د. فاضل حسن شريف
جاء في کتاب تفسير سورة هل أتى للسيد جعفر مرتضى العاملي: أفرأيتم و أأنتم: ما أكثر التعبير في القرآن الكريم، فضلاً عن كلمات النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام بكلمة: أفرأيتم.. وأأنتم. “قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ” (الملك 30). “أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ” (الواقعة 71). “أأَنْتُمْ أَنْشَأتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ” (الواقعة 72). “أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ” (الواقعة 58). “أأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ” (الواقعة 59). “أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ” (الواقعة 63). “أأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ” (الواقعة 64). “أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ” (الواقعة 68). “أأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ” (الواقعة 69). وغير ذلك. والخلاصة: أن الاعتقاد ليس مجرد خضوع واستسلام عقلي، بل هو عقد قلبي مستقر في النفس: حاضر في عمق الذات، متمازج مع الفطرة، ومع المشاعر، ليصبح هو العين التي يبصر بها، والأذن التي يسمع بها، واليد التي يبطش بها.
وعن كلمة “يُوفُونَ” يقول السيد جعفر مرتضى العاملي: وقد قال الله تعالى: (يُوفُونَ)، ولم يقل (يفون)، لأن كلمة (يفون) مأخوذة من وفى، ومضارعها يفي، وكلمة (يُوفُونَ) مأخوذة من أوفى، ومضارعها هو يوفي. وهمزة أوفى يقال لها: همزة التعدية، فهي مثل علم وأعلم، وكرم وأكرم. والمراد بالإيفاء هنا الإتمام بحيث يظهر قصد الفاعل إلى ذلك، وتعمده حصوله. أما كلمة يفون، فتدل على مجرد حصول الوفاء كيفما اتفق. فكلمة الإيفاء: تشير إلى الفاعل، وإلى اختياره وقصده من جهة. وتشير من جهة أخرى، إلى صفة وحالة ما وقع عليه هذا الفعل، وقد قال يوسف لإخوته: “أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أوفِي الْكَيْلَ” (يوسف 59). فوجه نظرهم إلى حالة الامتلاء التي يكون عليها الكيل الذي وقع عليه فعل الإيفاء. وذلك ترغيباً لهم في الاستجابة إلى ما طلبه منهم. ونظير ذلك كلمة: “تُخْسِرُوا” (الرحمن 9)، في قوله تعالى: “وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ” (الرحمن 9). المأخوذة من أخسر، لا من خسر. وهذا يعطينا: أن ثمة قصداً إلى بيان معنى الوفاء والتمامية الحقيقية الفعلية بأجلى وأقصى مراتبها. والنذر كما هو معلوم هو أن يجعل الإنسان على عهدته أمراً لشخص آخر أو لجهة أخرى، بحيث يصبح هذا الشيء ملكاً لذلك الآخر، لا بد من إيصاله إليه في الموقع المحدد. وقد يكون سبب الإقدام على هذا التعهد هو دعوة الطرف الآخر إلى إنجاز أمر مّا، بحيث يكون هذا المنذور في مقابل إنجاز ذلك الأمر. فقوله تعالى عنهم: “يُوفُونَ بِالْنَذْرِ” (الانسان 7) أي يأتون به وافياً، وفق المطلوب، يعتبر غاية في مدح هؤلاء الصفوة، والثناء عليهم. وبدون هذا الوفاء التام فإن ثمة خللاً سيحدث في المعادلة ولا يعرف كيفيات وحجم هذا الخلل، إلا الله. فلعله خلل ونقص في البركات، أو في الألطاف، أو في التوفيقات للتقوى، أو في المشاعر، أو في الإيمان، أو في العلاقات الاجتماعية، أو في الحالة الاقتصادية، أو في الزرع، أو في الماشية، أو غير ذلك. إن ذلك كله لا نعرفه نحن، ولا يمكن تحديده، ولا التكهن به.
