اخر الاخبار
الشكر و الصبر عند تبدّل الأحوال و الأوضاع «الدهر يومان يوم لك و يوم عليك»/ محمد جواد الدمستاني

الشكر و الصبر عند تبدّل الأحوال و الأوضاع
«الدهر يومان يوم لك و يوم عليك»
محمد جواد الدمستاني
إنّ الإنسان في هذه الحياة كلها يجري امتحانا و فيه تتغير أحواله و تتقلب أوضاعه فقد تمر عليه أيام سعادة و رفاه كما تمر عليه ضدها من الحزن و الشدة، حتى ينهي مسيرة حياته و يعرف نتيجته، و المؤمن يحسن التصرف في حالتي الرخاء و الشدة، قال أمير المؤمنين عليه السلام في حكمة: «وَ الدَّهْرُ يَوْمَانِ يَوْمٌ لَكَ وَ يَوْمٌ عَلَيْكَ فَإِذَا كَانَ لَكَ فَلَا تَبْطَرْ وَ إِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ»[1]، و قال في كتاب له عليه السلام كتبه إلى عبد الله بن عباس: «وَ اعْلَمْ بِأَنَّ الدَّهْرَ يَوْمَانِ يَوْمٌ لَكَ وَ يَوْمٌ عَلَيْكَ، وَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ دُوَلٍ فَمَا كَانَ مِنْهَا لَكَ أَتَاكَ عَلَى ضَعْفِكَ، وَ مَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِكَ»[2]، فقد تكرر تقسيم الدهر ليومين في موضعين في نهج البلاغة.
و المعنى هو تنبيه الإنسان ألا يتوقع أنّ حياتَه كلها رغد و رفاه و رخاء، و لا كلها شِدّة و ضِيق و شَقاء، و إنّما بعض الوقت يسر و رخاء، و بعض الوقت عسر و شدة، فإن كان الإنسان في يسر فله شكر النعم، و إن كان في عسر فعليه بالصبر و التزام القيّم، فإن الرخاء و الشقاء سيمران و تبقى التبعات.
الدّهر بمعنى الزمان قلّ أَو كثر، و في الآية القرآنية «هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا»[3]، أو الدّهر مدّة الحياة الدّنيا كلّها، و الجمع دُهور و أدهر و أدهار، قال تعالى: «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ»[4].
ويقال أتى عليه الدّهر يعني أفناه و أهلكه، أو أكل عليه الدَّهر و شرب يعني بلى و صار قديما أو طال عمرُه و تأثّر بمرور الزّمن عليه.
و الدّهر يومان أي أنّ الدّنيا لها إقبال و إدبار، فلا استقرار لها و ثبوت على حال بل هي تتغير و تتبدل، و أنّ الحياة تنقسم إلى قسمين:
يوم لك و هو يوم أو أيام الرخاء و السعادة و الأفراح، و فيه نفعك و خيرك.
و يوم عليك و هو يوم أو أيام الشدة و الحزن و الأتراح.
فإن كان يوم لك و أقبلت عليك الدنيا بأوقات و أوضاع حسنة و مريحة بالخير و النجاح و أحوال ميسّرة أو صحة في أحسن حالاتها و عمل جيد و علاقات متينة و صداقات موفقة و رزق واسع فلا تبطر، و لا يزيد فرحك جدا و لا تتكبر و لا تغترّ، و لا تثق بدوام النعمة، أو تتوهم أنّك نلتها بجهدك وحدك، أو لا تبطر أي لا تغفل عن شكر الله، و مكافأة النعمة بالطّاعة و العبادة.
و إن كان يوم عليك و أدبرت الدّنيا عنك فواجهت أضرارا و خسائر أو صعوبات حياتية و أصابك حزن أو قد صُدمت بمصائب و انتكاسات و تضايقت عليك الأمور المالية و الصحية و ربما سوء في العلاقات و الصداقات، فاصبر و تحمّل دون يأس، فالأمر بالصبر في الأوقات الصعبة و أزمنة الأزمات و الأحزان، و تحمّل المصيبة بهدوء، و لا تجزع، وتذكر أن هذا حال مؤقت و ابتلاء حاول النجاح فيه، «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا»[5].
