بقلم: علي الراضي الخفاجي
تتجدد الدعوات كلَّ عام من قبل البعض عن ضرورة تجديد الخطاب الديني بشكل عام وخطاب المنبر الحسيني بشكل خاص، والموضوع جدير بالاهتمام، ويحتاج إلى رؤية واعية ونقدية، ولكن يلزم بيان المقصود من مفهوم التجديد، وهل يعني هدم الماضي والقيام ببناء جديد؟ أم التحفظ على الموجود وقبول إضافات تنسجم مع الثوابت وتخدم الأهداف؟
لايخفى إنه من الأهمية بمكان معرفة دور الخطاب المنبري وأصالته وتأثيره، فلو راجعنا الروايات الشريفة للأئمة المعصومين عليهم السلام وهي تؤكد على شيعتهم في لزوم التذاكر والتزاور والبذل لإحياء أمرهم وإظهار الولاء لهم والبراءة من أعدائهم فهي كثيرة، منها ماروي عن أمير المؤمنين عليه السلام:(شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابُّون في مودَّتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا)وهو توجيه واضح في آلية الإحياء وإظهار الولاء، وما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في توجيهه لداود بن سرحان:(ياداود أبلغ مواليَّ عني السلام وأني أقول: رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا، فإنَّ ثالثهما ملكٌ يستغفر لهما، ومااجتمع اثنان على ذكرنا إلا باهى الله تعالى بهما الملائكة، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر فإنَّ في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءنا، وخير الناس من بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا)، وعنه عليه السلام في توجيهه للفضيل بن يسار:(تجلسون وتتحدثون؟ قلتُ: نعم جُعلتُ فداك، قال: تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا يافُضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا، يافُضيل من ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر)، وورد عن الرضا عليه السلام:(من تذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يُحيي فيه أمرنا لم يمُتْ قلبه يوم تموتُ القلوب)، إضافة إلى ما للمنبر من دور في صيانة الأفكار وردِّ الشبهات المنحرفة، وترسيخ مبدأ التولي والتبري، وتثقيف الناس بالمعارف القرآنية والآداب الإسلامية.
ومن خلال قراءة هذه الروايات نعرف أهمية المنبر الحسيني بكونه يمثل القناة الواصلة بين الأئمة وشيعتهم للنهل من أفكارهم وعلومهم بعد أن أسسوا لهم رافداً آخر ينهلون منه مايحتاجون في أمور دينهم وهو مراجعة الفقهاء، أي المرجعية الدينية، منها قول الإمام العسكري عليه السلام:(فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه).
كما لايخفى أنَّ المرجعية الدينية لأجل إيصال كلمتها لم تستغنِ عن المنبر على طول الخط رغم التطور المستمر لوسائل الإعلام، وذلك من خلال أداء وظيفتها في بيان المفاهيم والعقائد الدينية والأخلاقية.
وفي خصوص المنبر الحسيني لمَّا لمْ يكُنْ من السهل على الإعلام المغرض النيل من الجانب المعرفي والفكري للقضية الحسينية -لارتباط الموضوع بثوابت أصيلة وراسخة- حاول النيل من الجانب المأساوي للقضية من خلال نقد ممارسات عاشوراء بعد أن أدرك أنَّ لها دوراً كبيراً في التأثير العاطفي والتأليب على الظالمين، فدخل الإعلام من جانب المستحدثات التي تطرأ على الممارسات، وهي بطبيعة الحال محلُّ نظر لما يقع فيها من تقليد أو إسراف.
لذا فقد تكون دعوات التجديد مُسوَّغة إذا لم يؤدِّ المنبر غرضه الذي تأسس من أجله، أو إذا خرجت الشعائر عن المألوف، فتكون الدعوة صريحة وموجَّهة لتمحيص التراث ومراجعة الثوابت للحفاظ عليها، والحد من التغييرات إلا ما يصُبُّ في مصلحتها ويستجيب لتطلعات السائرين بحركتها، وإن كانت الدعوات في الظاهر استفزازية تثير حفيظة المتعاطين معها والحريصين على وجودها، أو لأنها تنطوي على اتهام مؤسساتهم وانتقاد سلوكياتهم، لذا ترى هذه الجهات تستميت في الدفاع عن قيمها وتقف بالضد لكل دعوات التجديد.
