اخر الاخبار
القدرة تقلّل الشهوة و الحرمان يزيدها «إذا كثرت المقدرة قلّت الشهوة» / محمد جواد الدمستاني

القدرة تقلّل الشهوة و الحرمان يزيدها
«إذا كثرت المقدرة قلّت الشهوة»
محمد جواد الدمستاني
العلاقة بين قدرة الإنسان في الحصول على الأشياء و اشتهائها عكسية، فكلما زادت قدرته و تمكّنه قلّت معها الرغبة و الشهية و التعلق بها، و الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة «إِذَا كَثُرَتِ الْمَقْدِرَةُ قَلَّتِ الشَّهْوَةُ»[1]، و كثرة الأشياء و توفرها تخفض قيمتها في أعين أصحابها و النّاس، بينما ندرتها و قلتها ترفعها في أعينهم.
و الشّهوة و الجمع الشّهوات هي ما يُشتَهى من الملذّات المادية، قال تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ»[2]، و الاطلاق في الحكمة يشمل كل الرغبات و الأمنيات و الغرائز.
و عادة الإنسان أن يتلهف على ما يعجز عن تحصيلِه و ما يصعب من تملكه فيشتد في سعيه للحصول عليه و يطلبه بجهد، و أما القادر المتمكن فنفسه مستقرة، و يلبي رغبته وقتما يريد فلا موجب للتلهف و التحسر فتخف شهوتُه و ينقص طلبُه، فالقدرة تخفف أو تقلل الشهوة و الرغبة.
و الفقير الجائع يتلذذ بالأطعمة البسيطة و بقطع من الخبز اليابس أكثر من مما يتلذذ الغني بأنواع الأطعمة المتعددة و المتنوعة، و يمكن تصور أن يجلس عدة أشخاص على سفرة واحدة منهم الأغنياء و الفقراء و يأكلون معا نفس الطعام، و لكن الفقراء يتلذذون به أكثر من تلذّذ الأغنياء فإنّهم نتيجة للشبع و القدرة على حصول الأطعمة لا يكون عندهم تلهف و شهية و رغبة كبيرة للطعام كما هي عند الفقراء، فحالة النَهَم و الشهية و الشَرَه تكون عند المحرومين أكبر منها عند المترفين و الميسورين، و في نهج البلاغة في وصف النبي عيسى (ع) قال أمير المؤمنين (ع): «وَيَأْكُلُ الْجَشِبَ، وَ كَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ، وَ فَاكِهَتُهُ وَ رَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ»[3]، إدامه الجوع فإنّ الجائع هو من يتلذذ بالطعام فكأنّما الجوع إدام، أما الشبعان فلا يتلذذ مثله.
و هذا يسري في كل المشتهيات الأخرى مثل اللباس أو وسائل النقل و المال و الأعمال و التملك أو الزواج و النكاح، و مطلق الشهوات و الرغبات، فإنّ المتزوج بأربع نساء ليس مثل الأعزب في شوقه و رغبته.
و كل ما أصبح الشيء في متناول اليد أو ملكه الإنسان قلّ الاهتمام به و الرغبة إليه، و كل ما حرم من شيء زادت الرغبة فيه، و في الأطعمة مثال واضح فإنّ من يُحرم من طعام معين تاق و اشتاق إليه، و من يملكه دائما يزهد فيه و قد يبتعد عنه.
و إنّ بائع الفواكه لا يرغب في الفواكه رغبة شديدة كغير باعتها، و العاملين في متاجر الحلويات لا تكون رغبتهم في الحلويات مثل رغبة المحروم.
و قد يصل الأمر إلى كره ما تكرر أكله، و قال أحد العراقيين من بائعي الشاي مع أهله و أقربائه أنّهم تم حصارهم عدة أيام فلم يستطيعوا الخروج فاضطروا في فترة حصارهم إلى البقاء في المتجر و إلى شرب الشاي دون غيره من الأطعمة و الأشربة لعدم توفرها في متجر الشاي، و بعد فك الحصار صار يكره شرب الشاي و توقف عن شربه.
و بعض الذين يقومون بالرجيم أو برنامج الغذائي الخاص لفترة طويلة بمواد محدودة، تقلّ مع الأيام رغبتهم في هذه الأطعمة المتكررة، بل و قد ينفرون منها أو من بعضها مع توفر غيرها لمدة معينة بعد انهاء البرنامج.
