د. فاضل حسن شريف
جاء في کتاب موسوعة في ظلال شهداء الطف للشيخ حيدر الصمياني: في رواية الطبري: لمّا نزل الحسين كربلاء ونزلها عمر بن سعد، بعث إلى الحسين عليه السلام كثير بن عبد الله الشعبي، وكان فاتكاً، فقال له: إذهب إلى الحسين وسله ما الذي جاء به؟ قال: أسأله فإن شئت فتكت به، فقال: ما أريد أن تفتك به ولكن أريد أن تسأله، فأقبل إلى الحسين، فلما رآه أبو ثمامة الصائدي قال للحسين عليه السلام: أصلحك الله أبا عبد الله، قد جاءك شرّ أهل الأرض وأجرأهم على دم وأفتكهم، ثمّ قام اليه وقال: ضع سيفك، قال: لا والله ولا كرامة، إنّما أنا رسول، فإن سمعتم منّي حتى ابلغتكم ما أرسلت به اليكم، وإن أبيتم انصرفت عنكم، فقال له أبو ثمامه: فإنّي آخذ بقائم سيفك ثمّ تكلّم بحاجتك، قال: لا والله ولا تمسّه، قال: فأخبرني بماذا جئت؟ وأنا أبلغه عنك، ولا أدعك تدنو منه فإنّك فاجر، قال فاستبّا. ثمّ رجع كثير إلى عمر فأخبره الخبر، فأرسل قرّة بن قيس التميمي الحنظلي مكانه فكلم الحسين عليه السلام. وأنت تقرأ معي في هذه الرواية كم من الألفاظ المشينة قد وصفها له أصحاب أبي عبد الله؛ (شر أهل الأرض)، (أجرأهم على دم)، إضافة إلى قول الطبري نفسه عنه إنه كان فاتكاً، كلّ هذا لا شكّ والحسين في بداية نزوله في كربلاء، ليعطينا صورة واضحة عمّا يمكن أن يفعله هذا الفاجر في الغد، أو ما فعله على أرض الواقع يوم العاشر من المحرّم، حيث اشترك بشكل مباشر في قتل خيار أهل الأرض وعبّادها، أمثال زهير بن القين البجلي الذي كان راصداً له ولأخباره ولخطبه، وكان حريصاً على أن يقتله هو لا غيره، فإذا كان هذا حال الرجل، فكيف يمكن له أن يهتدي، ومن ثم ينتقل إلى صفّ أبي عبد الله الحسين ويقتل بين يديه، كما فعل الحرّ بن يزيد الرياحي وآخرون؟ إنّ الهداية لها دواعٍ ومقدّمات لابدّ من توفّرها أوّلاً، قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء” (ابراهيم 24) إلى قوله “وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ” (ابراهيم 26).
وعن مسلم بن عوسجة يقول الشيخ حيدر الصمياني: فهنيئاً لمسلم بن عوسجة هذا الثبات وتعساً لشبث بن ربعي ومن هم على شاكلته على هذا الخسران في هذه الدنيا. “وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً” (الاسراء 21). لقد كان مسلم بن عوسجة من الذين كانوا يترقّبون الأخبار، ويعيشون همَّ هذه الأمة في كيفية الخلاص من حكّامها وسلاطين الجور فيها، ولكنّهم كانوا صابرين مسلّمين لأمر إمامهم الذي دعاهم إلى التزام بيوتهم ما دام معاوية حيّاً، ولذلك تقول كتب السير: إنّ شيعة أهل البيت، ومنهم الشهيد مسلم بن عوسجة ما إن سمعوا بهلاك معاوية حتى كتبوا إلى الحسين عليه السلام من أجل المجيء لكي يقفوا إلى جانبه حتى آخر نفس من أجل إسقاط النظام الأموي الظالم الذي لم يرتضِ بكل الظلم الذي صنعهُ بهذه الأمة حتى ختم جرائمه شرّ ختمة، بتسليطهم يزيد الكفر والفجور على رقاب هذه الأمة. فكتبوا إلى الحسين كتاباً، وكان بينهم حبيب وسليمان بن صرد الخزاعي ومسلم بن عوسجة والمخلصون من شيعته، بعد أن اجتمعوا في منزل سليمان بن صرد الخزاعي.
