اخر الاخبار

قيمة كلّ امرئ ما يحسنه / محمد جواد الدمستاني

قيمة كلّ امرئ ما يحسنه

محمد جواد الدمستاني

ميزان التقييم الإنساني ليس في الإنسان لذاته و إنّما فيما يحسنه، و ليس في نسبه أو عرقه أو ماله أو بلده و إنّما فيما يعلمه، و الحكمة في نهج البلاغة لأمير المؤمنين (ع) «قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ»[1]، و تعتبر هذه الحكمة من جوامع الكلم بلفظ قليل و موجز و معني كثير و واسع.

فهذه الحكمة عظيمة و كل كلامه عليه السلام عظيم، و لكنها أثارت إعجاب العلماء و تحدثوا عنها بإجلال و تعظيم و نظمها الشعراء، و في نهج البلاغة علّق عليها الشريف الرضي قائلا: و هي الكلمة التي لا تصاب لها قيمة و لا توزن بها حكمة و لا تقرن إليها كلمة، و نقل عن اللغوي و الأديب الخليل بن أحمد الفراهيدي قوله: أحَثُّ كلمةٍ على طلبِ علمٍ قولُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ (ع) «قَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ»[2].

و الناس يتفاوتون بأسمائهم و ألقابهم، و بأجسامهم و مظاهرهم، و ببلدانهم و دولهم، و بقبائلهم و عشائرهم، و بأموالهم و ممتلكاتهم، و بمقدار علومهم و معارفهم، و كل ذلك مما ينظر إليه النّاس و يقدرونه فيهم حسنا أو قبحا، و لكن الميزان الحقيقي للإنسان مرتبط بالعلم الذي يحسنه و يقدمه للآخرين، و هذا عبر القرون الماضية و إلى أن تقوم الساعة.

فقيمة الإنسان الحقيقية و مقداره في اعتبار الآخرين و محله في نفوسهم من تعظيم و تبجيل و توقير، أو تصغير و انتقاص و تحقير تابع لما يحسنه و فيما اكتسبه من كمالات، و هذا المعيار و التقييم للأشخاص والأفراد في المجتمعات بما يحسنون عام و ليس بشيء آخر كالنسب أو اللقب أو المال أو المنصب و الوظيفة، و ليس لمجموعة الشهادات التي يحملها، أو بمجموعة أوسمة حصل عليها، و ليس لانتصاراته العسكرية، أو الانتصارات الرياضية، أو لشهرة إعلامية أو دولية، بل لما يحسنه من علوم و معارف أو آداب أو اختراعات، و ما ينتجه و يسديه لأخيه الإنسان و للبشرية من نفع و خير و إحسان.

و الغرض من  الكلام الحث و الترغيب في اكتساب الكمالات و بذل العلوم و المعارف و النفع و الخير للناس و للبشرية عامة، فإنّ أرفع الناس في نفوس الناس منزلة أعظمهم علما و كمالا، و دعوة للإنسان للعلم و التعلّم فذلك الذي يجعل له نصيبا في تقييم أخيه الإنسان بتقديم ما يحسنه للنّاس.

و في كتاب الكافي يروى عن أمير المؤمنين (ع) «النَّاسُ أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُونَ، وقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ، فَتَكَلَّمُوا فِي الْعِلْمِ تَبَيَّنْ أَقْدَارُكُمْ»[3]، فقيمة  كل إنسان و احترامه بين الناس بمقدار علمه، و زيادة قيمته بزيادة علمه، و نقصان قيمته بنقص علمه، فإذا أراد الإنسان زيادة قيمته و احترامه بين الناس فعليه بزيادة علمه، و الجاهل أقل النّاس قيمة كما في رواية عنه (ع) «أقَلُّ النّاسِ قيمَةً أقَلُّهُم عِلماً، إذ قيمَةُ كُلِّ امرِئٍ ما يُحسِنُهُ»[4].

وفي نهج البلاغة «تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا فَإِنَّ الْمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ»، بمعنى أنّ الإنسان إذا تكلّم يتّضح حاله و علمه و قدره عند كلامه و ليس بشيء آخر.

و في القرآن الكريم في سورة يوسف:«فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ»[5]، لما تكلّم الملك مع يوسف و ظهر علمه و قدره قال الملك إنّك اليوم لدينا مكين أمين، ثم أعطاه مكانته التي يستجق.

و في الرواية عن الإمام الباقر (ع): «إنّي نَظَرتُ في كِتابٍ لِعَلِيٍّ عليه السلام فَوَجَدتُ فِي الكِتابِ: إنَّ قيمَةَ كُلِّ امرِىً و قَدرَهُ مَعرِفَتُهُ، إنَّ اللَّهَ تَبارَكَ و تَعالى يُحاسِبُ النّاسَ عَلى قَدرِ ما آتاهُم مِنَ العُقولِ في دارِ الدُّنيا»[6].

