اخر الاخبار

الجواهــري... في "المقامــة" الاماراتيـــة

رواء الجصاني (*)

————————————————

   يعود الجواهري خريف عام 1968 الى العراق، بعد اغتراب اضطراري ابعده عنه سبعة اعوام، في العاصمة التشيكية – بــراغ، فيقام له اكثر من احتفاء وتكريم، تعبيرا عن الافتخار به، والاعتزاز بعطائاته الشعرية والوطنية النافذة، وكان ابرز ما شهدته تلكم الحفاوةُ حفل مهيب حضره العديد من النخب الرسمية والثقافية والسياسية، وحشدٌ جماهيري واسع من محبيه، ومريديه وعارفي عبقريته، وقد القى الشاعر الكبير – بعد كلمات ومداخلات الترحيب – رائيةَ عصماء وجدانية ووطنية، الى جانب التعبير فيها عن اثقال عتاب وهضيمة تحمل اعباءها، وأرقها طوال الاغتراب، وجاء مطلعها:

أرح ركابك من أيّـن ومن عثـرِ/ كفاك جيلان محمولاً على خطـرِ..

ويا أخا الطير في وردٍ وفي صـدرٍ/ في كل يوم له عــشٌ على شجـرِ

عريان يحمل منقارا واجنحةً / اخفّ ما لـمّ من زاد اخــو سفر

 

   وفي الابيات الثلاثة السابقات ما لا يحتاج لعناء تفسير، واعني ما ركزت فيه من مناغاة للنفس وما ينوء به المرء في سبعينات العـمر من تعب وارهاق… ولكن الشيخَ، الفتى، لم تبرح لديه، وتتصارع في خلجاته “صبوات مهر” بحسب تعابيره، فيعود وثابا يخوض رحاب الشعـر وحبَّ الحياة بحيوية وعنفوان..

 

   فبرغم اعلانه “الاعتزال المزعوم” اعلاه يستمر الجواهري معطاء، مبهرا لربع قرن لاحق بالتمام والكمال، كما تنبؤنا الوقائع، ومن بينها: اعادة انتخابه رئيسا لاتحاد الادباء والكتاب العراقيين، وتمثيل البلاد في محافل الشعر وسماوات الثقافة والفكر: مؤتمراتٍ واجتماعات وندوات وما بين تلك وهذه غزيـرٌ متعدد ومتنوع، ومن ابرزه تلبية دعوات تكريمية خاصة، ومشاركات عامة، له في عواصم ومدن عربية وعالمية تصل لخمسين على ما نؤرخ له، ويؤرخ هو في قصائده ونثـره، وكلها في الفترة مابين عام 1968 وحتى عام 1994 اي قبل رحيله بثلاث سنوات..

 

    وفي السياق، نميل تماما للرأي والتوثيق القائلين بان من بين اشهر تلكم المشاركات والحضور اللافت بحسب شهادات التأرخة ذوات الصلة: زيارته الى الامارات العربية المتحدة تلبية لدعوة رسمية من وزارة الثقافة والاعلام عام 1979 ليحتفى به شاعرا عربيا عبقريا، اول، في ذلكم الزمان، وحتى يومنا الراهن على اقل تقدير، وابسط وصف (1) ..

 

 وقد شملت تلكم الاحتفاءات من اهل الامارات ونخبها الرسمية والثقافية لقاءات واستقبالات عامةً وخاصة، ثم ليلقي الشاعـر الضيف، الاستثنائي، في حفل رئيس مهيب، دالية باتت اصداء ابيات القصيد منها – وليس بيت قصيد واحد – تتردد في وجدان الذاكرة العربية الى اليوم.. ومما نتوقف عنده هنا اولاً مطلعها الباذخ:

اعيذكَ ان يعاصيك القصيدُ، وان ينبو على فمك النشيدُ

وان تعرو لسانك تمتماتٌ، وان يتفرط العقـد الفريد

فكن كالعهد منتفضا شبابا، وجوّد ايها “اليفن” المجيد

فقد آلى وريدك ان يغني الناس ما بقي الوريدُ..

 

ثم تتوالى ابيات القصيدة الجواهرية – الاماراتية ذات السبعين بيتا لتحيي الداعين والمضييفين والحضور والمحبين، معبقة بالمودة وفيض الاحاسيس الجياشة، دعوا عنكم العنفوان الذي لا، ولم يخبُ يوما عند شاعرنا “الممراح فراجّ الكروب” ومما جاء حول ذلك في متن القصيدة :

أفتيانَ الخليجِ ورُبَّ ذكرى/ تُعاد ولا يمِل المستعيدُ

 سعيت إليكمُ يحدوا ركابي/ لقاءٌ صنوُ مسعاكم حميد

إلى هذي الوجوه تشع لطفاً / يشع بمثلها هذا الصعيد

 تحدبتم علىَّ ينثُ حولي      / نديُّ الحبَّ واللطفُ المجود

 فبوركتم وبورك ما تبنت/ مواهبكم وبوركت الجهود

 بكم والصفوةِ الواعين تاهت/ بأجمل واحةٍ قفراء بيـدُ

 

