اخر الاخبار
الاستعداد للرحيل من الدّنيا «من تذّكر بعد السّفر استعد» /محمد جواد الدمستاني

الاستعداد للرحيل من الدّنيا
«من تذّكر بعد السّفر استعد»
محمد جواد الدمستاني
كما في السفر الدنيوي من منطقة إلى أخرى أو من بلد إلى بلد حيث يستعد المسافر للسفر بتهيئة مقدماته من وسيلة نقل إلى لوازم السفر من مال و غيره و هذه الأيام باستخدام سيارة أو طائرة، و قطع تذكرة سفر و تهيئة ما يلزم من سفر هذا الزمن، و ما كان يصطلح به قديما من الزاد و الراحلة، أي كل ما يتقوت به من المأكول و المشروب، و كل ما يركب لقطع المسافة، و الاستعداد الجيد له قبل الشروع فيه من تحضيرات نفسية و مادية، و السعي في تيسير و تخفيف أتعاب و مشقات التنقل فــــ «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ»[1]، كذلك السفر الأخروي حيث الانتقال من عالم الدّنيا إلى عالم الآخرة ينبغي تذّكره و الاستعداد و التهيؤ له، قال أمير المؤمنين عليه السلام «مَنْ تَذَكَّرَ بُعْدَ السَّفَرِ اسْتَعَدَّ»[2]، و المقصود هنا السفر الأخروي و هو الموت و الاستعداد له بالتقوى، و المعنى تذّكروا سفر الآخرة و استعدّوا له.
و الاستعداد بأن يهيئ الإنسان نفسه بالتوبة و العمل الصالح و ترك الغفلة، و يدرك حقيقة هذه الدّنيا و لا يتغافل عنها أو ينساها من كونها طريق عبور و دار ممر لا مقر و أنّه عمّا قريب تاركها و مخلف ورائه متاعها فيصلح نفسه و يتقّي و يستعد للقاء ربّه.
و التشبيه بين سفر الدّنيا و الآخرة يشمل فراق الأهل و الأحبة و دار السكنى، و ترك متعلقاته في مبدأ السفر و مكان الإقامة، و حاجته إلى مستلزمات السفر من زاد و راحلة و في الآخرة إلى زاد التقوى و العمل الصالح، كما أنّه يتغير عليه أجواء السفر عن مكان الاستيطان أو الإقامة و ربما تحصل مفاجئات، و بعض الأسفار بها مخاطرة و أخرى بها حذر، و الانتباه إلى أنّ النجاة في التهيؤ و الاستعداد، و الخسارة و الندم في عدمهما، و يزيد في سفر الآخرة أنّ كل شيء عمله في الدّنيا مكتوب و محسوب و لا مفر من الحساب.
و المعنى العام هو الاستعداد لقادم الأيام و مستقبل الزمان و عدم الارتخاء و الغفلة دون العمل و الاجتهاد و أهمها سفر الآخرة، فعلى الإنسان أن يجهّز نفسه للمستقبل بأحسن التجهيز و أفضل التخطيط و بالعمل الصالح و التقوى.
و في مقام آخر سئل أمير المؤمنين عن الاستعداد للموت، فقال (ع): «أَداءُ الفَرائِضِ، وَاجْتِنابُ الْمَحارِمِ، وَ الْإِشْتِمالُ عَلَى المَكارِمِ، ثُمَّ لا يُبالى أَوَقَعَ عَلَى الْمَوْتِ، أَمْ وَقَعَ الْمَوْتُ عَلَيْهِ، وَاللّهِ ما يُبالى ابْنُ أَبى طالِبٍ أَوَقَعَ عَلَى الْمَوْتِ أَمْ وَقَعَ الْمَوْتُ عَلَيْهِ»[3]، أي تأدية حقوق الله و حقوق النّاس.
