علي المؤمن
الخطاب الديني النظري التقليدي الذي اعتادت عليه الأدبيات الحركية الإسلامية العراقية؛ بات بحاجة ماسة، أكثر من أي وقت سابق، الى ثورة فكرية تعالج الفصام الذي حصل بين التجربة الواقعية التي يخوضها الإسلاميون العراقيون منذ العام 2003 من جهة، والفكر السياسي الذي نظّروا له منذ خمسينات القرن الماضي، وخاصة ما يرتبط بمفاهيم العمل الدعوي والتبليغي، ونظرية الدولة الإسلامية وتطبيق أحكام الشريعة، التي كانت تمثل فلسفتهم في التأسيس، وغايتهم في التحرك من جهة أخرى، إضافة الى المفاهيم الضاغطة الواقعية؛ كالدولة المدنية والدولة الوطنية، واستخدام أدوات الديمقراطية في مجالات هيكلية النظام السياسي والحقوق والحريات، وصولاً الى التعامل مع الديمقراطية والليبرالية في بعديهما الآيديولوجي والفلسفي، من جهة ثالثة.
هذه المراجعة الشاملة لها علاقة بنوعية الخطاب الفلسفي والآيديولوجي للإسلاميين، أو ما يمكن تسميته برؤيتهم الكونية وغاياتهم النهائية. ويدخل ذلك في جدليات وثنائيات قديمة ـ جديدة، سبقهم إلى الخوض فيها الإسلاميون المصريون والإيرانيون والأتراك، وتتمثل في جدلية التنظير والتطبيق، أو ثنائية الآيدولوجيا والأصالة وضغوطات الواقع والمعاصرة، أو سجال الوجوب والحرمة والإباحة في التماهي مع فلسفات وآليات المذاهب الاجتماعية الوضعية وغيرها.
وقد ظل النهوض الحضاري الذي شهده واقع المسلمين، منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي وحتى الآن؛ يفرز جملة من التحديات، مصدرها التجارب الإسلامية الجديدة على مستوى التطبيق من ناحية، والعامل الخارجي الذي يسعى لإفشال هذه التجارب من ناحية أخرى. ولعل القابلية الذاتية التي يمتلكها الفكر الإسلامي التجديدي التفاعلي تؤهله بمستويات معينة لمواجهة هذه التحديات، على الصعيدين النظري والعملي. وأبرز عناصر خلق تلك القابلية: المرونة والشمولية والتوازن والواقعية والحركية التي يتميز بها الفكر الإسلامي التجديدي التفاعلي؛ بالصورة التي تجعله قادراً على ضمان أصالته، وفي الوقت نفسه تمكّنه من استيعاب حاجات العصر ومتطلباته، وهو ما يمكن أن نطلق عليه مفهوم “تجديد فكر الواقع”، الذي يطوِّع حركة الواقع ويخضعها للثوابت العقدية والشرعية، كما يطوِّع المتغيرات الشرعية لمتطلبات الواقع. وبمعزل عن هذا التجديد، ستبقى تلك التحديات قائمة، بل تزداد عمقاً ورسوخاً.
ولعل تجربة الإسلاميين العراقيين الصعبة والملتبسة بعد العام 2003 هي في مقدمة التجارب التي ينقصها التكييف الفقهي الواقعي والفكر العملي المعمق؛ بالنظر لكونها تجربة تشاركية فريدة، ليس على مستوى شراكة السلطة، بل على مستوى الشراكة في عقيدة الدولة ومنظومتها القانونية. ولا يقتصر هذا التكييف والتنظير على الفكر السياسي الإسلامي وحسب، بل ينبغي أن يستوعب كل تفاصيل الفكر الاجتماعي ونظرية الدولة والبناء الإسلامي الحضاري لحياة الأمة.
