اخر الاخبار

القناعة و الرضا خير من التذلّل /محمد جواد الدمستاني

القناعة و الرضا خير من التذلّل

«التقلّل و لا التوسّل»

محمد جواد الدمستاني

إنّ الاكتفاء بالقليل من الرزق و التكيّف معه مع العفة و الكرامة خير و أفضل من التوسل‏ إلى النّاس و خاصة الأغنياء للحصول على شيء مما عندهم، و التقلّل خير من إشباع الرغبات مع الذل، قال أمير المؤمنين عليه السلام: «التَّقَلُّلُ وَ لَا التَّوَسُّلُ»[1]، و الحكمة كاملة كما في نهج البلاغة هي: «الْمَنِيَّةُ وَ لَا الدَّنِيَّةُ، وَ التَّقَلُّلُ وَ لَا التَّوَسُّلُ، وَ مَنْ لَمْ يُعْطَ قَاعِداً لَمْ يُعْطَ قَائِماً، وَ الدَّهْرُ يَوْمَانِ: يَوْمٌ لَكَ وَ يَوْمٌ عَلَيْكَ، فَإِذَا كَانَ لَكَ فَلَا تَبْطَرْ وَ إِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ»[2].

و الحكمة دعوة للقناعة بالقليل حيث يصون الإنسان نفسه بالعزّة و الكرامة، و تنفير من التوسل و طلب الحاجات من الآخرين حيث يلازمه الذل و الهوان و ضعف مكانة الشخص و جرح كرامته، فالتقلّل بما فيه من صبر و جلد و لا التوسل بما فيه من مذلة.

و الحكمة إرشاد إلى القناعة و الرضا و عزة النفس و حفظ الكرامة و رفض التذلّل و الخضوع بالتكسب مما في أيدي النّاس، و روي عنه عليه السلام أيضا «التَّقَلُّلُ وَ لَا التَّذَلُّلُ»[3]، و التقلّل أي الاكتفاء بالقليل، و التذلّل أي اظهار الخضوع.

و فيها دعوة إلى الاحتفاظ بالاحترام و الهيبة و هو أفضل و أحسن من الالتماس و الطلب من الآخرين حيث يلازمه مسكنة و استخفاف و ازدراء للسائل و فقدان احترامه و قيمته.

و أشار أمير المؤمنين (ع) إلى ذلك في حكمة أخرى في قوله: «اُمْنُنْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ، وَ اِحْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ، وَ اِسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ»[4]، فالحاجة تجعل من صاحبها أسير للمعطي أو صاحب المعروف.

و روي عن الإمام الصادق (ع) في التنفير عن المسألة: «رَحِمَ اَللَّهُ عَبْداً عَفَّ وَ تَعَفَّفَ وَ كَفَّ عَنِ اَلْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ يَتَعَجَّلُ اَلدَّنِيَّةَ فِي اَلدُّنْيَا، وَ لاَ يُغْنِي اَلنَّاسُ عَنْهُ شَيْئا»[5].

و في صلاح النفس يروى عن أمير المؤمنين (ع) «إِذَا رَغِبْتَ فِي صَلَاحِ نَفْسِكَ فَعَلَيْكَ بِالاقْتِصَادِ وَ الْقُنُوعِ وَ التَّقَلُّلِ»[6]، و يعني أن صلاح النفس  لا يجتمع مع الإسراف و التبذير، و لا الطمع و الجشع، و لا التوسل و التذلّل.

بل ينبغي على الإنسان أن يكيّف نفسه مع وضعه المالي و لا يطلب أكثر بالذل و الهوان، فكثير من الرغبات و المتطلبات الزائدة عن الحاجة تؤدي إلى المذلة، و التقلّل خير من التذلّل، قال الشاعر:

و كم دقّتْ ورقّتْ واسترقّتْ           فضولُ العيشِ أعناقَ الرجالِ

و القناعة و الرضا و الصبر و التقلّل خير من الطلب و الحاجة إلى النّاس و إن كان جائزا، و سواء كان الطلب من الأغنياء أو من غيرهم، أو من طغاة و سلطات جائرة، أو جهات و مؤسسات، أو أحزاب و جماعات، أو وسائل أعلام، أو جهات معادية، أو غيرها فالتوسل لهم مع جوازه يجلب الذل، و مع بطلانه يجلب العار و الشنار مع الذل.

و مثاله على مستوى الدول ما تأخذه بعضها كمساعدات و معونات أجنبية من دول أخرى و ما يصاحبه من شروط و هيمنة و تدخل في سياستها و برامجها و فقدان سيادتها من قبل الدول المانحة، فهي لو تقلّلت و عدلت في توزيع مواردها لاستغنت عن حالة الذل و الهوان و الخضوع للدولة أو الدول المانحة.

و القناعة و التقلّل أعزّ و أشرف و أكرم على الإنسان من التوسّل و التذلّل لكنها لها رجالها دون غيرهم، و في الرواية عن الإمام الرضا (ع) و قد سئل عن القناعة فقال: «اَلْقَنَاعَةُ تَجْمَعُ إِلَى صِيَانَةِ اَلنَّفْسِ وَ عِزِّ اَلْقَدْرِ[وَ]طَرْحِ مَئُونَةِ اَلاِسْتِكْثَارِ، وَ اَلتَّعَبُّدِ لِأَهْلِ اَلدُّنْيَا، وَ لاَ يَسْلُكُ طَرِيقَ اَلْقَنَاعَةِ إِلاَّ رَجُلاَنِ: إِمَّا مُتَعَلِّلٌ يُرِيدُ أَجْرَ اَلْآخِرَةِ، أَوْ كَرِيمٌ يَتَنَزَّهُ عَنْ لِئَامِ اَلنَّاسِ»[7].

