د. فاضل حسن شريف
جاء في کتاب الإمام زين العابدين، علي بن الحسين صفحة من دوره الثقافي و جهاده السياسي للشيخ محمد مهدي الآصفي: خطاب وعظيّ آخر للإمام زين العابدين عليه السلام: فالحذر، الحذر، من قبل الندامة، والحسرة، والقدوم على الله، والوقوف بين يديه. وتالله ما صدر قوم قطّ من معصيّة الله إلا إلى عذابه، وما آثر قوم قطّ الدنيا على الآخرة إلا ساء منقلبهم، وساء مصيرهم، وما العلم بالله والعمل إلا إلفان مؤتلفان. فمن عرف الله خالِقه، حثّه الخوف على العمل بطاعة الله. وإنّ أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه. وقد قال الله: “إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ” (فاطر 28). فلا تلتمسوا شيئاً مما في هذه الدنيا بمعصيّة الله، واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله، واغتنموا أيّامها، واسعوا لما فيه نجاتكم غداً من عذاب الله، فإن ذلك أقلّ للتبعة، وأدنى من العذر، وأرجى للنجاة، فقدّموا أمر الله وطاعة من أوجب الله طاعته بين يدي الأمور كلّها، ولا تقدّموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت من زهرة الدنيا بين يدي الله على طاعته وطاعة أولي الأمر منكم. واعلموا أنّكم عبيد الله، ونحن معكم، يحكم علينا وعليكم سيّد حاكم غدا، وهو موقفكم ومسائلكم، فأعدّوا الجواب، قبل الوقوف، والمسائلة والعرض على ربّ العالمين، يومئذ لا تكلّم نفس إلا بإذنه. واعلموا أن الله لا يُصدق يومئذ كاذباً، ولا يكذب صادقاً، ولا يردّ عذر مستحق، ولا يعذر غير معذور، له الحجة على خلقه بالرسل والأوصياء بعد الرسل. فاتّقوا الله عباد الله، واستقبلوا في إصلاح أنفسكم وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها، لعلّ نادماً قد ندم فيما فرّط بالأمس في جنب الله، وضَيَّع من حقوق الله. واستغفروا الله، وتوبوا إليه، فإنّه يقبل التوبة، ويعفو عن السيّئة، ويعلم ما تفعلون. وإيّاكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين، ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا من ساحتهم.
عن فتنة الطاغوت يقول الشيخ الآصفي رحمه الله في كتابه: الهوى والطاغوت أعظم خطرين في حياة الإنسان. الهوى من (داخل النفس) والطاغوت في ساحة الحياة (على الأرض). وفتنة الطاغوت في إخراج الناس من دائرة عبوديّة الله تعالى وطاعته إلى دائرة عبوديّة الطاغوت وطاعته، من دون الله “وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ” (البقرة 257). وعبادة الطاغوت طاعته واتباعه، من دون الله وقد ورد التعبير عن طاعة (الطاغوت) و (الشيطان) بالعبادة في القرآن في أكثر من موضع. “وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ” (المائدة 60). وعن طاعة الشيطان ورد في القرآن: “أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ” (يس 60-61). وفتنة الطاغوت في تطويع الناس لطاعتها هي بالإرهاب والإغراء والتغرير (التضليل). فإذا افتتن الطاغوت الناس تحوّل الإنسان إلى أداة طيّعة مطيعة لإرادته، لا يسعه أن يعصيه، بل يفهم الأشياء كما يفهمه الطاغوت، ولا يكون بوسعه ان يرى الأشياء ويفهمها بغير ما يراه الطاغوت ويفهمه. ولقد أنكر فرعون على السحرة اذ آمنوا بإله موسى قبل أن يأذن لهم. “قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ” (الأعراف 123). إنّ فرعون يتوقّع من الناس أنّ يتبعوا في إيمانهم وقناعاتهم إذن فرعون، وما لم يأذن لهم بقناعة أو إيمان كان عليهم أن يثبتوا على القناعات الرسميّة التي يرسمها لهم الطاغية وهذه خصلة أصيلة في كلّ الطغاة على اختلاف درجاتهم في الطغيان. فإذا تمكّن الطاغيّة من تطويع الناس لإرادته وفهمه وذوقه فقد تحول الناس عندئذ إلى كتلة بشريّة (إمّعة) فاقدة للإرادة والوعي والضمير. وكيف يتمّ للطاغيّة استفراغ شخصيّة الإنسان من وعيه وعقله وإرادته وضميره وسائر المواهب التي وهبها الله تعالى للإنسان؟ الجواب في القرآن: يقول تعالى عن فرعون: “فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ” (الزخرف 54). والمقصود بذلك فرعون. استخفّهم: أي استفرغ فرعون نفوسهم وعقولهم من الوعي والعقل والإرادة والبصيرة والمواهب التي يرزق الله تعالى الإنسان. إنّ الطاغوت ومن قبله الشيطان يجد في الناس ميلًا إلى الدنيا ورغبة قوية، وتعلّقاً شديداً بها وضعفاً تجاهها. فيطمعهم الطاغوت بالدنيا، ويغريهم ويهدّدهم بها، فيتمكّن منهم، ويمكّنونه من أنفسهم وعقولهم وإرادتهم وضمائرهم، فيستلبهم عند ذلك كلّ هذه المواهب الإلهيّة العظيمة، فيصبحون خِفافاً في ميزان القويّ. إذن مصيبة الإنسان الكبرى في فتنة الطاغوت. “وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ” (البقرة 257).