و في الرواية عن أمير المؤمنين (ع) «اَلنَّاسُ نِيَامٌ فَإِذَا مَاتُوا اِنْتَبَهُوا»[4] معنى الطلب بالتيقّظ و الاستعداد للموت قبل حصوله، فغالبية النّاس في الدّنيا لاهون و غافلون، و مشغولون بأعمالهم و شؤون حياتهم، و البعض يغلب عليه الهوى و حب الدّنيا فما يتذكر سفر الآخرة إلا القليل، في حين أنه من الضروري عدم نسيان هذا السفر أبدا و الاستعداد له دائما، لأنّنا كلنا مقبلون عليه و سنقوم به، و الزاد هو التقوى و من لا تقوى له لا زاد له، و في نهج البلاغة أيضا: «آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ، وَ طُولِ الطَّرِيقِ، وَ بُعْدِ السَّفَرِ، وَ عَظِيمِ الْمَوْرِدِ»[5]، و في الغرر «احْذَرْ قِلَّةَ الزَّادِ وَ أَكْثِرْ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِرِحْلَتِكَ»[6].
و الحكمة من ضمن مواعظ الإمام عليه السلام في الاستعداد للموت و عدم الغفلة عنه، و كان أمير المؤمنين (ع) بالكوفة إذا صلى العشاء الآخرة ينادى الناس ثلاث مرات حتى يسمع أهل المسجد «أَيُّهَا اَلنَّاسُ تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ»[7].
و روي عنه (ع) كثيرا من الروايات في ذكر الموت و أهميّة التّهيّؤ له، و شمل نهج البلاغة و غيره كثيرا من الروايات في التنبيه بالموت و الاستعداد له، قال (ع): «فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ .. وَ اسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ»[8]، و «عَلَيْكَ بِحُسْنِ التَّأَهُّبِ وَالِاسْتِعْدَادِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الزَّادِ»[9]، و «أَلَا مُسْتَعِدٌّ لِلِقَاءِ رَبِّهِ قَبْلَ زُهُوقِ نَفْسِهِ»[10].
و في النهج قال: وَ تَبِعَ جِنَازَةً فَسَمِعَ رَجُلًا يَضْحَكُ فَقَالَ: «كَأَنَّ الْمَوْتَ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا كُتِبَ، وَ كَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ، وَ كَأَنَّ الَّذِي نَرَى مِنَ الْأَمْوَاتِ سَفْرٌ عَمَّا قَلِيلٍ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ نُبَوِّئُهُمْ أَجْدَاثَهُمْ وَ نَأْكُلُ تُرَاثَهُمْ كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ ثُمَّ قَدْ نَسِينَا كُلَّ وَاعِظٍ وَ وَاعِظَةٍ وَ رُمِينَا بِكُلِّ فَادِحٍ وَ جَائِحَةٍ»[11].
و في الوصية التي كتبها أمير المؤمنين (ع) لابنه الإمام الحسن (ع) عند انصرافه من صفين، «يَا بُنَيَّ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَ ذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ وَ تُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَأْتِيَكَ وَ قَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ وَ شَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ، وَ لَا يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ»[12].
و في وقعة صفين روى المنقري أنّه لمّا قدم أمير المؤمنين (ع) من البصرة إلى الكوفة قال في أول خطبة «أَلاَ إِنَّ اَلدُّنْيَا قَدْ تَرَحَّلَتْ مُدْبِرَةً، وَ اَلْآخِرَةُ تَرَحَّلَتْ مُقْبِلَةً، وَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ اَلْآخِرَةِ، اَلْيَوْمَ عَمَلٌ وَ لاَ حِسَابَ، وَ غَداً حِسَابٌ وَ لاَ عَمَلَ»[13].
و لكن كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام «مَا أَكْثَرَ الْعِبَرَ وَ أَقَلَّ الِاعْتِبَارَ»[14]، فالنّاس عامة تنشغل بالدّنيا و تنسى الآخرة أو تغفل عنها مما يترك آثاره في أفعالهم و أقوالهم، فإنّ تذكّر الموت و الآخرة يردع عن المعاصي و يخّفف الظلم و الغرور عند الإنسان، و هذه الحكمة لتذكيرهم و تنبيههم بالآخرة و قرب سفرها لعلهم يتّقون.