ويستطرد السيد العاملي في كتابه عن يوفون قائلا: وقد يُسأل هنا: لماذا قال تعالى: “يُوفُونَ بِالنَذْرِ” (الإنسان 7)، ولم يقل: (يوفون النذر) ؟. ويجاب: أن هذه الباء قد جاءت لبيان هذه المعادلة، وهو أن يكون ما يأتي به من عمل قد نذره، معادلاً لما طلبه في مقابله، ووافياً به. فهي باء التعويض، وتشبه إلى حدٍ مّا الباء في قولك: كافأته بألف درهم، أو قولك: بعت الفرس بألف. الوفاء بالنذر صفة أخلاقية: إن الدافع إلى العمل بمقتضى النذر هو التعهد الذي أنشأه الناذر على نفسه، حيث تدعوه أخلاقه والتزامه إلى الوفاء بذاك التعهد. وهذا التعهد إنما نشأ عن معرفة بأن الله سبحانه قوي عزيز، مالك عليم حكيم، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. وعن شعور بالفقر وبالحاجة إليه، وعن التجاء له، وتوكل عليه، وثقة به، تدفع إلى أن يطلب منه المعونة، والتسديد، والعطاء.
وعن “يَخَافونَ” يقول السيد جعفر مرتضى العاملي: وقد أشار الله سبحانه، في آيات هذه السورة، إلى نواح إنسانية في شخصية الأبرار، وأخرى إيمانية. والحديث عن الناحية الثانية، هو في هذه الفقرات وقد قلنا فيما سبق: إن الخوف من الآخرة له أثره في سعي الإنسان لضبط حركته، والهيمنة على نفسه الأمارة بالسوء. وذكرنا: أن المشركين كانوا لا يأبون عن الاعتراف بكثير مما يدعوهم النبي صلى الله عليه وآله إليه، لكنهم كانوا يكذبون بيوم الدين، لأنهم يريدون أن يأخذوا حريتهم في الفجور، واقتراف الآثام، ولا يريدون أن يصبح قرارهم بيد من يحاسبهم وهو ما أشارت إليه الآيات الكريمة في سورة القيامة “أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ” (القيامة 3-5). وأما الإيمان، فهو العلم بالشيء مع تبنيه والالتزام به فقد يصاحب ذلك سكون وطمأنينة نفسية: “أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” (الرعد 28) و “قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي” (البقرة 260). وقد يترقى الأمر إلى أن يصبح لهذا الإيمان وهذا السكون تأثير في المشاعر، ضعيف تارة، وقوي أخرى، وقد لا يحصل شيء من ذلك. أما حالة الخوف، فإنما تعني وجود إحساس داخلي، وانفعال نفساني، يدعو الإنسان للتحرز، وطلب الأمن. وهذا ملازم لليقظة والالتفات، ما دام ذلك الخوف موجوداً، فهو يدعوه إلى إعمال المراقبة المستمرة والرصد الدائم لكل حركة يخشى أن تكون تعنيه، أو أن يكون لها أي تأثير عليه. ثم إنه يدعوه إلى إعداد العدة، وتهيئة كل ما من شأنه أن يحميه ويدفع عنه. وهذا الإعداد يختلف ويتفاوت، كاختلاف وتفاوت محيط وأدوات الرصد والمراقبة، بحسب خطورة وحجم الموارد التي يتهددها الخطر، فقد يكون الخوف على النفس، أو على المال، أو على الولد، أو على العشيرة، أو على البلد، أو على الدين، أو أو أو على ذلك كله. وهذا بالذات هو الذي يبين ضرورة اقتران قوله تعالى: “لاَ أقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ” (القيامة 2) بقوله: “لاَ أقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ” (القيامة 2) لأن القناعة العقلية بيوم القيامة لا تكفي للالتزام بخط الطاعة، بل هو بحاجة إلى دخول هذه القناعة إلى وجدانه، وإلى مشاعره، وكل كيانه، لأن هذا هو الذي يُوجد داخل الإنسان رقابة ورصداً من قبل النفس اللوامة على النفس الأمارة بالسوء، ويقيم الموانع القوية أمامها، لكي لا تتسبب بإيقاعه في المحذور. ولو أن نفسه الأمارة غلبته أحياناً، فإنه سوف يندفع للتلافي والتصحيح.