عاش الإمام زين العابدين (عليه السلام) حياة مليئة بالاحداث الهامة والمنعطفات الخطيرة والوقائع الدامية ، تكللت حياة هذا الإمام العظيم الهمام بمجموعة من الاسهامات والمنجزات على الأصعدة كافة ، فقد كان مع فاجعة كربلاء بمحنتيها محنة الطف ووقائعها المهولة وكيفية إبرازها مع أهدافها إلى الناس ومحنة السبي ومحطاتها الصعبة في المواجهة مع المجرمين مباشرةً وهمّ الدين وبقاءه والدفاع عنه مع مايمثله الإمام (صلوات الله عليه ) من بقية لثقل الإمامة الهادي وغصنه الباقي، كل هذه المحطات المهمة أظهرت هذا الإمام العظيم ومعالم شخصيته ومكنون أسراره
حتى حار به الأعداء
▪️محنته في الطف
كان (صلوات الله عليه) قد رأى الأحداث والمصائب المفجعة التي حلت بابيه واعمامه وإخوته وأصحاب أبيه (عليهم السلام جميعا) وهذا الشعور لم يألفه أي إنسان وإن ألفه فقد يخرج منه وهناك آثار غير طبيعية على شخصيته ووجدانه ولكن الإمام (عليه السلام) كان ذا بصيرة كبيرة وهذا لكونه إماما معصوماً مفترض الطاعة وأيضا كونه من بيت ألف المصائب وألفته لالشيء سوى لأن الله اختاره لحمل أمانته والحفاظ على دينه من تحريفات المبطلين وأهل الأهواء الضالين فقد تحملوا ماتحملوا في سبيل رسالة الحق واعلاء كلمة الله وإخراج الناس من دين الملوك والطغاة إلى دين الله وأنبياءه المرسلين و أئمة الهدى المصطفين فهم الصلحاء الهادين ، وحيث رأى الحقد الدفين على جده وأبيه قد وآثاره في تلك المشاهد المروعة على رمضاء كربلاء وهو يرى أن هؤلاء القوم خلوا من أدنى رحمة فقد كانوا عتاة مردة وجبابرة كفرة ، في معاناته مع علته ومرضة وعدم استطاعته للذب عن آل الله في كربلاء فهذه الصور لم تفارق حياته على طول مدة إمامته اللاربع وثلاثين عاما فقد كان في كل فرصة يُذكّر الناس بهول ماجرى فدموعه التي كانت لاتفارقه وحزنه الذي كان بارزاً على سماته ، كان سبباً في إدامة هذا الزخم الحسيني على هذه العصور
▪️محنته في السبي
وهنا كانت اللحظات العصيبة وهو يرى عمته فخر المخدرات وعقيلة الطالبيين تساق سبيه من بلد إلى آخر مع حرائر النبوة بنات الرسالة و كانت أهم المحطات التي فضح فيها (صلوات الله عليه) طغاة بني أمية ودينهم المزيف وأيضا تضليلهم للناس ، ومن أصعب المواقف هي دخوله إلى الشام وقد رأى أنهم اتخذوا هذا اليوم عيدا يرقصون فيه ويفرحون ويمرحون وقد لبسوا الاثواب الجديدة ، ليستقبلوا سبايا بيت النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ،وهنا كانت الصدمة الكبيرة التي كُشفت لأهل الشام بأن الرؤوس المشالة هي لأهل بيت رسول الله وكادت أن تقضي على بنائهم لولا أن شياطيين البلاط اشاعوا الضلال والكذب بينهم ومع ذلك فقد خطب صلوات الله عليه خطبته المدوية التي قلبت الأمور رأسا على عقب فلم ينزل صلوات الله عليه إلا وقد فضحهم واخزاهم على رؤوس الأشهاد ، وطبيعة استقبال الشاميين لسبايا النبوة كانت عكس أهل الكوفة التي هي عاصمة أمير المؤمنين عليه السلام فهي تعرف جيداً من هو علي وآله ولكن عبث بني أمية وجواسيسهم وقطاع الطرق الذين نشروهم في الكوفة العلوية والاشاعات الكاذبة التي أحبطت الكوفيين حالت دون ذلك وأيضا كان هناك جمع خرج خلسةً لنصرة سيد الشهداء عليه السلام ولكن جواسيس بني أمية وفرق اغتيالاتهم لحقتهم وقتلتهم في الطريق هذا غير السجون التي ملئت بكبار أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، لذلك عندما دخل السبايا إليها وجدوا الناس في حزن شديد وقد صبغوا بيوتهم بالسواد وهجرت النساء الرجال فكان يوم على الكوفة عظيم ، ولايخفى أن المجتمع الكوفي آنذاك قد تغيرت ديموغرافيته بفعل بني أمية فقد استقدم معاوية إليها واليه على البصرة زياد بن أبيه وعاث في أهلها خراباً حتى أنه قام بتهجير الآلاف العوائل الموالية لأمير المؤمنين عليه السلام إلى خُراسان وكان هذا الفعل من الخروقات لاتفاقية صلح الإمام الحسن عليه السلام وهؤلاء هم الطلقاء وأبنائهم فلاي عهدٍ يراعون!، وكل هذه الإجراءات للتضييق على شيعة أهل البيت (عليهم السلام) في الكوفة وابعادهم عنها حتى يستتب الأمر لبني أمية اللعناء فكان ما كان
