اخر الاخبار

الزيارة الأربعينية، ضيافة الله ونشور الإنسانية؛ بقلم الدكتور أبو الفضل فاتح

لنترك النقاشات الدينية التخصصية حول الأربعين للخبراء الدينيين، ولكن مهما تعددت التعاريف فإن العالم أصبح أمام حدث متعدد الأوجه زمانيًا ومكانيًا وعدديًا وروحيًا ودلاليًا قلّما يمكن مقارنته بحدث مماثل، ولا شك إن هذه الظاهرة الفريدة ليست فقط «حدثًا فائقًا» بل حتى أبعد من ذلك. مثل نشور عظيم في جاذبيته المجيدة، تترك «الأحداث العملاقة» صدى واسعًا فتجذب بسحرها أبصار الناس وأفئدتهم وتخلق انتفاضة بعيدة المدى.

السلوك الشبكي

اجتازت الزيارة الأربعينية في الأوان الأخير حدود العراق سريعًا رابطةً الشيعة من الشعوب الأخرى بها، وأظهر عشّاق هذا الحدث في جميع أنحاء العالم سلوكًا شبكيًا في العقلية والترابط تدريجيًا فتراهم يرتبط بعضُهم ببعض منذ لحظة عاشوراء بتمهل وأناة.

الزيارة الأربعينية في جوهرها ما هي إلا حركة، ورحلة، ورياضة الروح والجسد. إنها نهر مستمر من الانبهار بحركة مقدسة وبرجل عابر للتاريخ يدعى الحسين عليه السلام، فتشمل وتربط البلدان القريبة والبعيدة. ولمّا تتكوّن شبكة بهذه الأبعاد في ظل تآزر الاتصال، فإنها تكتسب أدوارًا أبعد من الخيال.

تتميز الزيارة الأربعينية بقوة شبكيّة متعددة الأبعاد من حيث اتساع وتعدّد ديموغرافية وجنسية المشاركين وكذلك في اختلاف انتماءهم الطبقي والسلوكي، ودورها في تلاحم التقاليد والثقافات، ممّا لا يدع مجالًا للشك في أن العالم أمام ظاهرة دينية حديثة ومحوّرة وهوياتيّة وغير مرحليّة أثارت أمواجها تدريجيًا اهتمام الثقافات والأديان الأخرى بها.

الضيافة الهوياتيّة

إن العقلانية الشيعية وصحوة الشيعة الشبكيّة، وحنين مئات السنين من المشقة والحرمان من زيارة الحسين بن علي عليه السلام، والتقاليد والهوياتيّة الشيعية والقومية لعراق اليوم، كما روابط الهوية والانتماءات الدينية للإيرانيين وغيرهم من الشيعة في العالم، ودور وسائل الإعلام وكذلك منابر المجتمع الشيعي تفسر كلها المدى الكمّي للزيارة الأربعينية إلى حدّ ما. علمًا إن الكثير من زوار الأربعين يؤمنون بأن عظمة الزيارة الأربعينية تكمن في روحانية نهضة الإمام الحسين التي تتجاوز حدود التاريخ.

فإذا «بكت الملائكة يومًا على سفينة النجاة التي تقاذفتها أمواج طوفان كربلاء» ولم يزر أحد قبور شهداء الطف الطاهرة إلا بعد أربعين يومًا وفي غربة موحشة، فاليوم تحول الولاء لقتلى كربلاء الجذالى في ضيافة عالمية مدعاة للفخر والتباهي. وفي هذا الامتداد تمثل الزيارة الأربعينية ضيافة الله ورمز انتصار الحسين ونهضته الخالدة. وفي ظل التطورات الإقليمية والتكنولوجية وبواسطة «حدث عملاق» حظيت شعوب العالم ولأول مرة بفرصة للتأمل في فلسفة نهضته البشرية والإلهية ومشاهدة غليان «دَم الله» في عروق الزمان والحرارة التي لا تبرد أبدًا.

هكذا تكون الزيارة الأربعينية امتداد لعاشوراء، و«يوم الله» وفقًا للخطاب القرآني. أليس المقصود من أيام الله هي الأيام التي تتجلى فيها العظمة الإلهية أكثر وضوحًا واختلافًا من أي وقت مضى؟

الكرم الأسطوري وأثره في مكانة التشيع

إذا لا يأخذ البعض بهذه النظرة فوق الإنسانية فلابد أن يقبلوا بأن الزيارة الأربعينية رمز للتعايش بين البشر والثقافات، ورمز يجسّد الإنسانية في أعلى مستوياتها. ففي عالم تسعى فيه مختلف المدارس الفكرية إلى مأسسة مظاهر للكرم والإنسانية عند أتباعها، يحتشد فجأة ملايين الأشخاص بين صغير وكبير تبجيلًا لصمود خالد وتضحية مجيدة مجسّدين على مر عدة أيام في الحرّ والبرد كرمًا وسخاءً أسطوريًا وسماويًا.

ولعل هذا التميّز الاستثنائي الذي يهزّ قلب كل مخاطَب سيساهم في تحوّل وتغيير نظرة المدارس الفكرية والأمم الأخرى نحو روح التشيع الإنسانية والأخلاقية ويرفع مكانة التشيع إلى جانب تأثيراته الداخلية والطويلة المدى على المدرسة الشيعية وضمانها.

