د. فاضل حسن شريف
جاء في تفسير الميسر: قال الله تعالى عن يعرشون: “وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ” ﴿الأعراف 137﴾ يَعْرِشُونَ: يَعْرِشُ فعل، ونَ ضمير. يعرشون: من الجنّات أو يرفعون من الأبنية. يعرشون: يبنون الأبنية. وقيل يرفعون دوالي الأعناب على الخشب. وكان عنبهم غير معروش. وقيل: العروش هنا السقوف. وأررثنا بني إسرائيل الذين كانوا يُستَذَلُّون للخدمة، مشارق الأرض ومغاربها ﴿وهي بلاد “الشام”﴾ التي باركنا فيها، بإخراج الزروع والثمار والأنهار، وتمت كلمة ربك أيها الرسول الحسنى على بني إسرائيل بالتمكين لهم في الأرض؛ بسبب صبرهم على أذى فرعون وقومه، ودمَّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه من العمارات والمزارع، وما كانوا يبنون من الأبنية والقصور وغير ذلك. قوله جلت قدرته “وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ” ﴿النحل 68﴾ وألْهَمَ ربك أيها النبي النحل بأن اجعلي لك بيوتًا في الجبال، وفي الشجر، وفيما يبني الناس من البيوت والسُّقُف.
جاء في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قوله جل جلاله “وأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الأَرْضِ ومَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ودَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ وما كانُوا يَعْرِشُونَ” (الاعراف 137) يعني بني إسرائيل، فإن القبط كانوا يستضعفونهم، فأورثهم الله بأن مكنهم، وحكم لهم بالتصرف، وأباح لهم ذلك بعد إهلاك فرعون وقومه القبط، فكأنهم ورثوا منهم “مشارق الأرض ومغاربها” التي كانوا فيها يعني جنات الأرض الشرق والغرب منها، يريد به ملك فرعون من أدناه إلى أقصاه. وقيل: هي أرض الشام ومصر، عن الحسن، وقيل: هي أرض الشام وشرقها وغربها، عن قتادة. وقيل: هي أرض مصر، عن الجبائي. قال الزجاج: كان من بني إسرائيل داود وسليمان ملكوا الأرض. “التي باركنا فيها” باخراج الزروع والثمار، وسائر صنوف النبات والأشجار، إلى غير ذلك من العيون والأنهار، وضروب المنافع (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل” معناه صح كلام ربك بإنجاز الوعد بإهلاك عدوهم، واستخلافهم في الأرض، وإنما كان الإنجاز تماما للكلام بتمام النعمة به. وقيل: إن الكلمة الحسنى قوله سبحانه “ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض” (القصص 5) إلى قوله “يحذرون”. وقال الحسن: وإن كانت كلمات الله سبحانه كلها حسنة، لأنها وعد بما يحبون. وقال الحسن: أراد وعد الله لهم بالجنة. “بما صبروا” على أذى فرعون وقومه، وتكليفهم إياهم ما لا يطيقونه من الاستعباد، والأعمال الشاقة “ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه” (الأعراف 137)، أي: أهلكنا ما كانوا يبنون من الأبنية والقصور، والديار، “وما كانوا يعرشون” (الاعراف 137) من الأشجار، والأعناب، والثمار، وقيل: يعرشون يسقفون من القصور والبيوت، عن ابن عباس. قوله سبحانه “وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ” (النحل 68) أي: ألهمها إلهاما عن الحسن وابن عباس ومجاهد وقيل: جعل ذلك في غرائزها بما يخفى مثله عن غيرها عن الحسن قال أبوعبيدة الوحي في كلام العرب على وجوه منها وحي النبوة ومنها الإلهام ومنها الإشارة ومنها الكتاب ومنها الإسرار فوحي النبوة في قوله أويرسل رسولا فيوحي بإذنه والإلهام في قوله ” وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ” و” أوحينا إلى أم موسى” (القصص 7) والإشارة في قوله فأوحى إليهم أن سبحوا قال مجاهد معناه أشار إليهم وقال الضحاك: كتب لهم والإسرار في قوله ” يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا” (الانعام 112). وأصل الوحي عند العرب أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا بالاستتار والإخفاء وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال لا وحي إلا القرآن فإن المراد به أن القرآن هو الوحي الذي نزل به جبرائيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلّم دون أن يكون أنكر ما قلناه ويقال أوحي له وأوحي إليه قال العجاج: أوحي لها القرار فاستقرت والمعنى أن الله تعالى ألهم النحل اتخاذ المنازل والمساكن والأوكار والبيوت في الجبال والشجر وغير ذلك وتقديره ” أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا” للعسل ولا يقدر على مثلها أحد. ” وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ” (النحل 68) أي: ومن الكرم لأنه الذي يعرش ويتخذ منه العريش وفيه لغتان يعرشون ويعرشون بضم الراء وكسرها وقد قرىء بهما وقيل معنى يعرشون يبنون والعرش سقف البيت عن الكلبي والمعنى ما يبني الناس لها من خلاياها التي تعسل فيها ولولا إلهام الله إياها ما كانت تأوي إلى ما بني لها من بيوتها وإنما أتى بلفظ الأمر وإن كانت النحل لا تعقل الأمر ولا تكون مأمورة لأنه لما أتى بلفظ الوحي أجري عليه لفظ الأمر اتساعا.
جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله: “وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ” ﴿الأعراف 137﴾ أي أهلكنا ما كانوا يصنعونه وما كانوا يسقفونه من القصور والأبنية وما كانوا يعرشونه من الكرم وغيره. قوله تعالى “وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ” ﴿النحل 68﴾ الوحي كما قال الراغب الإشارة السريعة وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أوبصوت مجرد عن التركيب أوبإشارة ونحوها، والمحصل من موارد استعماله أنه إلقاء المعنى بنحويخفى على غير من قصد إفهامه فالإلهام بإلقاء المعنى في فهم الحيوان من طريق الغريزة من الوحي وكذا ورود المعنى في النفس من طريق الرؤيا أومن طريق الوسوسة أوبالإشارة كل ذلك من الوحي، وقد استعمل في كلامه تعالى في كل من هذه المعاني كقوله:” وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ” الآية، وقوله:” وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى” (القصص 7)، وقوله:” وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ” (الانعام 121)، وقوله:” فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا” (مريم 11)، ومن الوحي التكليم الإلهي لأنبيائه ورسله، قال تعالى:” وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا” (الشورى 51)، وقد قرر الأدب الديني في الإسلام أن لا يطلق الوحي على غير ما عند الأنبياء والرسل من التكليم الإلهي. قال في المجمع: والذلل جمع الذلول، يقال: دابة ذلول بين الذل ورجل ذلول بين الذل والذلة. انتهى. وقوله:” وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ” أي ألهمه من طريق غريزته التي أودعها في بنيته، وأمر النحل وهو زنبور العسل في حياته الاجتماعية وسيرته وصنعته لعجيب، ولعل بداعة أمره هو الموجب لصرف الخطاب عنهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال:”وأوحى ربك”. وقوله:”أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ” (النحل 68) هذا من مضمون الوحي الذي أوحي إليه، والظاهر أن المراد بما يعرشون هو ما يبنون لبيوت العسل.
جاء في التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله تعالى “وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ” ﴿النحل 68﴾ المراد بالوحي هنا الفطرة التي منحها اللَّه للنحل ” أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ومِنَ الشَّجَرِ ومِمَّا يَعْرِشُونَ ” ﴿النحل 68﴾ أي مما يرفع الناس من الكروم، قال الرازي: النحل نوعان: نوع يسكن في الجبال والغياض، ولا يتعهده أحد من الناس، وهوالمراد بقوله: “ان اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر” ونوع يسكن بيوت الناس، ويكون في تعهدهم، وهو المراد بقوله “ومما يعرشون”.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى “وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ” ﴿الأعراف 137﴾ بعد هلاك قوم فرعون، وتحطّم قدرتهم، وزوال شوكتهم، ورث بنو إسرائيل الذين طال رزوحهم في أغلال الأسر والعبودية أراضي الفراعنة الشاسعة والآية الحاضرة تشير إلى هذا الأمر “وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها” (الاعراف 137). و (الإرث) كما أسلفنا يعني في اللغة المال الذي ينتقل من شخص إلى آخر من دون تجارة ومعاملة، سواء كان المنتقل منه حيا أو ميّتا. و “يستضعفون” مشتقّة من مادة (الاستضعاف) وتطابق كلمة (الاستعمار) التي تستعمل اليوم في عصرنا الحاضر، ومفهومها هو أن يقوم جماعة بإضعاف جماعة أخرى حتى