د. فاضل حسن شريف
تضمن الكتاب موضوعات سياسة المقاومة لحكام بني أمية، رسالته الى الزهري وحواره مع عباد البصري، الحالة السياسية والاجتماعية، معاني الاضطرار والانقطاع والنصر، مركز ومسؤولية الإنسان في الحياة، الحقوق الذاتية، الدعوة الى المقاومة والصبر والثبات، طلب العلم، الحكمة، دعاء كميل، خطبه في وعظ الناس، مواقف السؤال، أحوال ما بعد الموت، المعاصي والركون الى الدنيا، الهوى والطاغوت، التقوى والزهد، التأريخ، العلاقة بالنفس وغربتها وعودتها، معرفة الله، و الخلوات النافعة. تشير حلقات المقال إلى إشارات لآيات القرآن.
جاء في کتاب الإمام زين العابدين، علي بن الحسين صفحة من دوره الثقافي و جهاده السياسي للشيخ محمد مهدي الآصفي: عن الهول الأكبر من أهوال ما بعد الموت: هذا الزلزال تذهل المرضعة عمّا أرضعت، وهو أكثر ما يمكن أن يتصوّره الإنسان من الهول الذي يصيبه، حتى تذهل المرضعة عمّا أرضعت أعاذنا الله من هول ذلك اليوم بظِلال أمنه الذي يرزق عباده الصالحين، ولسنا منهم، ولكنّنا نرجو أن يعاملنا بفضله ولطفه، وليس بعدله. ونقرأ آيات سورة المعارج فتمتلئ قلوبنا رهبة وهيبة من ذلك اليوم الرهيب الذي يمتدّ خمسين ألف سنة كلّه حساب ومساءلة، يمتدّ هذا الزمن الطويل، وكلّه رهبة وخوف، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر. وليس ببعيد ذلك اليوم الرهيب ولكنّ الناس عنه في غفلة وسبات. يومئذ تكون السماء كالمهل (النحاس المذاب) من شدّة الحرّ الذي تصبّه عليهم السماء، أو الزيت الذي يغلي من شدّة الحرّ، والجبال يومئذ كالصوف المنفوش “وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ” (المعارج 9). “وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ” (القارعة 5). والصوف المنفوش الصوف الذي فقد تماسكه وأصبح هشّاً بعد تصلّب، ولعلّ ذلك من أثر الزلزال العظيم الذي تصيب ساحة الحشر فتهتزّ له الجبال هزّات قويّة، فتكون كالعهن المنفوش. وكلّ إنسان مشغول بشأنه في ذلك اليوم العسير، لا يسأل حميم عن حميم. يومئذ يودّ المجرم لو يدفع عذاب ذلك اليوم عنه بأعزّ من يعرف من أهله وأبنائه وزوجته وإخوانه وعشيرته، ومن في الأرض جميعاً وينجو بذلك من عذاب الله ولكن هيهات (كلّا). ثمّ تقرّر آيات المعارج هذه الحقيقة المرّة “أنّها لظى” تتلظّى، وتلتهب على المجرمين وتنزع من شدة الحر جلود رؤوسهم “نَزَّاعَةً لِلشَّوى”. ولنقرأ هذه الآيات من سورة المعارج، وهي كما قلنا في الآيات التي تلوناها من قبل من سورة القارعة إذا أعطاها الإنسان حقّها من القراءة والوعي تقف عند قراءتها كلّ شعرة في جسمه من هول ذلك اليوم: “سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى” (المعارج 1-18). قول الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام عن هذا اليوم المهيب، وعن هذا الهول الأعظم: (واعلم أن من وراء هذا (يعني مسألة القبر والبرزخ) أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة، ذلك يوم مجموع له الناس).