▪️ دوره في الحفاظ على دين الله ونشر أهداف النهضة الحسينية المقدسة
الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان شخصية فريدة في تاريخ الإسلام فقد استطاع أن يجذب المؤالف والمخالف فلم يخالف في امامته أحد سوى الفرقة الكيسانية العاصية والضالة ، حتى أن عام رحيله سماه أبناء العامة بعام فقد الفقهاء هكذا كانت مقبوليته بين المسلمين ، وقد رد الكثير من الدعاوى المنحرفة والعقائد الباطلة التي حاول بني أمية اشاعتها بين المسلمين لخدمة سلطانهم وحتى يشرعنوا لجرائمهم وافعالهم الشنيعة ومن تلك العقائد الفاسدة التي جاؤوا بها عقيدة الجبر ، وحاصلها أن الإنسان مجبور على أفعاله مما يبرأ الإنسان من فعل المعاصي وينسبها لله عزّ وجل حاشا وقد كان فقهاء السلطان من يشيع هذه الضلالات بين المسلمين ، وأيضا من العقائد الفاسدة التي روجوا لها أن جعلوا لله حدا وجهة وجسما وحملوا الآيات الشريفة على ظاهرها بدون تأويل فقد رد الإمام (صلوات الله عليه) هذه الدعاوى بالبرهان السديد والأدلة الدامغة وهذه نماذج بارزة من تلك الاعتقادات الأموية الفاسدة وإلا هناك الكثير والكثير في سيرتهم فقد أسسوا كل لجذور الانحراف والضلال داخل الأمة وقد سار من جاء بعدهم بمسيرتهم المنحرفة ، وأيضا كان له دور مهم في التعريف بالنهضة الحسينية وأهدافها ونتائجها التي حُفظ الدين ببركاتها فقد أخذ يُظهر هذه الحقيقة حتى لا يأتي بعد ذلك من يغفل عن نتائج هذا القيام النهضوي الملحمي الذي غير خلاله التاريخ والسنن البشرية التي قامت على أن تكون الغلبة للسيف لكن هذه النهضة قلبت الموازيين وجعلت الانتصار للدماء والمبدأ والتضحيات
▪️ ثقافته الدعائية والتربوية
فقد كانت من الأمور البارزة في حياته الشريفة منهجه الدعائي الذى كان من صميم كتاب الله المجيد في قوله تعالى { وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِیۤ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِی سَیَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِینَ }[سُورَةُ غَافِرٍ: ٦٠] وتعاليم وهدي العترة الطاهرة (عليهم السلام)
● فقد برزت هذه النفحات من سيرته العطرة ولم تكن تلك الأدعية وتلك الصحيفة نصوص عادية خاليه من المفاهيم فقد كانت منهجاً متكاملاً في تعاليم الإسلام ونظره فيما يخص الكون و الحياة والآثار المترتبة على الإيمان بالله عز وجل وبرسوله وأهل بيته (عليهم الصلاة والسلام) فهي رسائل تربوية في جميع حقول المعارف الدينية وأيضا تحوي على مفاهيم تنظم الحياة الاجتماعية على أساس الاسلام وأحكامه ، وأيضا هذه الأدعية مشحونة بالرسائل والحقائق الاعتقادية التي كانت رسائل بينه وبين شيعته وبيان لعقائدهم الحقة ، فمن أراد أن يسبر هذه الأغوار فإنه يحتاج إلى عمق وتفصيل طويل ، ومن أهم النصوص التي وصلت إلينا هي رسالة الحقوق التي تحتوي على خمسين بندا تنظم حركة الإنسان على أهم المستويات فهي وثيقة مهمة ترجمت نهج القرآن الكريم وتعاليم العترة النبوية، وهي عبارة عن حدود لابد من العمل على وفقها لكي يحصل المؤمن على سعادة الدارين ، حتى إنه نظّم العلاقة بين الإنسان وخصمه وبين الإنسان وصديقه وقننها لكي لايسرف الإنسان في عداوته وصداقته ويذهب بعيداً عن الموازين المعتدلة والمزاج الوسطي الذي جاء به الإسلام وأيضا بين حتى حقوق جوارح الإنسان وجوانحه فهي نص غني قيّم ، تحتاج هذه الوثيقة المهمة أن يتم تأصيل هذه التعاليم في حياة المؤمن حتى يكون مصداقا للقول والعمل ، وهذا نابع من الإخلاص الذي أظهره الإمام (عليه السلام) فكان مصداقا حقيقياً للقدوة الصالحة الذي يُقتفى أثره
▪️البّكّاء
بقي الإمام زين العابدين (عليه السلام) يندب أباه طيلة الأربع وثلاثين عاما ويقيم المآتم ،وحيث أن ثقافة البكاء الأصيلة في الشعائر أخذت صداها في عصره وكانت جذور انتشارها في أيامه المباركة فسلام عليه يوم وُلد ويوم أُستشهد ويوم ُيبعث حيا رزقنا الله في الدنيا زيارته وفي الآخرة شفاعته
والحمد لله رب العالمين
أقل طلبة العلم
أحمد صالح آل حيدر
٢٤محرم الحرام ١٤٤٦هـ
النـــجف الأشـــرف