إنَّ مضمون آية التبليغ، وطريقة تبليغ الرسول الأعظم لمحتواها، يدلان على أنَّ مسألة (الولاية) هي أهم قضايا الدين على الإطلاق، فالولاية (أي السيادة والحاكمية والقيادة) هي في الاساس لله تعالى، والله تعالى يرسل الأنبياء والرسل امتداداً لولايته.
ثلاثة وعشرون عاماً قضاها رسول الله (ص) في تبليغ الرسالة، كانت مليئة بالجهاد المتواصل والمستمر وبالتحدي والمقاومة، وقد تأذّى رسول الله خلالها أكثر من أيّ نبيٍّ آخر كما قال: (مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أُوذِيت).
ولكن في الشهور الأخيرة من حياته المباركة نزلت عليه آية من القرآن الكريم، ربما هي الآية الأغرب والأخطر في القرآن.. لماذا؟
الآية تتضمن التأكيد على قضية واحدة، يجب على الرسول أنْ يبلّغها للناس، ثم يهدّده الله تعالى بكل صراحة بأنَّ عدم تبليغ هذه القضية يعني أنَّ كل تلك السنوات.. سنوات الجهاد والمقاومة والاستقامة، والتحدي .. كل تلك الجهود تذهب هباءً وكأنه لم يفعل شيئاً:﴿ … وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ … ﴾ 1.
الغرابة في الأمر أنَّ هذا التهديد صادر من الله الحكيم الذي يزن الامور بدقة وحكمة بالغة، ومع ذلك يعتبر الرسول الأعظم وكأنه لم يفعل شيئاً في تبليغ الرسالة إن لم يفعل ما يأمره الله تعالى في هذه الآية.
فما هي هذه القضية؟ وما هي أهميّتها التي تفوق أهمية كل الرسالة وكل سنوات التبليغ والجهاد؟
إنها الآية 67 من سورة المائدة التي نزلت على رسول الله (ص) بعد حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة، أي بعد 23 عاما من البعثة وفي أواخر أيام حياته.
ماذا تشير الآية؟
إذن، فعباردة﴿ … بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ … ﴾ 1. لا تشير أبداً الى تبليغ أصل رسالة الإسلام وتفاصيل العقائد والأحكام وآيات القرآن، ذلك لأن الرسول كان قد بلَّغ هذه التفاصيل من رسالة الإسلام.
ولكن من جهة أخرى تضيف الآية:﴿ … وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ … ﴾ 1 مما تدل على الأهمية القصوى لما (أنزل اليه) والمأمور بتبليغه الآن، وتصل الأهمية إلى حد أنّ عدم تبليغه هذا الأمر يساوي: عدم تبليغه لكل الرسالة في سنوات الـ 23 الماضية.
كما تدل الآية على أن الرسول الأعظم بعظمته وشجاعته وجرأته كان يخشى من ردود أفعال بعض الناس بازاء تبليغ هذا الأمر، مما يعني أنَّ هذا الامر شيء مصيري للغاية، لذلك يطمئنه الباري عزوجل بالقول:﴿ … وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ … ﴾ 1
التهديد بعدم تبليغ الرسالة
ولكن الآية الكريمة لم تصرِّح بعنوان ذلك الأمر الذي أمر الرسول بتبليغه تحت طائلة التهديد بعدم تبليغ الرسالة، لكي يقوم الرسول من خلال تطبيق الآية بتوضيح القضية للناس وتبيين ماهية ذلك الأمر.
من هنا جاءت الطريقة التي اعتمدها النبي الأعظم في تبليغ هذا الأمر مختلفة تماماً عن تبليغ كل الآيات والأحكام والعقائد خلال سنوات التبليغ الماضية، حيث وقَّت زمن التبليغ بما بعد حجة الوداع ومكانه في الصحراء عند غدير خم حيث ملتقى ومفترق الطرق الى أرجاء العالم الإسلامي، وبتلك التفاصيل المعروفة في واقعة الغدير حيث أوقف عشرات الألوف من المسلمين الحجاج لدى عودتهم في الطريق وبلَّغ الرسلة اليهم عبر خطاب طويل ومفصَّل، ركَّز فيه على تبيين مسألة (الولاية).
وتعني (الولاية) بلغتنا العصرية (القيادة) ولكنها قيادة مرتبطة بشكل من الاشكال بالله تعالى، فالله يعطي الولاية – القيادة للنبي (ص)، ويقوم النبي بكل مسؤولياته خلال سنوات التبليغ. ولكن هل يُطوى كل شيء برحيل النبي من هذه الدنيا؟ وهل يُترك الناس سُدى؟ وهل يُعقل هذا؟ فكل نظام سياسي، اجتماعي يضع قانوناً مفصلاً يبيِّن فيه ملامح القيادة والقائد للمجتمع، فهل من المعقول أن يترك الله تعالى هذا الامر الحياتي المهم ولا يبيّنه للناس، وهو قد بعث أعظم انبيائه في آخر السلسلة وحمّله خاتم الرسالات التي سيُظهره على الدين كله.
إنَّ مضمون هذه الآية الكريمة، وطريقة تبليغ الرسول لمحتواها، يدلان على أنَّ مسألة (الولاية) هي أهم قضايا الدين على الإطلاق، فالولاية (أي السيادة والحاكمية والقيادة) هي في الاساس لله تعالى، والله تعالى يرسل الانبياء والرسل إمتداداً لولايته، وخاتم الأنبياء هو محمد بن عبد الله (ص) وهنا يأمره الله تعالى أن يبيِّن للناس من هو (الولي) من بعده، وكيف تستمر الولاية في العترة الطاهرة.
ومن الواضح لكل مؤمن:
1- أنّ (الولاية) لا تنحصر في الحب القلبي وإظهار الولاء ببعض الممارسات المظهرية فقط، بل (الولاية) تعني (الامامة) وهي تعني وجوب إتباع الامام في كل أمور الحياة.
2- أن (الولاية) لم تنته عند رسول الله (ص) بل امتدت الى الامام علي عليه السلام حسب تصريح النبي في خطبة الغدير، ومن الامام علي الى سائر (الأئمة) الأطهار عليهم السلام.
ولكن ماذا بعد الأئمة؟ فقد ارشدونا هم الى الفقهاء العدول الذين يقومون بمهام قيادة المجتمع في عصر الغيبة، حتى تكتمل حلقات (الولاية) الالهية بظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.