والتجديد الفكري الذي يعبّر عن الطموح ليس تأسيساً لفكر جديد أو إحياءً لفكر قديم، بل هو عملية تفاعل حيوي في إطار منظومة فكرية قائمة، لإعادة اكتشافها وتطويرها من جهة، وتجديد الفهم الذي أنتجها بمرور الأزمان من جهة أخرى، فيكون فهم الأصول المقدسة فهماً زمانياً ومكانياً يعي حاجات العصر المتغيرة والواقع العراقي الملتبس، أي أنه لا ينطلق من فراغ، بل إن له منهجه ومرجعيته وثوابته. وفي النتيجة؛ سيتحول التجديد إلى خطاب نهضوي يستهدف البنية الفكرية، ليجعلها تلبي جميع حاجات الفرد والمجتمع والدولة، في الحاضر والمستقبل، ويهدف أيضاً إلى صياغة المشروع الإسلامي الحضاري الذي يخضع له الواقع طوعاً، ولا يتعارض مع أسس الشراكة مع الآخر المختلف فكرياً وعقدياً.
والحقيقة؛ أن التطور السريع جداً الذي يشهده العالم على كل المستويات: الأفكار والنظريات، الاكتشافات، النظم العالمية السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها، والذي ينبئ بقفزات نوعية كبرى في العقود القادمة، ذلك التطور المرعب يفرض أن يكون المسلمون بمستواه، قد يتجاوزهم، وهو أمر يتعارض مع قوة الشريعة وقابليتها الهائلة على استيعاب عملية التطور والاحتكاك مع العصر. وإذا كان خطاب الإسلاميين وأداؤهم يعجزان عن تلبية بعض أهم الحاجات الواقعية للناس؛ بل يعجزان عن إقناع حواضنهم الاجتماعية؛ بما يمكن توصيفه بأنه إخفاق مركب في المطابقة بين المبادئ والأداء من جهة، وفي إنشاء خطاب ديني واقعي متجدد من جهة أخرى؛ فكيف يمكن حينها الحديث عن استباق المستجدات واستدعاء مخرجات الفكر الإسلامي للاستجابة لمتطلبات المستقبل؟؛ خاصة وأن العالم بات يعيش في المستقبل.. تشوّفاً وتخطيطاً وتحضيراً.
هذه الحقائق المدخلية تتطلب ـ ابتداءً ـ خطاباً إسلامياً أصيلاً في مضمونه، وعصرياً في شكله، وواقعياً في مخرجاته، وقادراً على الحوار والتفاعل والإقناع والاستقطاب، في خضم الكم والنوع الهائل من التحديات والمشاكل النظرية والواقعية؛ بالشكل الذي يمكِّنه ـ في الحد الأدنى ـ من إيقاف توسع الفجوة بين الواقع الداخلي العراقي، والحضارات والثقافات والأفكار الخارجية المتفوقة مادياً ومدنياً. ولعل قدرة الخطاب الإسلامي العراقي المعاصر على الإقناع؛ هي المهمة الأصعب التي تواجهه، لأنها تتطلب مشروعاً فكرياً واقعياً عميقاً؛ يطرح الإسلام بمضمونٍ يحفظ له أصوله ويرسّخها في عمق المشروع، وبصيغ تؤمن له التقنيات والآليات العصرية، كما تتطلب أداءً يثبت عملياً إمكانية تطبيق ذلك المشروع بأكثر الصور مقبولية. ولعل بعض الصيغ الناجحة التي تطرحها حركات إسلامية في تركيا وتونس وإيران؛ يمكن أن تكون نماذج للدراسة والاستعارة والاستفادة؛ بما ينسجم مع الواقع العراقي.
أما الاستمرار في حالة الجمود الفكري، والخطاب المنفعل، والإخفاق العملي في بلوغ الأهداف النظرية؛ فإنه يعمِّق الفجوة مع الواقع الملتبس المتحرك، ويطيح بكل الآمال والأحلام والطموحات التي بقيت الأمة تنتظرها قروناً طويلةً مظلمة، ولن ينفع حينها خطاب العاطفة لتسكين الألم والعوز الروحي والفكري والمادي للحواضن الاجتماعية للإسلاميين.