و الحكمة بها دعوة للاستقرار النفسي و الثبات في كل الأحوال و تذكير بأن الحياة ليست مستقرة على حالة واحدة، و المطلوب هو أن يحافظ الإنسان على اطمئنانه النفسي و استقراره فلا يكثر من فرح لنفع أصابه، و لا يكثر من حزن لسوء أصابه، و أن يكون لديه رضا و تسليم لربّ العالمين.
و في الشعر العربي، قال الشاعر:
دع المقادير تجري في أعنتها ولا تبيتن إلا خالي الـبـال
ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
و تقلب الأحوال يوم لك و يوم عليك يكون بالغنى و الفقر، و بالصحة و المرض، و بالنصر و الهزيمة، و بالعمل و البطالة، و بالسعادة و الحزن، بالفرج و الشدة و غيرها، فكلها أحوال قابلة للتغيير و التقلب على أصحابها، و هذا التغيّر و التقلّب في أحوال الدّنيا لازم لها لكونها محل مرور الممتحنين و ليست محل بقائهم و استقرارهم فيمتحنهم الله سبحانه و تعالى فيها ثم تكون الآخرة لمكافأتهم أو مجازاتهم، و سواء كان الإنسان في حال إقبال الدّنيا بخيراتها و تيسير في أمورها و فتح أبواب الرزق و الصحة و السعادة، أو إدبارها بالمصاعب و الخسائر و أبواب الفقر و الضيق و الشدة فإنّهما ابتلاءان أو ابتلاءات يحتاج المؤمن للنجاح فيهما و تجاوزهما فيكون شاكرا في امتحان الإقبال لا بطرا، و يكون صابرا في امتحان الإدبار لا آيسا، و يغتنم مدة الإقبال بالشكر و أعمال الخير و سعادته و الآخرين، و يلتزم مدة الإدبار بالصبر و التحمّل و حسن الظنّ بالله.
و في نهج البلاغة قريب من هذه الحكمة، قال (ع): «وَ لَا تَكُنْ عِنْدَ النَّعْمَاءِ بَطِراً، وَ لَا عِنْدَ الْبَأْسَاءِ فَشِلًا»[6]، أي لا تكن متكبرا مغرورا حين تأتيك النعم من رزق و صحة و نصر، و لا تكن فاشلا منهارا حين تأتيك النقم من بلاء و مرض و انكسار.
و المراد هو الأمر بالصبر و النهي عن البطر، فإذا علم الإنسان هذا المعنى من عدم الفرح الزائد عند حصول النعم، و التحلّي بالصبر عند النقم فإنّه يستطيع أن يتجاوز آثارا سلبية لهما و يحافظ على إيجابيات فيهما، و «إنّ الدّنيا دار دول» حيث تتداول و تتقلب أحوال النّاس من حال إلى حال، و ليعلم الإنسان إنّ «ما كان منها لك أتاك على ضعفك» و عجزك و قلة حيلتك فيصل إليك لأنّه لا مانع للمعطي منه، و «و ما كان منها عليك» و تعتبره سوء و خسارة و ضررا «لم تدفعه بقوتك» و جهدك و لو كنت قوياً، فإنك لا تستطيع بل بحول الله و قوته، قال تعالى: «وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»[7]، «وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»[8].
و قوة الإنسان مهما كانت لا تمكنه القدرة على تغيير كل ما يحوطه و يصيبه فالإنسان مغلوب بالمرض و مقهور بالموت فمهما بلغت فهو لا يستطيع محو مرضه أو تأخير موته.