وعن محاولة مسلم بن عوسجة قتل شمر يقول الشيخ الصمياني في كتابه: وممّا ينقل أيضا، كما في إبصار العين للشيخ السماوي: (أنّ مسلماً تمكّن في وقت ما قبل واقعة كربلاء يوم العاشر أن يقتل شمر بن ذي الجوشن، وكان مسلم رامياً ماهراً قد تعلّم الرماية وأتقنها في الحروب السابقة، فرام مسلم أن يرميه، فالتفت إلى الحسين ليأخذ منه الإذن قائلاً: (سيّدي، إنّ الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبّارين، وقد أمكن الله منه. فقال له الحسين: (لا ترمه، فإنّي أكره أن أبدأهم بقتال). وهنا إشارة أولاً إلى هذا اللعين، وإنّه كأميره وسيّده يزيد بن معاوية، فاسق فاجر متظاهر بالفسق، حيث وصفه العبد الصالح مسلم بن عوسجة بأنّه الفاسق، وثانياً وهو الأعظم في هذا المقام، أنّ الحسين كان يريد السلم لا الحرب، ويريد الجنّة لهم لا النار، وحتى حينما قاتلوه واختاروا الحرب كان عليه السلام يبكي عليهم، لأنّه كان ينطلق من منطلق القرآن والذي كان يقول: “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ” (البقرة 216). فلم يكن القتال أمراً محبّباً عند الله ولا عند رسوله، ومع أنّه أمر غير محبوب لما فيه من سفك للدماء وهدر للأموال، بل وتدمير للبلاد والعباد، نجد أنّ القرآن قد أمر المسلمين بأن يقاتلوا: “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه” (الأنفال 39). فالحرب والقتال قد يلجأ اليه حتى الأنبياء ولكن لا عن رغبة بل إطفاءً للفتنة ودرءاً للمفسدة وحفظاً للدين والحقوق من الضياع، وهكذا كان رسول الله’ يبذل الجهد ويحاور ويناقش ويدافع بكلّ الوسائل المتوفّرة لديه حتى إذا رأى بأن لا مناص من الحرب عندها يأذن بالحرب ولكن وهو يقول: (لا تقطعوا شجرة ولا تتبعوا مدبراً). ولم يزل يقاتل ويضرب فيهم بسيفه حتى قتل منهم مقتلة عظيمة، ثمّ عطف عليه مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي، فاشتركا في قتله، مع اشتراك هذين الفارسين يقال: وقعت لشدّة القتال غبرة عظيمة، فما انجلت الغبرة إلاّ ومسلم بن عوسجة صريع على ثرى الطف، فمشى إليه الحسين وبه رمق، فقال له الحسين: رحمك الله يا مسلم، ثمّ قرأ قوله: “فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً” (الأحزاب 23). وكان حبيب بن مظاهر إلى جانب الحسين فقال لمسلم وقد رأى شفتيه تتمتمان: يا أخي يا مسلم، لو لم أعلم أنّي في الأثر لأحببت أن توصيني بجميع ما أهمّك، فقال مسلم بن عوسجة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: أوصيك بهذا ـ وأشار إلى الحسين عليه السلام أن تموت دونه. إنّ الكلمات ربّما لا يمكن أن تعطي وتصوّر العظيم من المواقف، وهذا هو أحدها، فإنّ القلم تراه يكلّ، واليد تقف، واللسان لا يتكلّم، وهو يرى موقفاً عظيماً كهذا الموقف الذي وقفه فيه مسلم بن عوسجة في حياته وعند مماته. فهنيئاً لك يا مسلم بن عوسجة هذه الشهادة العظيمة بين يدي مولاك الحسين، جمعنا الله وإياكم معه تحت ظلّ رحمته، وفي جنّته، إنّه أرحم الراحمين.
وعن الشهيد حنظلة بن سعد الشبامي يقول الشيخ حيدر الصمياني: بين يدي الشهيد: أن من جملة الأمور التي ينبغي علينا أن نعيها ونحن نتكلّم عن شهداء كربلاء، هي أنّ هذا الدين وهذا المذهب لم يُقدَّم إلينا على طبق من ذهب، بل سالت لأجله الدماء الكثيرة، والأرواح، واُنفقت الأموال، وُضحِّيَ لأجله بكلّ غالٍ ونفيس، وما إلى ذلك مما قد يطول ذكره، وتأريخنا مُلئ بهذه الشواهد الكثيرة على ذلك، بل ربما واقعنا الذي نعيش فيه يؤكّد هذه الحقيقة التاريخية المهمّة، وصدق الشاعر حيث يقول: الدهرُ آخره شبهٌ بأوّله * ناسٌ كناسٍ وأيّامٌ كأيّام. وقد يسأل الإنسان، لماذا كلّ ذلك، وما الحكمة فيه؟ فأقول إنّ استذكار هذه القيم والمعاني السامية، خصوصاً فيمن نتحدّث عنهم، ألا وهم شهداء كربلاء الذين لم يكونوا في يوم من الأيام يعيشون في هامش الحياة بل كانوا من الشخصيات الكبيرة، والمهمّة في المجتمع وعلى كل الصُعُد سوف يَهَبُ الكائن البشري قيمةً وجوديةً جديدة، تبعث فيه الأمل كلّما أدلهمت به الخطوب، وشطت به الدروب، فَيهبُّ من جديد للدفاع عن دينه أو وطنه أو عرضه أو ماله أو كرامته، حيث إنّ العاقل يعلم جيّداً أنّه ليس أكرم على الله من أولئك العظماء، فإذا كان أولئك قد ضحّوا بكل ما يملكون، فلم لا يضحي هو بكل ما يملك، ومن ثم يكون ذلك دافعاً ممتازاً للتضحية والفداء. من هنا، ولأجل الأخذ والتزود من التأريخ وقيمه التي لا تخلو من الفوائد والعبر، دعينا إلى قراءة التاريخ والتفكّر فيه أكثر، يقول سبحانه وتعالى وهو يتحدث عن هذا الأمر بقوله: “قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ” (الأنعام 11). ولقد كانت كربلاء بحقٍّ وصدقٍ، واحدةً من أهمِّ الكنوز التاريخية قيماً وعظةً وعبرةً، ومبادئ سامية، ومعاني خالدة. “رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً” (الأحزاب 23). ومن أولئك الأفذاذ شهيدنا حنظلة بن أسعد الشبامي رضي الله عنه، وحتى نعيش أجواء هذه المعاني والمواقف الخالدة في حياة هذا الشهيد، بل وحياة أسرته، وبيئتهِ كما سيأتينا، نحاول ان نسلّط الأضواء على ذلك من خلال هذه السطور، ولكن وقبل ان نلج في الحديث عن حياته الشريفة، أود أن أشير إلى ما قاله العلماء في حقّه.