اخر الاخبار
المنبر الحسيني والطرح السياسي والاجتماعي والاقتصادي: قراءة قرآنية تأصيلية

يواجه المنبر الحسيني في كل عصر تساؤلات جوهرية حول حدود دوره، ومجال تأثيره، ومشروعية تناوله للقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبينما يرى البعض ضرورة انحصاره في الوعظ والإرشاد الفردي والجانب العاطفي المتعلق بفاجعةِ كربلاء، فإن الحقيقة القرآنية والتاريخ الحسيني يصرّان معًا على أن هذا المنبر تأسس ليكون صرخة مدوية ضد الظلم والانحراف، ومنصة للتوعية الشاملة في شؤون الأمة.
إن تأصيل هذا الدور لا بد أن يستند إلى القرآن المجيد، الذي يُعد المرجعية العليا والمصدر الأول للتشريع والفهم الإسلامي، ليبيّن لنا أن قضايا الشأن العام ليست فقط من صلب رسالة الأنبياء، بل من مقتضيات الإيمان ومسؤوليات المصلحين.

يقدّم القرآن الدين كمنظومة شاملة تغطي مختلف جوانب الحياة، وليس طقسًا شعائريًا معزولًا. يقول الله تعالى:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾
(الحديد: 25)
هذه الآية تضع هدف الرسالات السماوية في تحقيق العدل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. فـ”الميزان” يُشير إلى المعيار القيمي والحقوقي، و”ليقوم الناس بالقسط” تُعبّر عن المشروع الإلهي لإقامة مجتمعات عادلة.
وعليه، فإن تناول هذه القضايا على المنبر الحسيني ليس اجتهادًا سياسيًا طارئًا، بل التزام قرآني أصيل.

يحمّل الله العلماء مسؤولية البيان والصدع بالحق، خاصة حين يتعلق الأمر بالقضايا المصيرية للأمة:
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾
(آل عمران: 187)
في سياقنا، هذا يعني أن الخطيب الحسيني، حين يصعد المنبر، يجب أن يكون حاملًا أمانة البيان لا مجرد ناقل للرثاء أو السرد، وأن يتعرض للظلم السياسي، والفساد الاقتصادي، والانحرافات الاجتماعية، ما دام ذلك يُسهم في تنبيه الأمة ودفعها نحو الإصلاح.

قال تعالى:
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ﴾
(الحج: 41)
هذه الآية لا تتحدث عن جماعة دينية منغلقة، بل عن قيادة تمكّنت سياسيًا، وشرّعت إصلاحًا دينيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. فالمعروف والمنكر هنا ليسا محصورين في الأخلاق الفردية، بل يشملان نظام الحكم، توزيع الثروة، كرامة الإنسان، والحريات العامة.
إذن، فالمنبر الحسيني الذي ورث خط سيد الشهداء عليه السلام لا يحق له أن يصمت على منكر سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، بل واجبه الشرعي والقرآني أن يتصدى ويُعري ويقترح بدائل إصلاحية.

قال تعالى:
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
(الأنعام: 162)
في هذه الآية يتضح أن الإسلام لا يترك شؤون الحياة اليومية – من الاقتصاد والسياسة إلى العلاقات الاجتماعية – خارج دائرة التوحيد والانتماء إلى الله. فـ”محياي” تشمل السياسات، نظم العدالة، نمط المعيشة، وكل ما يُنتجه الإنسان في حياته.
والمنبر الحسيني لا يمكن أن يكون معزولًا عن هذه الدائرة، بل هو أداة لنقل الوعي الديني إلى ميادين الحياة العملية.

قال الله تعالى:
{اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ﴾
(النازعات: 17)
﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ﴾
(النازعات: 18–19)
النبي موسى عليه السلام بُعث لمواجهة طغيان سياسي – يتمثل في فرعون – واجتماعي واقتصادي – يتمثل في استعباد بني إسرائيل. وهذا يشير إلى أن مواجهة الطغيان والاستبداد، من جوهر الرسالة الإلهية.
فهل يُعقل أن يُترك المنبر الحسيني اليوم صامتًا إزاء طواغيت العصر، من الظالمين والمستبدين والمستغلين؟
إن المنبر الحسيني ليس منبرًا تقليديًا كلاسيكياً، بل هو منبر ثوري إصلاحي متجدد، يستمد مشروعيته من من سيد الشهداء ابي عبدالله الحسين عليه السلام الذي قال:
“إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا… وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي”
وهذا الإصلاح لا يكون إلا بتشخيص الواقع، وطرح القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية بأمانة وجرأة ووعي، تمامًا كما فعل الحسين، وتمامًا كما أمر القرآن.
إن السكوت على المظالم باسم “الحياد الديني او تفريغ المنبر الحسيني لذكر محمد وآل محمد” خيانة لرسالة سيد الشهداء ابي عبدالله الحسين عليه السلام، وإن إفراغ المنبر من قضاياه المصيرية، مساهمة غير مباشرة في بقاء الظلم والجهل والتخلف.