و في فضل و شرف العلم روي عن أمير المؤمنين (ع): «كَفى فِي العِلمِ شَرَفاً أنَّهُ يَدَّعيه مَن لا يُحسِنُهُ، و يَفرَحُ إذا نُسِبَ إلَيه، و كَفى بِالجَهلِ ضَعَةً أن يَتَبَرَّأَ مِنهُ مَن هُوَ فيه، ويَغضَبُ إذا نُسِبَ إلَيه»[7].

و في الحكمة يتفرع معنى في رفض احتكار العلم أو كتمه أو تعلّمه للافتخار و المباهاة دون تزكيته بنشره، و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم: «ما آتى الله أحداً علماً إلا أخذ عليه الميثاق أن لا يكتمه أحداً»[8]، فينبغي نشر العلم مع وجود أهله و مناسباته و ليس مطلقا كما يظهر من الرواية عن الإمام الباقر (ع) حيث قيل له: إِنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ الْعِلْمَ يُؤْذِي رِيحُ بُطُونِهِمْ أَهْلَ النَّارِ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع) فَهَلَكَ إِذَنْ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، مَا زَالَ الْعِلْمُ مَكْتُوماً مُنْذُ بَعَثَ اللَّه نُوحاً (ع)، فَلْيَذْهَبِ الْحَسَنُ يَمِيناً و شِمَالاً فَوَاللَّه مَا يُوجَدُ الْعِلْمُ إِلَّا هَاهُنَا.[9]

و هذا التقييم للإنسان بما يحسنه و يعلمه و يتقنه و يقدّمه للبشرية عام و عابر للزمان و المكان و الأعصار و الأمصار ألا ترى أنّ الأنبياء و الأوصياء معظّمون و مكّرمون عند كل الأمم طول التاريخ، و ألا ترى أنّ العلماء الذين اكتشفوا علوما و ابتكروا اختراعات و قدّموا جديدا لم يكن قبل اكتشافهم يتمتعون بتقييم و تقدير خاص يختلف عن غيرهم عند كل الأمم و كل العصور، و ألا ترى الإنسان الذي يقدّم الخير للنّاس هو موضع احترامهم و تقديرهم، و ألا ترى في التاريخ أنّ العبد الذي يعرف القراءة يُباع بأغلى ثمن من الذي لا يعرفها، و ألا ترى أنّ أهل المال و الجاه و المناصب و القيادات العسكرية و رؤساء الدول و الحكام و الملوك يموتون فيختفي ذكرهم و «العُلَماءُ باقونَ ما بَقِيَ اللَّيلُ و النَّهارُ»[10]، و «الْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَ أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ»[11].

و مع سعة المعنى و إطلاقه فهو يستوعب كل ما يحسنه الإنسان و يقدمه للآخرين مما يشمل العلوم و الاختراعات و الاكتشافات و التجارب و الخبرات و المهارات و الفنون و الأخلاق و غيرها مما يقدّم للنّاس فهو موضع تقديرهم و تقييمهم، فالتقييم يرجع إلى ما يحسنه الإنسان من الأقوال و الأفعال لا لشيء آخر.

و أمير المؤمنين عليه السلام باب مدينة علم رسول الله صلّى الله عليه و آله حيث قال: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا»[12].

[1] – نهج البلاغة – حكمة 81

[2] – الأمالي، الشيخ الطوسي، ص ٤٩٤

[3] – الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص51

[4] – مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (ع)، محمد بن طلحة الشافعي، ص٢٤٩، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، ج١، علي بن محمد أحمد المالكي (ابن الصباغ)، ص٥٥١

[5] – سورة يوسف، آية 54

[6] – معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، ص١

[7] – ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، الزمخشري، ج٤، ص٣٧، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (ع)، محمد بن طلحة الشافعي، ص٢٤٩، المستطرف في كل فن مستظرف، الأبشيهي، ج١، ص ٤٧، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، ج١، علي بن محمد أحمد المالكي (ابن الصباغ)، ص٥٥١ (وكفى بالجهل ذمّاً أنه يبرأ منه)، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج1، ص185 (وكفى بالجهل ذما يبرأ منه من هو فيه).

[8] – المستطرف في كل فن مستظرف، الأبشيهي، ج١، ص٤٧

[9] – الكافي، الشيخ الكليني، ج١، ص ٥١

[10] – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٧٩

[11] – نهج البلاغة، جكمة 147

[12] – تفسير الإمام العسكري (ع)، المنسوب إلى الإمام العسكري (ع)، ص ٦٢٨

Play Video