وحينئذ لابد من فهم مقصود دعاة التجديد: هل للحاجة الماسة في مراجعة الثوابت والتراث؟ أم لأجل البحث عن مصادر القوة وتشخيص نقاط الضعف فيها؟ وهل كانت هذه الدعوات وفق رؤية إسلامية واعية وحريصة أم برؤية غريبة أو مغرضة؟
فإذا كان الغرض فصل الجانب الفكري عن العاطفي في أدبيات الثورة الحسينية فهو مستحيل؛ لأنه يهدف إلى تفريغ محتوى عاشوراء، كما حاولت لذلك أفكار ودرجت عليه أنظمة وحكومات كثيرة، ومنها حكومة البعث، ولعلَّ أصدق ماحملته الثورة الحسينية من مضامين أنها جمعت بين العاطفة والفكر، وأصدق ما وصلت إليه أنها فجرت الطاقات بهذا الاتجاه وبأروع الصور، وتعاملت مع قلب الإنسان وعقله بأجمل مايكون، وهذا هو سر تميزها على جميع الملاحم، إلا أنَّ مايجب الحفاظ عليه هو عدم التقاطع بين الجانبين العاطفي والفكري أو طغيان أحدهما على الآخر أو إلغاء أحدهما والتمسك بالآخر؛ لأنه بالنتيجة سيؤدي إلى تفريغ المحتوى الجامع بينهما، بل يبقى هذا الجمع في النتيجة مزيجاً مقدساً عصياً على التجزئة وحاكماً على الأفكار والأطاريح لأنه سرٌّ من أسرار عاشوراء.
وإذا تأملنا في كلمات الإمام الحسين عليه السلام، ومنها:(إني لاأرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً)، و(لقد ركز الدعي ابن الدعي بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة) نرى أنه جمع بين السعادة في الموت ورفض الظلم والذل كثمن للشهادة، فمن كلماته نستقي ماينسجم مع قلوبنا واستشعارها بالمأساة، ومع عقولنا في اختيار الطريق الصحيح لمسيرة الحياة.
وفي الوقت نفسه إذا جردنا ثورة عاشوراء عن عواطفها الثائرة وحبسناها في قوالب ضيقة، نكون قد شاركنا في إطفاء حرارتها، وإنَّ أي فصل بين العواطف والمبادئ إنما هو قتل لعنفوان الثورة، فاللغة الناعمة لاتوقظ الغافلين والصوت الهادئ لايوقظ النائمين، وتناول المأساة وقراءة الملحمة على المنابر على مر الزمن أمر ضروري، والشعائر الحسينية ليست غاية إنما هي وسائل توقظنا على وقع الفاجعة وتوصلنا إلى فهم القضية، والمنبر الحسيني هو من أهم هذه الوسائل.
والحقيقة إنَّ مايدعو إلى تجديد الخطاب الحسيني هو حركة الحياة وتراكم الخبرات، مما يجعل من التجديد عملية ذاتية تستفيد من التجارب السابقة، ولكن يلزم منها أن تحترم الماضي وتتفاعل مع صبغة الحاضر، بالشكل الذي تقرأ فيه الماضي قراءة دقيقة وناقدة تستثمر فيه مواضع القوة لتحقيق الأهداف وتشير إلى مواقع الخلل وتسعى لتقويمها وتصحيحها.
فتجديد الخطاب الديني يعني العودة إلى منابع الإسلام، فقد روى الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله:(يحملُ هذا الدين في كلٍّ قرن عُدُولٌ ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد)، ومثله ورد عنه صلى الله عليه وآله:(إنَّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، فتجديد الخطاب للأمة لايعني مجاراة الأهواء، إنما لإحياء ما اندثر من منابع، وذلك بتنقيتها من المحدثات وتحرير الروايات من الدخيلة والموضوعة، لذا كان من دعوات التجديد في الخطاب الديني في زماننا كشف وتعرية ما وقع من محاولات تشويه صورة الإسلام بالتحايل على النصوص أو قراءتها قراءة خاطئة أوناقصة، كما وقع من الفرق الضالة والتكفيرية والمشككة.