[1] – من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج٢ ص٣٠٠ ، و ج4 ص380
[2] – نهج البلاغة، حكمة 280
[3] – الأمالي، الشيخ الصدوق، ص ١٧٢
[4] – خصائص الأئمة علیهم السلام، الشريف الرضي، ص112، عیون الحکم ، الليثي الوسطي، ص 66، كما تروى عن رسول الله صلى الله عليه و آله
[5] – نهج البلاغة، حكمة 77
[6] – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ١٦٣
[7] – الأمالي، الشيخ الصدوق، ص ٥٨٧، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج68، ص172، ، نهج البلاغة، حكمة 204 (و من كلام له عليه السلام كان كثيرا ما ينادي به أصحابه: تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ)، خصائص الأئمة، الشريف الرضي، ص ٩٨
[8] – نهج البلاغة، خطبة 64
[9] – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٤٤٦
[10] – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ١٧٦
[11] – نهج البلاغة، حكمة 122
[12] – نهج البلاغة، الوصية 31 (يَا بُنَيَّ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَ ذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ وَ تُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ وَ قَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ وَ شَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ وَ لَا يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ وَ إِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا وَ تَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا فَقَدْ نَبَّأَكَ اللَّهُ عَنْهَا وَ نَعَتْ هِيَ لَكَ عَنْ نَفْسِهَا وَ تَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلَابٌ عَاوِيَةٌ وَ سِبَاعٌ ضَارِيَةٌ يَهِرُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَ يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا وَ يَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ وَ أُخْرَى مُهْمَلَةٌ قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا وَ رَكِبَتْ مَجْهُولَهَا سُرُوحُ عَاهَةٍ بِوَادٍ وَعْثٍ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ يُقِيمُهَا وَ لَا مُسِيمٌ يُسِيمُهَا سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى وَ أَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى فَتَاهُوا فِي حَيْرَتِهَا وَ غَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا وَ اتَّخَذُوهَا رَبّاً فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَ لَعِبُوا بِهَا وَ نَسُوا مَا وَرَاءَهَا).
[13] – وقعة صفين، ابن مزاحم المنقري، ص 1 (لَمَّا قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنَ اَلْبَصْرَةِ إِلَى اَلْكُوفَةِ – يَوْمَ اَلْإِثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَ ثَلاَثِينَ وَ قَدْ أَعَزَّ اَللَّهُ نَصْرَهُ وَ أَظْهَرَهُ عَلَى عَدُوِّهِ وَ مَعَهُ أَشْرَافُ اَلنَّاسِ وَ أَهْلُ اَلْبَصْرَةِ اِسْتَقْبَلَهُ أَهْلُ اَلْكُوفَةِ وَ فِيهِمْ قُرَّاؤُهُمْ وَ أَشْرَافُهُمْ فَدَعَوْا لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَ قَالُوا يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَيْنَ تَنْزِلُ أَ تَنْزِلُ اَلْقَصْرَ؟ فَقَالَ لاَ وَ لَكِنِّي أَنْزِلُ اَلرَّحَبَةَ فَنَزَلَهَا وَ أَقْبَلَ حَتَّى دَخَلَ اَلْمَسْجِدَ اَلْأَعْظَمَ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَعِدَ اَلْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ وَ صَلَّى عَلَى رَسُولِهِ وَ قَالَ «أَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ فَإِنَّ لَكُمْ فِي اَلْإِسْلاَمِ فَضْلاً مَا لَمْ تُبَدِّلُوا وَ تُغَيِّرُوا،…، أَلاَ إِنَّ اَلدُّنْيَا قَدْ تَرَحَّلَتْ مُدْبِرَةً وَ اَلْآخِرَةُ تَرَحَّلَتْ مُقْبِلَةً وَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ اَلْآخِرَةِ اَلْيَوْمَ عَمَلٌ وَ لاَ حِسَابَ وَ غَداً حِسَابٌ وَ لاَ عَمَلَ).
[14] – نهج البلاغة، حكمة 297
Play Video