  ويتابع الضيف وهو في اجواء غامرة بالصفاء والانسجام والترقب والتهيب، كما يسجله ديوانه، وتوثقه التسجيلات الصوتية والمصورة للامسية الغنّاء، فينسجم ويصدح :

وقفتُ على الخليج تذوب فيه/ زمردةٌ يزانُ بها الوجودُ

 تدور على الحِفاف كما استدارت/ على النحر القلائد والعقود

طليقاً لا المسافُ يحدّ منه/ ولا تقف الحواجز والسدود

وحول ضفافهِ يمتد نبـعٌ/ بما يُحيَّ يفور وما يبيد …

فقلتُ وفي البداوةِ ما يزين ال…بُداةَ وفي الحضارةِ ما يشيد

 “أبوظبيٍ” بما أخذت وأعطت/ عروسٌ مهرُها نارٌ وقــودُ

 

   ومثلما هو الحال في الكثير الغالب من قصائد الجواهري، يشتبك العام والخاص، وتتعانق الرؤى والاحاسيس مع الماضي، والواقع والرواهن، فتتطرق الابيات وتقف عند ما يشغل الذات، وينتظره الناس، فتروح تؤرخ، وتعبر عن تطلعات، وتثير شؤونا وشجونا، وتستنهض همماُ هنا، وحماسات هناك، وتستقبلُ جميعها من الحاضرين بمزيد من التفاعل والاعجاب، والاعتزاز، وكذلك من المتابعين بعد نشرها، ولعلّها الى اليوم  ..

 

   وعلى عهده الذي تبناه طوال عقود، لم يكتف للشاعر الكبير وهو يعيش اجواء المحبة وصفاء المودة الحميمية، فذهب الى ان يرد على الاحتفاء والتكريم  فيكتب وهو بضيافة حاضرة الامارات – ابي ظبي، حيث انعقدت الامسية التاريخية، قصيدةً تصف بعض وجدانيات، وتتغنى بجمالٍ وحسنٍ قائميّن فأنشد:   

قـالوا “أبـوظـبـي” في الخليجْ / فـأيـن “أم الظـبـي” الغـنـيجِ

إنــا جــهــدنــا فــلم نُــزَوَّدْ/ حــتــى بــنــفــح مــن الأريــجِ..

يــا صــنـعـة الله فـي عـلاه/ بـوركـت فـي الحـسن من نسيج

 “ورحنا” نـرمـي الجـمـار شـوقا / فـي مـلعـب الشـادن البـهـيج..

 

   ونستمر في التأرخة لمحطات الشاعر الاكبــر في الامارات وعنها ولها … واذ يحل عام 1991 تكون هناك محطة تالية في علاقة الامارات بالجــواهري، وعلاقته بها، حين منح جائزة “الانجاز الثقافي والعلمي من “مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية”.. وقد لبى دعوة الى امارة “الشارقــة “هذه المرة، لا ليحضر مراسم تقليده الجائزة فحسب، بل ليؤكد، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، استمرارَ فيضِ عطاءات، فيحبس انفاسا، ويشمخ شعرا ومواقف انسانية..  

 

     وبهذا الصدد يؤرخ  د. عبد الإله عبد القادر، المدير التنفيذي لمؤسسة “العويس” فيكتب عن امسية الجواهري بمناسبة استحقاقه الجائزة المميزة، ويقارنها بما سبق من امسيات نظمت في الامارات لشعراء عرب بارزين عديدين، ونقتبس مما كتبه “.. يفوز الجواهري بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، في دورتها الثانية (1990-1991) وكان لابد من تنظيم أمسية شعرية بهذه المناسبة، وكانت الجائزة في بدايتها، ولم يكن يتوفر مبنى للمؤسسة والجائزة حينذاك، بل كانت بمثابة ضيف يقبع تحت خيمة اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، ولذا فكـر وبحث الزملاء في الأمانة العامة للجائزة، عن المكان المناسب لهذه الأمسية الشعرية التاريخية، واستقر الرأي، بعد حوار وتداولات، على أن تنظم في النادي الأهلي بمدينة “دبي” في قاعته الكبرى المسقوفة” .. ويزيد د. عبد القادر في توثيقه فيقول: “.. بدأ العد التنازلي للأمسية فتوافد الناس على النادي الأهلي بالآلاف، وامتلأت المقاعد، التي لم نستطع حصر عددها.. وبدا الكثيرون وقوفاً في جوانب الصالة.. كان حشدا بشريا يضم جميع جنسيات العرب، جاء أفراده للاحتفاء بشاعر العرب الأكبر، واعتزازاً منهم بالإبداع الشعري المتميز والتاريخ الوطني المهم للمبدع.. ظل الجواهري على المنصة، في المسرح قرابة الساعتين، قرأ وانشد فيها اجمل أشعاره وارقها، معتمداً على ذاكرته، التي تحدت سنوات العمر، تلك ليلة شعرية لم ولن تتكرر في تاريخ الشعر العربي..” (2)