يمكن للجماعة الأولى أن تستغل الجماعة الضعيفة في سبيل مآربها ومصالحها، غاية ما هنالك أن هناك تفاوتا بين هذه اللفظة ولفظة الاستعمار، وهو: أن الاستعمار ظاهره تعمير الأرض، وباطنه الإبادة والتدمير، ولكن الاستضعاف ظاهره وباطنه واحد. والتعبير ب “كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ” إشارة إلى الفرعونيين كانوا يستبقون بني إسرائيل في حالة ضعف دائمية: ضعف فكري، وضعف أخلاقي، وضعف اقتصادي، ومن جميع الجهات وفي جميع النواحي. والتعبير ب “مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا” إشارة إلى الأراضي الواسعة العريضة التي كانت تحت تصرّف الفرعونيين، لأنّ الأراضي الصغيرة ليس لها مشارق ومغارب مختلفة، وبعبارة أخرى (ليس لها آفاق متعددة) ولكن الأراضي الواسعة جدا من الطبيعي أن يكون مشارق ومغارب بسبب كروية الأرض فيكون التعبير بمشارق الأرض ومغاربها كناية عن أراضي الفرعونيين الواسعة العريضة جدّا. وجملة “بارَكْنا فِيها” إشارة إلى الخصب العظيم الذي كانت تتمتع به هذه المنطقة ـ يعني مصر والشام ـ التي كانت تعدّ آنذاك، وفي هذا الزمان أيضا، من مناطق العالم الخصبة الكثيرة الخيرات. حتى أن بعض المفسّرين كتب: إن بلاد الفراعنة في ذلك العصر كانت واسعة جدّا بحيث كانت تشمل بلاد الشام أيضا. وعلى هذا الأساس لم يكن المقصود من العبارة هو الحكومة على كل الكرة الأرضية، لأنّ هذا يخالف التاريخ حتما. بل المقصود هو حكومة بني إسرائيل على كل أراضي الفراعنة وبلادهم. ثمّ يقول: “وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا” أي تحقق الوعد الإلهي لبني إسرائيل بانتصارهم على الفرعونيين، بسبب صبرهم وثباتهم. وهذا هو الوعد الذي أشير إليه في الآيات السابقة (الآية 128 و 129 من نفس هذه السورة). صحيح أنّ هذه الآية تحدّثت عن بني إسرائيل ونتيجة ثباتهم في وجه الفرعونيين فقط، إلّا أنّه يستفاد من الآيات القرآنية الأخرى أن هذا الموضوع لا يختص بقوم أو شعب خاص، بل إن كان شعب مستضعف نهض وحاول تخليص نفسه من مخالب الأسر والاستعمار، استعان في هذا السبيل بالثبات والاستقامة، سوف ينتصر آخر المطاف ويحرر الأراضي التي احتلها الظلمة الجائرون. ثمّ يضيف في آخر الآية: نحن الذين دمرنا قصور فرعون وقومه العظيمة، وأبنيتهم الجميلة الشامخة، وكذا بساتينهم ومزارعهم العظيمة “وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ” (الاعراف 137). و (صنع) كما يقول (الراغب) في (المفردات) يعني الأعمال الجميلة، وقد وردت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بمعنى الهندسة الجملية الرائعة التي كان يستخدمها الفرعونيين في أبنيتهم. و (ما يعرشون) في الأصل تعني الأشجار والبساتين التي تنصب بواسطة العروش والسقف، ولها جمال عظيم وروعة باهرة. و “دمرنا” من مادة (التدمير) بمعنى الإهلاك والإبادة. وهنا يطرح السؤال التالي وهو: كيف أبيدت هذه القصور والبساتين، ولماذا؟ ونقول في الجواب: لا يبعد أن ذلك حدث بسبب زلازل وطوفانات جديدة وأمّا الضرورة التي قضت بهذا الفعل فهي أن جميع الفرعونيين لم يغرقوا في النيل، بل غرق فرعون وجماعة من خواصّه وعسكره الذين كانوا يلاحقون موسى عليه السلام، ومن المسلّم أنّه لو بقيت تلك الثروات العظيمة، والإمكانيات الاقتصادية الهائلة بيد من بقي من الفراعنة الذين كان عدد نفوسهم في شتى نواحي مصر كثيرا جدا لاستعادوا بها شوكتهم، ولقدروا على تحطيم بني إسرائيل، أو الحاق الأذى بهم على الأقل. أمّا الإمكانيات والوسائل فإن من شأنه أن يجردهم من أسباب الطغيان إلى الأبد.