وعن التحذير من المعاصي يقول الشيخ الآصفي رحمه الله: ثمّ يحذّرهم الإمام ذنوبهم وآثارهم وتبعاتها السيّئة على دنياهم وآخرتهم ومعاشهم ومعادهم. (فاحذروا) أيّها الناس من المعاصي، ما قد نهاكم الله عنه، وحذّركموها في كتابه الصادق الناطق، ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره وتهديده عندما يدعوكم الشيطان اللعين إليه من عاجل الشهوات واللّذات في هذه الدنيا فاشعروا قلوبكم خوف الله، وتذكّروا ما وعدكم في مرجعكم إليه من حسن ثوابه، كما خوّفكم من شديد عقابه. يقول سبحانه: “أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ” (النحل 45). إن للذنوب آثاراً سيّئة في دنيا الناس ومعاشهم وآثاراً أسوأ في معادهم وآخرتهم. أمّا ما يتعلّق بدنيا الناس فإن للذنوب والسيئات آثاراً تخصّ العاملين بها. وهناك ذنوب ترتكب من ناحيّة المجتمع، وتشيع في أوساط الناس، دون أن يقابلها إنكار للمنكر بحجم الذنوب والمعاصي، وبحجم الأمّة عندئذ العذاب ينزل على الأمّة كلّها، وليس على المذنبين والعاصين بالخصوص، وهو قوله: “وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ” (الأنفال 25). والعقوبات التي تخصّ هذه الذنوب ابتلاءات ومصائب عامّة وسقوط حضاري، كما يحدّثنا القرآن في الأمم السابقة، وكما عرفنا في عصرنا ذلك في سقوط دولة الإلحاد في الاتحاد السوفيتي السابق. يقول تعالى: “فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ” (الأنعام 6). “وفي قوم نوح يقول تعالى: “مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا” (نوح 25). “فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ” (البقرة: 59). والمعلوم أن الرجز الذي نزل من السماء عمّ الجميع، وأن الجميع لم يكونوا من الظالمين، فعمّهم العذاب، عندما شاعت فيهم الذنوب، وانقطع فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. “فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا” (النمل 52). “فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها” (الشمس 14).
ويستطرد الشيخ محمد مهدي الآصفي متحدثا عن التحذير من المعاصي: وأمّا الذنوب التي لا تعمّ المجتمع، فهي التي يقابلها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّها تكون بحجم المعصيّة وبحجم العاملين بالمعصية، والعذاب في مثل هذه الذنوب يقع على المذنبين خاصّة، كما ذكرنا. يقول تعالى: “وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ” (الشورى 30). “فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ” (آل عمران 25). “ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ” (البقرة 281). هذا كلّه فيما يصيب الناس من عقوبة في معاشهم ودنياهم على ذنوبهم. وأمّا ما يتعلّق بعقوبات الآخرة فإنّها لا تنزل إلا على العصاة والمذنبين خاصّة، وبقدر ذنوبهم ومعاصيهم “لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى” (الأنعام 164). ذلك أن يوم القيامة يوم الفصل، يفصل فيما بين الناس فلا يتحمّل بريء عقوبة المجرمين. وهذه العقوبات هي التي تحدّثنا عنها في العنوان السابق (الهول الأكبر) يوم القيامة. “يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى” (المعارج 11-18). هذه العقوبة تخصّ المجرمين فقط يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وهذه العقوبة تدعو فقط من أدبر وتولّى وجمع فأوعى.
وعن الركون إلى الدنيا والركون إلى الظالمين يقول الشيخ محمد مهدي الآصفي: ويحذّرنا الإمام في خاتمة هذا الدرس عن ركونين، هما سبب الكثير من ابتلاءات الإنسان ومصائبه في هذه الدنيا والآخرة، وهو الركون إلى (الدنيا) والركون إلى (الظالمين): يقول عليه السلام: ولا تركنوا إلى هذه الدنيا وما فيها ركون من اتّخذها دار قرار ومنزل شيطان فإنّها دار قلعة ومنزل بلغة، ودار عمل. وهذا هو الركون الأوّل. والركون الثاني: الركون إلى الظالمين، فإن الله قال: “وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ” (هود 113). هذا الركون وذلك الركون يستنزلان غضب الله وعذابه. الركون إلى الدنيا وزخرفها ومتاعها، يطيل أمل الإنسان في الدنيا، وطول الأمل في الدنيا يعادل دائما نسيان الموت والآخرة وهما بمعنى الإعراض عن الله تعالى ونسيانه. والدنيا، كما يقول الإمام عليه السلام ليست بدار قرار واستيطان، وإنّما هي منزل قلعة، سرعان ما يقلع الإنسان عنه، ومنزل بلغة، يبلغ بها وفيها ما قسم الله لعباده الصالحين في نعيم رضوانه وجناته. فمن جعلها دار قرار واستيطان، استغرقته، وبقدر ما تستغرقه الدنيا يخسر الآخرة، والإعداد والتحضير لها. والركون إلى الظالمين، بمعنى نفي الركون إلى الله، فلا يمكن أن يجمع الإنسان بين الركون إلى الله والثقة به والاطمئنان إلى الظالمين. ولا يمكن أن يستشعر الإنسان الأمن والاطمئنان بجوار الله، وفي نفس الوقت يستشعر الأمن والاطمئنان بجوار أعداء الله. إن الركون إلى الظالمين يسلب صاحبه الركون إلى الله بالتأكيد. وما أشقى الإنسان وأعظم بؤسه إذا انتزع من نفسه وقلبه الركون إلى الله العلي الأعلى، واستبدله بالكون إلى الظالمين. يقول تعالى: “وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ” (هود 113).