و هذا التقسيم من إقبال الدّنيا و إدبارها لا يختص بالفقراء و المستضعفين أو الطبقات الوسطى في المجتمع بل هو لكل النّاس من كل الطبقات ملكا حاكما أو فقيرا معدما فإنّ الأيام دول بينهم، و في الشعر العربي:
فَيَومٌ عَلَينا وَ يَومٌ لَنا وَ يَومٌ نُساءُ وَ يَومٌ نُسَرّ
و في انقسام الأشياء يشمل الكلام انقسام الزمان في الدول فإنّ بها زمن قوة و قدرة، و تصل إلى ضعف و نهاية و تلاشي «وَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ دُوَلٍ»[9] كما في الكتاب لابن عباس، و الآية «وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ»[10]، و كذلك الأمم فلا تظل أمة بالقوة و القدرة و الثروة و السطوة على امتداد تاريخها و إنّما تتقلب و تتبدل أوضاعها، و التاريخ مملوء بالشواهد في ماضيه و حاضره.
و بالنسبة إلى الإنسان يصل إلى درجة و ذروة القوة الجسدية في شبابه ثم ينحدر إلى شيخوخة ثم يموت، و لا يُعطى الإنسان و لا الأمم أفضل الصفات كل الأزمنة و إلا لما سقطت الأمم بل استمرت.
و في أحوال الإنسان نفسه قد ينام فقيرا و يصبح غنيا أو العكس تماما حيث يتحول الثري فقيرا في تقلبات البورصات و التجارات، و المفاجئات، و الكوارث و الأحداث، و الأمراض و الابتلاءات.
و فيما يتعلق به من المناصب و الرتب الوظيفية قد يخسرها الإنسان في لحظة و قد يُقال من العمل، أو قد يرقّى إلى وظيفة أكبر و تتغير أحواله في لحظة كذلك.
و في الأرزاق فإنّ الطفل في رحم أمه يأتيه رزقه دون أن تكون له حيلة أو وسيلة فإذا ما خرج و امتلأ شبابا ضعف يقينه على قوته و رزقه، و في أيام القحط و الكوارث و الحروب قد لا يجد لقمة يأكلها.
و إذا كان بعض النّاس يظنون أنّ الحكّام في موضع اجتماعي مرموق -و هم ليسوا كذلك حقيقة- و يطمعون في مناصبهم، كما يرون البسطاء في منزلة و مكانة مغمورة أو مطموسة، ليعلموا أنّ تداول الأيام قد تأتي بالحقير كما هو المنصور الدوانيقي و صدام حسين و بني أمية و عدد كبير من الحكّام القدماء و المعاصرين في الأزمنة و الأمكنة المختلفة من الشرق و الغرب ليصبحوا رؤساء يتصدرون المشهد السياسي و الاجتماعي و يكون لهم الأمر و النهي، فيمتلكون القدرة و القوة و السلطة و الثروة، و يطبّل لهم المطبلون و يتملق لهم المتملقون و هم لا يستحقون شيئا من ذلك، و قد ينزل الدهر رؤساء صالحون صادقون عادلون ليهوي بهم خارج السلطة، فالأيام دُول.
و يُستفاد من الحكمة ضرورة التيقّظ و عدم الغفلة من حقيقة أحوال الدّنيا في عدم استقرارها بل تنقلها من حال إلى حال في الخير و الشر و الأفراح و الأتراح و أن يهيئ الإنسان نفسه لذلك.
كما يُستفاد منها ضرورة الحفاظ على التوازن النفسي حين اضطراب الأمور و تغير الأحوال فلا بطر و لا غرور و لا طغيان في حالة إقبال الدّنيا بل اغتنام حالة الإقبال و النعيم، و لا حزن و انهيار في حالة إدبارها عند حصول السوء أو الشر و السعي في تجاوز أضرارها.
و ضرورة الوعي و إدراك حقيقة تقلبات الحياة و عدم سيرها على نمط واحد فلا العسر يستمر و لا اليسر يدوم و ليكن الإنسان بينهما راضيا برضا الله مطمئنا بقدره راجيا فضله متفائلا بخيره.
