د. فاضل حسن شريف
جاء في کتاب الإمام زين العابدين، علي بن الحسين صفحة من دوره الثقافي و جهاده السياسي للشيخ محمد مهدي الآصفي: عن الطريقة الصحيحة للرؤية: إنّ للرؤيّة كأيّ فعل آخر من أفعال الإنسان أساليب ومناهج، منها الصحيح ومنها الخطأ، والقرآن يوضح لنا، فيما يوضّح من مناهج السلوك والعمل، المنهج الصحيح للرؤية، يقول تعالى: “وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى” (طه 131)، و (تمديد النظر) طريقة من النظر والرؤية، وهي أن يمد الإنسان نظره إلى ما رزق الله تعالى الناس من رزق، وفي هذا (المد) معنى (التجاوز) وكأنّما الإنسان يتجاوز بنظره عمّا رزقه الله تعالى من رزق إلى ما رزق الآخرين من عباده من زهرة الحياة الدنيا.. وهذه رؤيّة مذمومة. وهذا (التمديد) في النظر مصدر عذاب الإنسان ومعاناته فهو يتمنّى ما لم يرزقه الله، ويسعى نحوه، فإذا رزقه الله تعالى تمنّى غير ذلك مما لم يرزقه الله تعالى، ورزق الآخرين من عباده. ويستمرّ الإنسان في ملاحقة الدنيا ومساعاتها كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام، والركض وراءها، فيطول عذابه فيها، ولا ينال منها غايته.
وعن الاعتبار بالتاريخ يقول الشيخ الآصفي رحمه الله في كتابه: ثمّ يقول عليّ بن الحسين عليهماالسلام: انظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة، حديدة البصر (النظر)، وأبصر حوادث الفتن وضلال البدع وجور الملوك الظلمة، فلقد لعمري استدبرتم الأمور الماضيّة في الأيّام الخاليّة من الفتن المتراكمة والانهماك فيها ما تستدلّون به على تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض بغير الحقّ. اقرأوا الحاضر من خلال الماضي. إن الماضي مليئ بالعبر فاعتبروا لحاضركم من الأيّام الخالية. إنّ أصحاب البصائر يقرأون حاضرهم في الماضي، ومن خلال كتب التاريخ، ويجدون في تاريخ الأمم السابقة وتاريخ هذه الأمّة، وما وقع فيه من جور الملوك وطغيانهم، ثمّ هلاكهم وسقوطهم، دليلًا على حاضرهم. وفي القرآن تأكيد بليغ على رؤيّة الحاضر والمستقبل من خلال الماضي، وإن قراءة الماضي ليس للتسلية، ولا للتكاثر والتفاخر، وإنّما للاعتبار. يقول تعالى: “لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ” (يوسف 111).
جاء في کتاب الإمام زين العابدين، علي بن الحسين صفحة من دوره الثقافي و جهاده السياسي للشيخ محمد مهدي الآصفي: نقاط ثلاث في كلام الإمام عليه السلام: وفي كلام الإمام عليه السلام نقاط ثلاث: النقطة الأولى: أن ننظر إلى الدنيا بعين ثاقبة، نافذة البصيرة، لا يحجبها سطح الأحداث عن النفوذ إلى أعماقها والوصول إلى دلالاتها. فإن في أنظار الناس أنظاراً بليدة تقف عند سطح الحوادث، ولا تنفذ إلى أعماقها ودلالاتها، وتنبهر ببريق الفتن والإعلام. ومن الأنظار أنظار ثاقبة نافذة لا تنبهر ببريق السلطان والمال والموقع، وتنفذ إلى الأسباب والنتائج (البدايات والعواقب). وهذه النظرة الثاقبة النافذة المستعليّة على فتن الدنيا هي التي يعلّمنا القرآن إيّاه تجاه التاريخ. يقول تعالى: “وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى” (طه 131). يقول الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام في هذا المعنى: فانظر إلى ما في الدنيا بعين نيّرة حديدة البصر. وفي النقطة الثانية: يعلّمنا الإمام أن ننظر إلى التاريخ بهذه النظرة الثاقبة النافذة. (وأبصر حوادث الفتن وضلال البدع وجور الملوك الظلمة). واحذروا أن يحجبكم الحاضر عن الماضي، فلربّ حدث وفتنة في الحاضر لا تستطيع أن تقرأها وتفهمها وتعالجها وتفهمها، إلا من خلال الماضي. إنّ قراءة الماضي قراءة واعيّة جزء من مكونات الثقافة الإسلاميّة. وليس بوسع الإنسان أن يكسب وعي سنن الله في المجتمع إلا من خلال التاريخ. ومن يقرأ التاريخ وينظر فيه بنظرة ثاقبة واعيه، فكأنّما عاش التاريخ كلّه وتزوّد بتجاربه وخبراته. وهذه المعايشة الواعيّة للتاريخ، والنظرة الواعيّة إلى حوادث التاريخ يأمر بها القرآن الكريم. يقول تعالى: “قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ” (آل عمران 137). “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ” (النمل 69).