اخر الاخبار

الإجازات القرآنية ثقافة أم إلزام؟

بقلم: علي الراضي الخفاجي

في الحديث عن أهمية اكتساب الإجازات في القراءات القرآنية التي تمنح من قبل المشايخ أو المؤسسات القرآنية التي تتصدى لتعليم القراءات ودراستها والتي تتضمن توصيات وإمضاء المجيز، لابد من ذكر أهميتها وجدواها بشكل عام، فهي إنْ كانت في القراءات فلأجل الحرص على الضبط والإتقان، وإنْ كانت في الحديث فلأجل الحفاظ على تتابع السند وصحة الرواية، وإنْ كانت في الإفتاء والقضاء فلخطورتهما لما يترتب عليهما من آثار على مصائر الناس، وهي في كل ذلك لاتخلو من منافع إذا ما مُنحتْ وفق الضوابط والشروط، خصوصاً إذا أخذ بنظر الاعتبار شرطا الضبط والإتقان للحفاظ على هذه العلوم المقدسة من التغيير والتلاعب، حتى سرتْ ثقافة الإجازات في من يتصدى لبعض الفنون كالخط؛ للحفاظ على قواعده وأصوله  بعد نشوء الاختلاف في أنماط رسمه في البلاد الإسلامية.

وبخصوص الإجازات في القراءات القرآنية، نستخلص الموضوع ببيان أمور عدَّة، وهي:

1-قيل إنَّ مصطلح الإجازات ظهر في القرن الثالث الهجري تزامناً مع بداية التصنيف في القراءات القرآنية، أي إنه مُستحدثٌ ولم يكن له أصالة في عهد النبوة.

2-لم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله نهيه عن تعليم المسلمين تلاوة القرآن الكريم إلا بالإجازة بالمفهوم الحالي، إنما كانت تزكيته لبعض أصحابه وإطراؤه عليهم تفيد الإجازة، من قبيل قوله لأُبي:(أقرؤكم أُبي)، ولأمير المؤمنين عليه السلام:(أقضى أمتي علي)، وإنْ كان القضاء يستلزم العلم بالقرآن والسنة لما يستنبط منهما من أحكام ومسائل فقهية.

3-قد لايكون الحصول على الإجازات -أحياناً- دقيقاً ويمثل الواقع العلمي للمجاز، وذلك بحصوله عليها بطريقة غير شرعية، أو قائمة على المصالح، أو المحاباة والتودد، فقد لايعرض الطالب قراءته بالكامل على شيخه أو يتغيب عن الحضور إلا وقت منح الإجازة أو إجراء الاختبار.

4-إنَّ عدم حصول إجازة بالإقراء ليس مُسوِّغاً لمنع القراء من تعليم الآخرين، كما لايعدُّ دليلاً على عدم كفاءتهم العلمية، فما أكثر منْ كان بارعاً ومتقناً ومجتهداً ولم تُتحْ له الظروف للحصول على الإجازة أو لم يفكر فيها، إنما هي مدرك يؤيد جدارته ووثيقة يتشرف بها من شيخه والجهة التي منحته، إضافة إلى مايكتسبه في جلسات العرض من نكات ومعلومات يفترض على المجيز أن يكسبه إياها.

5-الإلزام بالحصول على الإجازة في الإقراء أمرٌ يخالف الواقع، فكتاب الله جلَّ وعلا متداولٌ بين المسلمين على اختلاف لغاتهم وقومياتهم، وأمر تعليمه واجبٌ إيمانيٌّ وأخلاقيٌ، وأمانة في رقابهم، وقد أجاز صلى الله عليه وآله المسلمين بذلك إجازة عامة، وأثنى على من يعلم الآخرين، حيث قال:(خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه)، أي أخيركم، حتى أسس صلى الله عليه وآله لثقافة توقير القارئ وتقديمه في الممارسات العبادية، كما في الصلاة بقوله:(يؤمُّكم أقرؤُكم للقرآن)، ورفع مقام معلِّمي ومتعلِّمي القرآن، ووصفهم بخيار الناس، وأنه يستغفر لهم كل شيء حتى الحوت في البحر.

6-لايمكن أن يقف أمر التعليم في زاوية ضيقة، أي وفق آلية الإجازة المعروفة في الوقت الحاضر، فإنَّ الصيغ المختلفة لاتجعل الأمر محدوداً، فمن أنواع الإجازات:(الإجازة لغير مُعيَّن)نحو:(أجزتُ المسلمين)أو(أجزتُ كلَّ واحد)أو(أجزتُ أهل زماني)وغيرها من الألفاظ المتعارفة عندهم والتي لاتشترط حضور المتعلمين وقراءتهم عليهم وأخذ الإجازات منهم، فمن أمثلتها ماذكره ابن الجزري في خاتمة منظومته(طيبة النشر)التي أجاز فيها جميع المقرئين أن يروي عنه أرجوزته، بقوله:

                         وقد أجزتُها لكلِّ مُقرئٍ   كذا أجزتُ كلَّ منْ في عصري

7-مما يؤسف له أنَّ الكثير من المشايخ والمجازين يتسامحون في منح الإجازة، كقراءة الرواية في فترة وجيزة، حتى وصل الأمر إلى منحها من خلال التلفاز أو الهاتف أو من خلال وسائل الاتصال الألكتروني، أو إقراء أكثر من شخص في وقت واحد.

وقد أدى التساهل فيها إلى أن يأخذ بعض العلماء مأخذاً منها، منهم الذهبي فقد انتقد علم الدين السَّخاوي على تساهله بقوله:(ماعلمتُ أحداً من المقرئين ترخَّص في إقراء اثنين فصاعداً إلا الشيخ علم الدين..)، حتى ادعى البعض منهم أنه ختم القرآن بالقراءات السبع في يوم أو ليلة واحدة، وهو أمرٌ يخالفُ الطبيعة وينافي الواقع.

ومن العلماء الذين أدلوا بدلوهم للحديث عن هذه الظاهرة العلامة جلال الدين السيوطي، حيث قال:(الإجازة من الشيخ غير شرط في جواز التصدي للإقراء والإفادة، فمن علم من نفسه الأهلية جاز له ذلك وإنْ لم يُجزْهُ أحد، وعلى ذلك السلف الأولون والصدر الصالح، وكذلك في كلِّ علم، وفي الإقراء والإفتاء، خلافاً لما يتوهمه الأغبياء من اعتقاد كونها شرطاً، وإنما اصطلح الناس على الإجازة لأنَّ أهلية الشخص لايعلمها غالباً من يريد الأخذ عنه من المبتدئين ونحوهم؛ لقصور مقامهم عن ذلك، والبحث عن الأهلية قبل الأخذ شرط، فجعلت الإجازة كالشهادة من الشيخ للمجاز بالأهلية).

حتى انتقد في موضع آخر اعتياد المشايخ أخذ المال مقابل منح الإجازة بقوله:(مااعتاده كثيرٌ من مشايخ القراء من امتناعهم من الإجازة إلا بأخذ مال في مقابلها لايجوز إجماعاً، بل إن علم أهليته وجب عليه الإجازة، أو عدمها حرم عليه، وليست الإجازة مما يقابل بالمال، فلايجوز أخذه عنها، ولا الأجرة عليها). الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، 1: 210

ونحن لاننكر ما للإجازات في العلوم الشرعية ومنها القراءات من أهمية بالغة في إتقان قراءة كتاب الله تعالى وفي الارتقاء بشخصية المعلم وثقافته، وفي مستوى القارئ وبراعته، إذا ماوافقت استحقاقه، واتبعت الأصول والآلية التي نشأت عليها.