و الأغنياء الأثرياء ممن لديهم القدرة على شراء ما يرغبون دون أدنى حرج يفقدون متعة الشراء كما هي عند الفقراء أو متوسطي الحال، فإنّ للشراء متعة ظاهرة عند غالبية النّاس أظهروها أم أخفوها و خاصة النّساء فإنّ لديهم رغبة شديدة و مبالغة يمكن تسميتها «شهوة الشراء عند النّساء» يمكن مشاهدة ذلك في الأسواق و في الحج و الزيارة بوضوح، هذه القدرة المالية الكبيرة عند الأثرياء تُفقد المتعة و اللذّة في الشراء، كما تفقد تقريبا الأماني المتعلقة بالجانب المالي فالثريّ يستطيع الحصول على ما يرغب فيه فلا يتمناه أو يحلم به لأنّه يحصل عليه مباشرة، فالأغنياء و الأثرياء ليس لهم أماني كثيرة كالفقراء.
و المحروم و الخائف من الحرمان تزداد رغبته، و كمثال معاصر عام يمكن ذكر بعض الشواهد في أوائل أيام انتشار فايروس كورونا، وأشيع في بعض البلدان الغنية بأنّ بعض المواد الغذائية ستنتهي من الأسواق، فهلع الناس للأسواق لشراء المزيد من المواد و تخزينها بأضعاف ما يحتاجونه، و كانوا قبل انتشار الفايروس لا يهتمون و لا يشترون إلا ما يحتاجونه، فكان الخوف في تحصيله دافعا لهم للإكثار منه، و تحصيله و الإكثار منه يقلّل الرغبة و الشّهوة.
و من فروع الكلام في الحكمة أنّ من ينال الاهتمام الكبير أو المفرط كبعض الأطفال و الأحفاد الأوائل أو الحفيد الأول أو بعض المشاهير المعروفين على نطاق واسع في المجتمعات لا يحفل و لا يعتني أو لا يقدّر ذلك الاهتمام و محبة الآخرين له كما يعتني و يحفل به من حُرم منه أو من يرغب فيه.
و من هذا علاقة العاشق و المعشوق فإنّ فراق المحبوب بتمنعّه و إعراضه أو بدلاله و غنجه يزيد من حبّ العاشق و يكثر من الرغبة و الاشتهاء له.
و يمكن أن يستفاد من الحكمة في التخفيف و الاقتصاد في المقتنيات و الممتلكات عامة، و عدم الاستكثار منها، و تقليل الأشياء التي يرغب الإنسان في بقاء قيمتها في عينه و نفسه.
و كذلك في عدم الإشباع من الأشياء عامة بما فيها الأطعمة و الأشربة التي هي موضوع لكثير من الروايات الشرعية و العلوم الطبية بالامتناع من الإكثار منها لأضرارها على جسم الإنسان.
و إنّ الوفرة و الكثرة تخفض الشغف و التعلق بالأشياء مقابل الندرة و القلة تزيدهما، و إنّ الإقلال و الفقر يزيد الحرص و الرغبة في الزيادة و المتعة في الحصول عليها.
و ليس في الحكمة دعوة للفقر أو لعدم القدرة و لكن بها تقبيح لامتلاك الأشياء الكثيرة دون الحاجة إليها، كما يفعل بعض النّاس، و تنفير من الترف و السرف.
و في كلمات أمير المؤمنين (ع) عدة أشياء تقلل الشهوة و تنقصها، و منها:
كمال العقل «إذا كَمُلَ العَقلُ نَقَصَتِ الشَّهوَةُ»[4].
و العِفَّةُ «العِفَّةُ تُضعِفُ الشَّهوَةَ»[5].
و كرامة الإنسان و مروءته «مَن كَرُمَت علَيهِ نَفسُهُ هانَت علَيهِ شَهَواتُهُ»[6].
و الزهد «فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ،..، وَ ظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ»[7]، فالزهد يكسر او يمنع الشهوات.
و التفكر في الآخرة و الجنة «مَنِ اشتاقَ إلَى الجَنَّةِ سَلا عَنِ الشَّهَواتِ»[8]، «مَن أحَبَّ الدّارَ الباقِيَةَ لَهِيَ عَنِ اللَّذّاتِ»[9].
فـــــإِذَا كَثُرَتِ الْمَقْدِرَةُ قَلَّتِ الشَّهْوَةُ، و إِذَا قَلَّتِ الْمَقْدِرَةُ كَثُرَتِ الشَّهْوَةُ.
[1] – نهج البلاغة، حكمة 245
[2] – سورة آل عمران، آية 14
[3] – نهج البلاغة، خطبة 160
[4] – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٢٨٥، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ١٣٤
[5] – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ١٢٤، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٦٧
[6] – نهج البلاغة، خطبة 449
[7] – نهج البلاغة، خطبة 83
[8] – عيون الأخبار، ابن قتيبة الدينوري، ج٢، ص 381
[9] – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٦٢٥، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٤٥٩
Play Video