و نهاية الحكمة رويت بألفاظ و معاني متقاربة، «وَ إِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ»[11] كما في نهج البلاغة، «وَإِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ، فَبِكِلَيْهِمَا أَنْتَ مُخْتَبَرٌ»[12] كما في تمام نهج البلاغة، «وَإِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَاصْطَبِرْ»[13]، و «وَإِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَلاَ تَحْزَنْ فَبِكِلَيْهِمَا سَتُخْتَبَرُ»[14]، «وَانْ كانَ عَلَيْكَ فَلا تَضْجَرْ»[15]، و رويت عن رسول الله (ص) «وَ إِنْ كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ فَكِلاَهُمَا عَنْكَ سَيَنْحَسِرُ»[16]، و كذلك «وَ إِنْ كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ فَكِلاَهُمَا غَائِبٌ سَيَحْضُرُ»[17].
و قريب من الحكمة قول أمير المؤمنين (ع) في وصيته لابنه الإمام الحسن (ع) «و اعلَم يا بُنَيَّ إنّ الدهرَ ذو صُروفٍ»[18]أي أنّه ذو شدائد و نوائب، و قوله (ع) «الدَّهْرُ ذُو حَالَتَيْنِ إِبَادَةٍ وَإِفَادَةٍ، فَمَا أَبَادَهُ فَلَا رَجْعَةَ لَهُ، وَمَا أَفَادَهُ فَلَا بَقَاءَ لَهُ»[19].
و في التذكرة الحمدونية فيما أوصى الحارث بن كعب بنيه فقال : «يا بنيّ،..، الدهر ضربان فضرب رخاء و ضرب بلاء، و اليوم يومان فيوم حبرة و يوم عبرة، و النّاس رجلان فرجل لك و رجل عليك»[20]، و الحَبرة هي السرور و النعمة، و العَبرة بالفتح هي الدمعة قبل أن تفيض، و العِبرة بالكسر هي الاتعاظ و الاعتبار بما مضى.
و هذا التوازن و الإيمان يرشد له عليه السلام في موقع آخر فيكتب إلى ابن عباس «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ، وَ يَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ، فَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا نِلْتَ مِنْ آخِرَتِك،َ وَ لْيَكُنْ أَسَفُكَ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنْهَا، وَ مَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَلَا تُكْثِرْ بِهِ فَرَحاً، وَ مَا فَاتَكَ مِنْهَا فَلَا تَأْسَ عَلَيْهِ جَزَعاً، وَ لْيَكُنْ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ»[21]، و هذا هو الزهد.
[1] – نهج البلاغة، حكمة 396
[2] – نهج البلاغة، كتاب 72
[3] – سورة الإنسان، آية 1
[4] – سورة الجاثية، آية 24
[5] – سورة الشرح، آية 5-6
[6] – نهج البلاغة، كتاب 33
[7] – سورة الأنعام، آية 17
[8] – سورة يونس، آية 107
[9] – نهج البلاغة، كتاب 72
[10] – سورة آل عمران، آية 140
[11] – نهج البلاغة، حكمة 396
[12] – تمام نهج البلاغة، السيد صادق الموسوي، ص ٧٧١
[13] – غرر الحكم و درر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ١٠٥
[14] – تحف العقول عن آل الرسول ( ص )، ابن شعبة الحراني، ص ٢٠٧، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج75، ص 44
[15] – بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج ٧٥، ص ١٥
[16] – أعلام الدين في صفات المؤمنين، الحسن بن محمد الديلمي، ص ١٧٣، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج70، ص81
[17] – بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج70، ص 135
[18] – تحف العقول عن آل الرسول (ص)، ابن شعبة الحراني، ص ٨٣، بحار الأنوار، ج ٧٤، العلامة المجلسي، ص ٢١٠، ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج ٤، ص ١٥١
[19] – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ١٢٨
[20] – التذكرة الحمدونية، ابن حمدون، ج3، ص ٣٤١
[21] – نهج البلاغة، كتاب 22
Play Video