبل الشامخ , فجأة : أيه يا هاني ماهذه الامور التي تحاك في دارك ضد أمير المؤمنين , جئت بمسلم وأدخلته دارك وجمعت له الرجال والسلاح , وظننت يخفى ذلك علي.
ـ أنكر , أستعد لمجابته, محاولا كسب الوقت ليفسح المجال لضيفه بالخروج من داره .
أردف ابن زياد .. أين خبئت مسلما !
ـ عليك أن تسأل قائد شرطتك عديم النخوة هذا , أنتهك حرمات النساء في البيوت ولم يجد مسلما ,ولو كان مسلم بهذا المكان لوقع بيد جلاوزتكم .
أذهله ابن زياد بمفاجأته الثانية , دعا جاسوسه , أنتصب أمام هاني كليل الشتاء طويلا باردا , سأله وكرر سؤاله صارخا مرتين: أتعرف هذا ؟
تقرب معقل من هاني وتحدث بصوت مرتفع : هل تتذكر الخمس والثلاثة الاف دينار التي اعطيتها لمسلم , أتتذكرها .
ـ صرخ بوجوههم : إن مسلما في داري وضيفي ولن أسلمه أبدا .
خفض الطاغية صوته كلمه بهدوء : ياهاني كان أبي صديقا مقربا لك , لاتدعني أسحق حرمة صداقة والدي , سأعاملك بغاية القسوة .
قل اين مسلم !
ـ كان عندي لبعض الأيام وقبل أن تطلق كلابك المسعورة على أهل بيتي خرج منه .
صرخ ابن زياد : وأين هو إلى أين ذهب ؟ أنت أَحد أنصاره المقربين ولابد أنك تعرف أين ذهب , أَلا تعرف ؟
لهج لسان هاني لالا أنا لا أعرف , ضربه الطاغية بقدمه اليمنى على عينه قائلا أَلا تعرف أيها الكاذب .
تألم هاني , نهض بسرعه فائقة يريد ضرب ابن زياد
سمع ابن زياد الضجيج حول دار الإمارة ,دخل الرعب قلبه , سأل حاجبه: أتسمع يا ابن حريث .
ـ نعم أيها الأمير .
أردف .. ما كل هذا الضجيج ؟
ـ لعلها قبيلة مدحج جاءت لخلاص هاني , لا أَعلم فديتك يا أَمير .
تقدم هاني خطوات رفع صوته : قبيلة مدحج , وإنه مسلم بن عقيل كان ولايزال في حمايتي . أمهلك فرصة يا ابن زياد تخرج من الكوفة وتترك نهائيا أمر مسلم وإلا أهدم الكوفة على رأسك يا ابن زياد .
قهقه ابن زياد بصوت عال , وسار بين حاشيه يقول : أتسمعون أيها المسلمون , هل ترون هذه الوقاحة ؟
هذا الرجل يتهجم علي ويهينني في عقر أمارتي , أقسم أن أهانتي لا يغسلها إلا الدم .
جرت بينهم مشادة كلامية ,جن جنون الطاغية , نادى جلاديه , أمرهم أن ينزلوا به أشد أنواع التعذيب دون القتل حتى لا يستريح في الموت !
همس في أذني معقل : أحضر شريح القاضي !
صعد سطح القصر ينظر إلى الجماهير المحتشدة , حذره قائد شرطته : هؤلاء مشاغلون ياأمير لاتظهر أَمامهم .
توقف , ردَّ عليه : الملاح الذي يغشى العواصف لايصل إلى مقصده .
طلَّ عليهم ابن زياد , رآه أحدهم رفع كفيه مناديا : توقفوا عن هتافكم يا أسود مدحج , يبدو أن ساكني هذه القصور قد سمعوا صيحاتكم , خاطبهم : أنتم أيها المغتصبون أطلقوا سراح هاني وإلا سندمر القصر على رؤوسكم .
تأمل ابن زياد هنيئة قائلا: أخوتي ياآل مدحج , هاني ليس أسيرا لكي نطلق سراحه , سأله أحدهم , ومن أنت.
رد عليه : أنا خادمكم ابن زياد . لقد سمعت أن آل مدحج شهروا سيوفهم وقصدوا دار الحكومة , فلا أصدق وجئت ارى بأم عيني , يا أحبتي هذا ظلم كبير منكم بحق وليكم .
قوم مدحج يعلمون مدى صداقة والدي زياد رحمة الله عليه بهاني . وكم كان عزيزا عليه وأنا لااريد أن أكون خلفا سيئا لوالدي لذلك أريد أن ارعى هذه الصداقة .
ولو كانت لي معه عداوة لما ذهبت لعيادته أن أهل الفتنة يعلمون مالدى قبيلة مدحج فيريدوا أن يلوثوا هاني في فتنتهم .
لهذا أتينا به لدار الحكومة كي لاتصل أيديهم إليه وبذلك فوتنا عليهم فرصة قتله ,هذا هو الآمر ببساطة .
رد متحدث القوم .. أنت تقول هذا لان بريق سيفنا خطف لونك , لكننا سمعنا أمرت بقتل هاني .
أجابهم : هاني مريض وإلا لكان جاء لشرطة القصر ليثبت لكم بنفسه ما أقول هو الصدق .
نطق كبير القوم : أن كنت تحب هاني كما تزعم لما هجمت بيته وهتكت حرمته .
أمتص غضبهم قائلا : معكم حق التفكر هكذا , فهذه قصة جاهل سقط في البئر لا يستطيع مئة عاقل إخراجه ,هذا خطأ بعض أفراد الشرطة : أرسلته يأتيني بالعمامة أتاني بالرأس ,لكن كونوا على ثقة سأعاقبهم عقابا شديدا .