وعن التقوى والزهد يقول الشيخ محمد مهدي الآصفي: والنقطة الأُولى في علاج فتنة الطاغوت هي أن يحذر الإنسان مما حذّره الله تعالى من فتن الدنيا التي حرّمها الله، كالسكر، والفحشاء، والمال الحرام، واللهو الحرام. وهذا هو التقوى. فقد أحلّ الله تعالى للإنسان أن يسعى في مناكب الأرض ويتمتّع برزق الله. “فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ” (الملك 15). وجعل لهم فيها حدوداً، وحذّرهم من أن يتعدّوها. ” تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها” (البقرة: 187). “وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ” (الطلاق 1). والتقوى هو الالتزام بحدود الله تعالى. وهذا هو العامل الأوّل الذي يحفظ الإنسان من فتنة الدنيا (فاحذروا ما حذّركم الله منها). والعامل الثاني لمكافحة فتنة الدنيا الزهد وعدم الركون إلى الدنيا. يقول عليه السلام: وازهدوا فيما زهّدكم الله فيه منها، ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان. إنّ (الزهد) غير (التقوى). ولا يمكن علاج فتنة الدنيا بالتقوى فقط من دون الزهد. وسوف يتضح لكم وجه هذه الحقيقة. إن حقيقة الزهد تحرير النفس منالتعلّق بالدنيا، وليس من التمتّع والانتفاع بالدنيا، ومصيبة الإنسان فيالتعلّق بالدنيا، وليس في التمتّع بالدنيا، وإن كان الاستغراق في التمتّع بطيبات الحياة يؤدّي إليالتعلّق بالدنيا غالباً. يصف أمير المؤمنين عليه السلام الزهد، فيقول: الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن: “قال الله سبحانه: “لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ” (الحديد 23). ومعنى الآيّة أن أساس مصيبة الإنسان سقوطه في الحزن (الأسى)، بما فاته والفرح بما آتاه.
وعن الركونان اللّذان يفسدان الناس يقول الشيخ الآصفي رحمه الله في كتابه: يذكّرنا الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام في هذه الكلمة بالركونين اللّذين يفسدان الناس: الركون الأوّل: الركون إلى الظالمين. يقول تعالى: “وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ” (هود 113). والركون الثاني الذي يفسد الناس: الركون إلى الحياة الدنيا. يقول تعالى: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ” (التوبة 38). والرضا بالحياة الدنيا هو الركون إلى الدنيا. ويقول تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ” (يونس 7- 8). وهذه الطمأنينة بالدنيا هي الركون إلى الدنيا والرضا بها والاطمئنان إليها، وهو أحد الركونين المحظورين في منهج التربيّة الإسلاميّة. إذن المحظور من الدنيا أمران. (التعلّق بها) و (الركون إليها). والركون هو الاطمئنان. والسائغ من الدنيا هو التعامل معها والتمتّع بطيّباتها، ولكن بشرط ألا يستغرق هذا التعامل الإنسان، فإن الاستغراق في التعاطي مع الدنيا يؤدّي بالإنسان غالباً إلى المحظورين اللّذين ذكرناهما وهماالتعلّق والحبّ أوّلًا، و الاطمئنان والركون ثانياً. وكيف يمكن الركون إلى الدنيا؟ وهي دار قلعة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام، وما أسرع ما يقلع الإنسان عنها شاء أم أبى، ورضي أم سخط. والاطمئنان والركون الذي يأمرنا الإسلام به في منهج التربيّة الإسلاميّة هو الاطمئنان بذكر الله والركون إلى الله ورحمته والرجاء برحمة الله. يقول تعالى: “أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” (الرعد 28). يقول عليّ بن الحسين عليه السلام: والله إنَّ لكم مما فيها عليها دليلًا وتنبيهاً من تصريف أيّامها وتغيّر انقلابها، ومثلاتها وتلاعبها بأهلها، وإنّها لترفع الخميل، وتضع الشريف، وتورد أقواماً إلى النار غداً، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه. إن الدنيا حلوة، خضراء، لاهية، فاتنة، تفتن أهلها وتلهيهم، وتجتذبهم، وتسحر عيونهم، لكن الذين ينظرون إلى الدنيا من خلال تقلّباتها ومثلاتها (شدائدها، وعذابها، ومعاناتها) وتغريرها بأهلها، وتصرّم أيامها، وانقضاء لذاتها وشهواتها لا تسحرهم الدنيا ولا تفتنهم ويحذرون من أن تفتنهم وتسحرهم. إنّ الدنيا ترفع الوضيع الخامل، وتضع الشريف النابه ومن هذه الدنيا يسقط أقوام في نار جهنم، ومن أجل هذه الدنيا يرتكب ناس أفظع الجرائم، ثمّ ينتهي أمدهم في الدنيا، ويسقطون في درجات الجحيم.