و للوصول إلى حالة التقلّل و الرضا دون الطمع و التكثر، فإنّ الإنسان يحتاج إلى جهاد نفس و عمل، و تكون من صفاته في سلوكه:

الاعتماد على الله و التوكل عليه، فهو الرازق و المعطي، و السعي في تهيئة أسباب الرزق بالقدر المستطاع.

و النظر إلى الدّنيا بحقيقتها من الفناء دون البقاء و الاستمرار و أنّ الإنسان في كل لحظة معرض للرحيل منها فليحافظ في عمره بحياة كريمة.

و الاعتدال و الاقتصاد في المعيشة و المصروفات المالية و الابتعاد عن البذخ و الإفراط و الإسراف، فبعض النّاس يصرف في المناسبات كالزواج أضعاف متطلباته الطبيعية، و يسرف في الكماليات و تعددها و تجديدها، و يصرف بعضهم أموالا ضخمة لاجراء عمليات تجميلية متعددة، و تحمل بعض النساء كمية كبيرة من الذهب على جسدها و تعيش فقيرة.

و النظر إلى ما هو دون الإنسان في ماله و إمكانياته لا بمن هو أرفع منه و أغنى، قال سلمان الفارسي: «أَوْصَانِي خَلِيلِي رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ .. أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَ لاَ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي»[8].

و السعي العام في الارتقاء بالنّفس و عزّها و شرفها في كل موطن و مشهد، و عدم إذلالها، و روي عن الإمام الصادق (ع) قوله: «لاَ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، قِيلَ لَهُ وَ كَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ، قَالَ يَتَعَرَّضُ لِمَا لاَ يُطِيقُ فَيُذِلُّهَا»[9].

و مطالعة و مراجعة الآيات و الروايات للحصول على معرفة كافية في حسن التقلّل و القناعة، و التنفير من التذلّل و التوسّل.

و معاشرة الصحبة الصالحة و البيئة العارفة و الحسنة، فإنّ بعض المجتمعات و الأفراد منغمس في الجشع و الطمع و مخالطتهم تجرّ أصحابها إلى صفاتهم.

و الابتعاد عمّا في أيدي النّاس فهو الغنى، و روي عن أمير المؤمنين (ع) «الغِنَى الْأَكْبَرُ الْيَأْسُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ»[10].

و من الروايات عن أمير المؤمنين (ع) في هذا ما روي في إرشاد القلوب و هو «أَنَّ عَلِيّاً عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ اِجْتَازَ بِقَصَّابٍ وَ عِنْدَهُ لَحْمٌ سَمِينٌ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ هَذَا اَللَّحْمُ سَمِينٌ اِشْتَرِ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ لَيْسَ اَلثَّمَنُ حَاضِراً، فَقَالَ أَنَا أَصْبِرُ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ أَنَا أَصْبِرُ عَنِ اَللَّحْمِ»[11].

و كان لنا فيما مضى زميل (غفر الله لنا و له) ممن يحبون التكثّر و لا يقنعون بالتقلّل في شؤون حياته عامة، حتى رماه الجشع و الطمع إلى موائد الطغاة (و العياذ بالله) يقتات من فتاتهم و يشاركهم في ظلمهم و يطبّل لقبائحهم، فإنّا لله و إنّا إليه راجعون من مصيبة عظيمة، و العاقبة للمتقين.

[1] – نهج البلاغة، حكمة 396

[2] – نهج البلاغة، حكمة 396

[3] – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٣١، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٣٨

[4] – الخصال، الشيخ الصدوق، ص ٤٢٠، و رويت في الإرشاد، الشيخ المفيد، ج ١ ، ص ٣٠٣ (اِحْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ، و اسْتَغْنِ عَمّن شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ، وَ أَفْضِلْ عَلَى مَا شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ)، و في روضة الواعظین، محمد بن فتال النيشابوري، ج1، ص 109(فَامْنُنْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ وَ اِحْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ وَ اِسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ).

[5] – الکافي، الكليني، ج4، ص 21

[6] – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٢٩٥، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ١٣٧

[7] – نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، الحلواني، ص ١٢٨، كشف الغمة في معرفة الأئمة، علي بن أبي الفتح الإربلي، ج ٣، ص ١٠٠، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج75، ص349 (لاَ يَسْلُكُ طَرِيقَ اَلْقَنَاعَةِ إِلاَّ رَجُلاَنِ إِمَّا مُتَعَلِّلٌ..)، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج75، ص353 (لا يَسْلُكُ طَرِيقَ اَلْقَنَاعَةِ إِلاَّ رَجُلاَنِ إِمَّا مُتَعَبِّدٌ..)، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج75، ص357 (َ يَسْلُكُ طَرِيقَ اَلْقَنَاعَةِ إِلاَّ رَجُلاَنِ إِمَّا مُتَعَبِّدٌ..).

[8] – الحكايات، الشيخ المفيد، ص ٩٦، روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص ٣٧١، مستطرفات السرائر، ابن إدريس الحلي، ص ٦٥١، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، علي بن الحسن الطبرسي، ص ١٥٤

[9] – مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، علي بن الحسن الطبرسي، ص ٤٣٠

[10] – نهج البلاغة، حكمة 342

[11] – إرشاد القلوب الحسن بن محمد الديلمي، ج1، ص ١١٩

Play Video