 

   ومن جديد، يعود الجواهري وعلى ذات الخطى، والنهج الراسخ، الذي تبناه مشاعاً، وكما ارخ لذلك شعرا عام 1947 في لامية ذائعة حين قال “وكذاكَ كنتُ وما أزالُ كما بنى أهلي أُجازي بالجميلِ جميلا” على ذات المسار راح الشاعر الضيف يصدح بابيات معبرة شاكرا سلطان العويس، صاحب الجائزة وراعيها، وحضوره الامسية التي نوثق لها.. وكذلك ليشيع اجواء محبة عن امارة “الشارقة” تدل بلا تكلف، وتعبر دون كثير جهد عما اختلج عنده من مشاعر واحاسيس، فكتب واذاع- الجواهري(3):

من الإماراتِ عنْ شطآنِ “شارقـةٍ”/ على الخليج تعالى صاعداً قمـرُ

 يدورُ في فلكِ الآدابِ محورهُ/ “فتى عويسٍ” وأخدانٌ له غُــررُ

 سمرُ الوجوهِ مصابيحٌ يطيبُ بهم/ وبالذي شيَّدوا من وحدةٍ سمـرُ

 يستذكرونَ ذوي الألباب صفوتها فيخلدونَ بما شادوا وما ادَّكَروا

 

   وبالمناسبة ربما من المفيد ان نؤشر هنا لمزيد من التوثيق ذي الصلة الى ان الشاعر الخالد اورد في ارثه الشعري الثري على امتداد سبعة عقود ونصف، اسماء اكثر من 20 عاصمة ومدينة عربيــة، اضافة لبغداد ومدن العراق الاخرى، وكذلك لنحو 20  اسلامية وعالمية، وجاءت امارتا “ابو ظبي” و”الشارقة” تتوشح في ديوانه كما وثقنا في السطور السابقات، وها هي اليوم “الفجيرة” تنظم لشقيقتيها، وان بشكل آخر، اذ يحلّ  فيها الجواهري الكبير في “ليلـة” تُستشف اهميتها وجمالها بتنظيم “دارة الشعر العربي” في مفتتح نشاطاتها..(4)

 

ختاما نود القول بان هذه التارخة العجول لا تريد العرض والتوثيق وحسب، بل واكثر من ذلك بكثير، ومن بينه محاولة تبيان اهتمام اهل الثقافة والادب العربي بشاعرهم الخالد، ومساعيهم الحميدة في استذكار تراثهم الغني، واشعاعاته التي جهد بها الكبار فأبدعوا كلٌ حسب مواهبه وطاقاته ومثابراته، واستذكر  بهذا الشأن عن دور العظماء في التاريخ بيتين خص بهما الجواهري “صديقه” المتنبي في نونية عصماء عام 1977 حين خاطبه:

بأنك موقــدَ الجمرات منا، وان كُسيت على رغم ٍ دخانا 

وانا أمة خلقـــت لتبقى، وأنت دليل بقياها عيّانا

————————————————————–

(*) كان يفترض ان تقدم هذه المادة بحضور ومشاركة للكاتب في ندوة نظمتها “دارة الشعر العربي” في امارة الفجيرة، بدولة الامارات، مطلع اب/ اوغسطس 2024 وقد اعتذر عن تلبية الدعوة الرسمية لظروف طارئة، فتم بث المشاركة بالصوت والصورة في افتتاح الفعالية، والتي شارك فيها مداخلان رئيسيان: د. عارف الساعدي، ود. علي العلاق، وادباء افاضل آخرون..  والكاتب – رواء الجصاني: منشيء، ومدير “مركزالجواهري الثقافي” منذ عام 2002 والى اليوم، ورئيس تحرير “بابيلون” للاعلام في براغ..

 (**) كل الابيات الواردة في النص مستلة من ديوان الجواهري/ طبعة بيروت عام 2000 باستثناء ما أشر خلاف ذلك..

1/  ثمة توثيقات سابقة للكاتب عن، وحول “مقامات” الجواهري المصرية والسورية والمغربية واليمنية واللبنانية.. وفي بولندا وباريس وبراغ .. وغيرها، موثقة جميعها على مواقع عديدة في شبكة الانترنيت.. ومن المعروف ان كاتب هذه التأرخة هو ابن اخت الجواهري، قد عايش ورافق الشاعر العظيم عن قرب طوال عقود، وخاصة في الفترة 1978 – 1991 اذ كان امينه الشخصي خلال تلك السنوات الثلاث عشرة..

2/ د.عبد الإله عبد القادر، في مقالة نشرها الملحق الثقافي لصحيفة “البيان” الاماراتية بتاريخ 2012.6.3 تحت عنوان “امسية لن تنسى” ..

3/ ارشيف مؤسسة “العويس”..

4/ للكاتب توثيقان منشوران، وثالث معد للنشر، بعناوين “مع الجواهري في مدن وعواصم العالم، العربية والعالمية”..