صعق الكبير مسامع الطاغية بقوله : المدحجيون جميعا فداء لهاني ونحن نقسم بالله لو قطعت شعره من رأسه سيكون عقابك عسيرا , التفت لقومه خاطبهم : ياآل مدحج لا أطمئنان لأَقوال هذا الرجل ,فما لم تشاهدوا هاني بعيونكم لن تصدقوا.
تعصب ابن زياد وأطبق أسنانه ثم نطق : حسنا , إذا لم تصدقوا ما أقول عليكم اختيار حكم محايد ليدخل القصر ويشاهد هاني , ويخرج ليبلغكم صدق ما أقول .
هل تقبلون شريحا القاضي ؟
رد كبيرهم : نعم نقبله , رجل متدين وهو صادق , نقبله حكما بيننا .
أقنعهم شريحا ببعض الآيات والحديث وظللهم بمكره , تقهقروا وتراجعوا وخذلوا زعيمهم .
تكالب على هاني المجرمون , يكسرون أنفه , يمزقون لحم وجهه ,يهشمون عظامه , وهو صابر محتسب .
*****
*( محاولة أنفاذ أسير)
طار خبر مصرع هاني إلى مسلم , جمع رجاله وأنصاره , سار بهم إلى قصر الإمارة يهتفون: يا مَنصُور أَمت, ضربوا حصارا رهيبا حوله .
لكن رغم كثرة رجال مسلم بأضعاف حرس الطاغية لم يضرب ضربته , لم يستغل هيجان الناس وثورتهم التي تشتعل في نفوسهم انتقاما وغضبا لمقتل هاني بن عروة!
نجى ابن زياد مرة ثانية بسبب ما تحمل ثورة الحسين من أخلاق وفضائل .
أكتفى مسلم في يومه بما مرسوم له من قائد الثورة بالحصار الذي ضربه وأحكمه .
عد ابن زياد حيله مع أنصاره من بعض زعماء الكوفة داخل القصر لفك الحصار , أبلغهم الخروج وقت ساعة الغروب يخبرون الثائرين جيش الشام في طريقه إليهم وسيحيل أحياءها قتلى , ودورها ترابا .
خرج الزعماء وبث الرعب بين صفوفهم , نصحوهم بالانصراف على أمل معالجة الآمر فيما بعد .
انصرفوا بحجة حقن الدماء .
*****
*( المبعوث شهيدا)
صلَّى مسلم جماعة ببعض من أَنصاره , ففروا واحدًا بعد الآخر , انتهت الصلاة , التفت يمينا وشمالا رأى نفسه وحيدًا طريدًا مُشرَّدًا، لا مأوى يأوي إليه، ولا قَلبٌ يعطف عليه!
قضى ليلته حزينًا تساوِرُه هُموم قدوم الحسين وأهل بيته ,يتعبَّد ما بين الصلاة وقراءة القرآن , أخذته غفوة فرأى في منامه عَمَّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أخبره بِسرعَةِ اللحَاق به!
يجوب مسلم أزقة الكوفة , رأى أمرأة تقف على بابها يبدو أنها تنتظر ولدها أو زوجها ,القى السلام عليها , حدثها : يا أمة الله أسقيني ماء ، فسقته وجلس .
خاطبته : يا عبد الله ، قم فاذهب إلى أهلك ؟
أجابها : يا أمة الله ما لي في هذا المصر منزل ، فهل لك في أجر ومعروف ، ولعلّي أكافئك بعد اليوم ؟
سأَلته : ومن أنت ؟
ـ أنا مسلم بن عقيل ، فأدخلته إلى دارها .
انفلق عمود الفجر وانفتل من صلاته ودعائه ونوافله تأهب لمجاهدة من مرق عن الدين وأعرض عن وصايا النبي في أهله وذويه , كلم طوعة : قد اديت ما عليك من البر والإحسان ، وأخذت نصيبك من شفاعة رسول الله.
صباحا زرع ابن زياد شرطته على طول الكوفة وعرضها وكمن لمسلم بعد أن تلقى معلومات من ابن طوعة بوجود مبعوث الحسين في دارهم , أمر الطاغية ابن الأشعث أن يذهب إليه في سبعين من قيس ليأتيه به.
قاومهم بسيفه وعزمه وهو يرتجز قائلا: أقـسمت لا أقـتل إلاّ حرّا إنّي رأيت الموت شيئاً نكرا
كـلّ امرئ يوماً ملاق شرّا أخـاف أن أكذب أو أغرا
أثخن بالجراحات , فألقوا عليه القبض ، حملوه أسيرًا إلى ابن زياد ,وقف أمامه صامتًا رافضًا إلقاء السلام عليه .
أطلق الطاغية عنان لسانه بالسب والشتم لعليٍّ وعقيلٍ والحسين .
سأله ابن زياد : أتراك ترجو الحياة والبقاء ؟
ـ أجابه : إذا كنت تريد قتلي , فدعني أوصي لقومي .
أمر ابن زياد : أصعدوا به فوق القصر وأضربوا عنقه ، ثمّ أتبعوه جسده ، أخذه بكر بن حمران الأحمري ليقتله ، ومسلم يكبّر الله ويستغفره ، ويصلّي على النبي وآله ويقول : اللهم أحكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا.
وأصدر أمرًه الثاني بقتل هاني معه , ورميهما من أعلى القصر , وسحبهما بحبلين في الأسواق.
…………………..
المجموعة القصصية ظمأ وعشق , للكاتب مجاهد منعثر منشد , مطبعة جسد , الطبعة الأولى , ص52ــ 62).