عاشوراء لها مفتاحان استراتيجيان لفهمها: الأول حسيني والثاني زينبي، وحديثنا اليوم سيصبُّ على الدور الثاني وهو الزينبي ولولا ذلك الدور لانطمست معالم عاشوراء واندثرت صور التضحية والبطولات على ألسن وعاظ السلاطين وحرّفت في متون الكتب الباطلة والمزيفة.
اذ لم تقتصر أدوار النهضة الحسينيَّة في جميع مراحلها التضحويَّة على الرجال فقط بعد أن أدوا ما عليهم وكتبوا بدمائهم الزكيَّة أروع الملاحم في سِفر عاشوراء الملحمي الذي يتكون من فصلين رئيسيين؛ الأول جهادي حربي تمثل بالإمام الشهيد (ع) ورفاقه الميامين، والثاني جهادي إعلامي تبليغي وتوعوي تمثل بدور السيدة زينب (ع)،
فضلا عن دورها الخطابي المجلجل والمزلزل أمام الجماهير وفي محاضر الطغاة كعبيد الله بن زياد الذي واجهته العقيلة بالحقيقة ((فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا) ويزيد بن معاوية الذي وقفت شامخة أمامه قائلة (مارأيت إلاّ جميلاً) بعد أنْ قلبت الطاولة فوق رؤوسهم، إذ حاولوا أنْ يخلطوا بين الأوراق فكانت السيدة زينب بالمرصاد لهم،
إذ يروي أرباب المقاتل وكتب السير الدورَ الفاعلَ للسيدة زينب وبما يشبه الملاحم الأسطوريَّة لامرأة شجاعة في غاية الشجاعة والكمال الرزين والمنطق الحصيف لا يمكن فصل الأدوار الجهاديَّة عن بعضها البعض سواء ما يخصّ منها الجهاد في الميدان أو في خارجه، فكان دور السيدة زينب مكمّلاً لدور الرجال التضحوي من خلال التبليغ والتنويه والوقوف كالبنيان المرصوص أمام الطغاة رغم فداحة الموقف وجسامة المصيبة إلاّ أنها كما وُصفت بـ»جبل الصبر»،
فاستمرت عاشوراء ميداناً متصلاً ومتواصلاً يمدُّ بعضه بعضاً بمواقف البطولة، وكلا الدورين يصبّان في بودقة واحدة ألا وهو الجهاد في سبيل الله وينطلقان من الهدف الاستراتيجي الأول الذي أعلنه الحسين (ع) في برنامجه الإصلاحي (إنَّما خرجت لطلب الإصلاح)،
جهاد السيدة زينب
فالإصلاح الحسيني الذي عمّده الإمام الشهيد بالدم وجهادُ السيدة زينب باللسان وجهان لعملة واحدة ومكمّلان لبعضهما البعض، وقد شاء الله أنْ تكون السيدة زينب (ع) الوجه الآخر من الجهاد من خلال دورها الإعلامي في التبشير والتعريف بنهضة سيد الشهداء أمام الأمة التي لم تدرِ حجم الجريمة التي وقعت على البيت العلوي ونوع الرزيَّة التي لحقت به ونوع الحماقة التي ارتُكبت ضدهم.
فالجهاد باللسان والمنطق والحُجة البالغة جاء مكمّلاً للجهاد بالسيف فمشروع الإصلاح الحسيني لم يكتمل إلا بالدور التبليغي ـ التوعوي للسيدة زينب (ع) فاكتملت دعائم ذلك المشروع بالسيف تارة وباللسان تارة أخرى، ومقارعة السيدة زينب لطغيان عبيد الله بن زياد في الكوفة إلاّ وجهٌ آخر من الجهاد بالسيف ووقوفها البطولي أمام يزيد بن معاوية وخُطبها الرنانة أمام الجماهير الغافلة التي احتشدت للتشفّي برؤية الركب الحسيني وهو يساقُ بين المدن الشامتة والفرِحة بمأساة وضحايا ذلك الركب الذي كانت رؤوس الشهداء تتقدمهم وعلى رأسها رأس الإمام الشهيد في منظر همجي ـ حتى ظن البعض بوجود عيدٍ لم يكن يعرفونه مسبقاً ـ
الدعاية الأمويَّة المضلّلة
وبعد أنْ أسهمت في إزالة الغشاوة السميكة التي غُلّفت بها عقول الناس المخدوعين بالدعاية الأمويَّة المضلّلة (ابتداءً من إخراجهم مرغمين من كربلاء وانتهاءً في الشام) وصوّرا أنَّ الحسين هو رجل خارجي عن إجماع الأمة والمتمرد على السلطة وذلك بغسل الأدمغة، وانبعاثه من المدينة الى كربلاء هو لأجل السلطة وإزاحة الحاكم عن سُدة الخلافة التي يدعون أنَّ الأمة الإسلاميَّة قد أجمعت عليها ففندت ببيانها العلوي جميع المزاعم والأباطيل الأمويَّة التي لولا جهود تلك السيدة العظيمة لاستحالت الى حقائق راسخة وثابتة تتداولها الألسن الرخيصة.
ويوجد اليوم في عصر الألفيَّة الثالثة للميلاد وبعد أكثر من 14 قرناً من المأساة من يدافع عن يزيد ويزعم أنَّه بريء من دم الحسين كونه لم يأمر بقتله وغيرها من الأكاذيب التي حوّلت المدن التي مرّض بها موكب السبي الحسيني الى كرنفالات ابتهاجاً بمقدم سبايا ذلك الركب وتشفياً بهم،
وقد أسهمت السيدة زينب (ع) بتبديد تلك الأفراح وتفنيد الأباطيل وقدّمت الحقيقة الناصعة لتلك الجماهير الفرحة بأنَّ هذا الركب المساق في أبشع حال هو ليس من الخوارج أو العبيد أو من السبايا الذين يحقّ لهم أنْ يعاملوهم هذه المعاملة اللا إنسانيَّة، بل إنَّهذا الركب ينحدرُ مباشرة عن النبي محمد (ص) شخصياً ومن الخليفة علي بن أبي طالب وليس من غيره.. ذلك النبي الذي أخرجهم قبل عقودٍ يسيرة من الظلمات الى النور.
لذا نرى أنَّ الجهد البياني والإعلامي للسيدة زينب بعد انجلاء غبرة عاشوراء ومقتل سيد الشهداء (ع) وأصحابه الميامين (رض) لا يقلّ عن الجهد التضحوي للإمام الشهيد (ع)، بل هو مكمّلٌ له ويصبُّ في الهدف ذاته الذي ثار من أجله الحسين (ع) وهو الإصلاح.
المصدر: الصباح