تمازج الشكل والمحتوى

مع الأسف هناك بعض الأقلام التي تقلل من مكانة الزيارة الأربعينية وتتجاهلها. لا ننسى بأن القوالب والأشكال تلازم المحتوى وهي وعاء تقديمه للمتلقي. وما الزيارة الأربعينية إلا إحدى أبرز الأمثلة على تمازج الشكل والمحتوى. فالأجدر أن نوجه سهام نقدنا نحو اختزال الدين في الأشكال وإفراغه من معانيه.

يعمل علماء الاجتماع والأنثربولوجيون على إنجاز دراسات مسهبة ومتكررة في كتبهم حول الأدوار الهوياتيّة للاجتماعات الصغيرة والكبيرة وكذلك حول مآلات أحداث مثل الأولمبياد وبطولات العالم لكرة القدم والمهرجانات الثقافية والفنية. فكيف يُعقل أن نتجاهل أو نقلّل من أهمية حدث عملاق مثل الزيارة الأربعينية التي تساهم فيها أجيال وتقاليد مجتمع ثقافي متنوع وواسع، لا لشيء سوى بسبب معارضة، أو نقد حكومة، أو تيار سياسي، أو سياسة، أو رؤية محددة؟

أمامنا عدة تساؤلات مهمة: كيف يمكن تعبئة حشود مليونية لتمشي راجلة مئات الكيلومترات وتشارك في هذه الشعيرة؟ كما يجب التساؤل عن جوانب هذا الحدث العظيم عاطفيًا ووجدانيًا وإنسانيًا، والأواصر التي تتكوّن على طريق هذه المسيرة المليونية، وما هي التغييرات التي تطرأ في خريطة العلاقات الإنسانية؟ أو ما الانطباع الذي سيتركه هذا الحدث العملاق في أنظار العالم حول التشيع ودور الدين في العراق وإيران والمنطقة؟ ما هي الجوانب الجيلية لهذا الحدث العظيم وكيف تؤدي فيه دورًا النساء والرجال والأطفال؟ ما هي الجذور التاريخية والثقافية لهذا الحدث، و …؟

هذه ليست مجرد تساؤلات دينية، بل إنها أسئلة اجتماعية للغاية وضرورية لفهم ظاهرة الزيارة «الأربعينية» بجوهرها وقوتها.

مشاركة جماهيرية أو حكومية؟

البعض يخطئ لمّا ينسب هذه الشعيرة إلى الحكومات. فأنا لا أعرف حكومة قادرة على إرغام الملايين على السير بأقدام متقرحة لأميال كل عام في حرارة 50 درجة. وفي الوقت نفسه هناك أدلة كثيرة على أن جزء كبير من أولئك الذين يسيرون في هذا الطريق ناقمون على وضع حكوماتهم، حتى لو لم يكونوا كذلك، فليس من السهل اختزال نشاطهم في قضية حكومية.

الزيارة الأربعينية حدث عمومي المشاركة ولا يمكن منع أحد منها، وبالطبع ليست هذه الزيارة مكانًا لتنافس الأحزاب وصراعها، وعلى هذا ليس بمقدور أي حزب أو تيار أو فصيل مصادرتها لنفسه أو تجاوز روحها السامية، فهذا التجاوز هو بحكم الإساءة للناس والروحانية. وكلتا الرؤيتين قصيرتا النظر وغير مثمرتان. ومع ذلك فإن الرؤية التصحيحية وتحاش التطرف والانحراف ضرورة ثابتة.

أن تنأى الأحزاب والحكومات بنفسها عن ربط الأهداف الفئوية بالزيارة الأربعينية توصية حكيمة بعيدة النظر ولا تعني علمنة الأربعين فمعالم نهضة الإمام الحسين بينة، بل هي لتجنب الألاعيب الفئوية السياسية. فالزيارة الأربعينية تقليد ديني روحي وحراك شعبي الأساس، أدارها ويديرها الناس بأنفسهم. وبالطبع لا يتعارض هذا الأمر مع ما للحكومات من مسؤولية تجاه ملايين الزوار الذين، حتى لو عدّوا سائحين، لوجب تأمين حركتهم وسلامتهم.

اختبار صدق الحكومات والأحزاب

كذلك فإن الزيارة الأربعينية هي أيضًا اختبار لتقييم صدق الحكومات، والأحزاب، والمنابر، والأقلام. فلا غبار على الأشخاص الذين يشاركون في هذا الحشد العظيم تعظيمًا للشعائر وتطهيرًا للنفس وإعلاءً لكلمة الحلق. لكن هل إن الساسة الذين يزعمون أنفسهم داعمين للزيارة الأربعينية، جادون في تطبيق نهج الإمام الحسين الأخلاقي والإنساني في جميع المجالات، وملتزمون أيضًا بالحقوق القانونية والإنسانية لشرائح المجتمع الأخرى وأولئك الذين ليس لهم انتماء للأربعين لكنهم ينتمون إلى الشعوب نفسها؟

ومن ناحية أخرى، هل إن من يقدم نفسه على أنه مؤيد للتعددية ولحرية المعتقد والمناهج والحركات، يؤيد أيضًا حق الاختيار لملايين زوار الأربعين، أم أنه يرفض هذه الحركة تمامًا لأنها دينية؟

فيما تمر أيام الأربعين الحسيني نسأل الله تعالى أن يجعلنا في طريق فهم المفاهيم الروحية والإنسانية العميقة لأربعين الحسين عليه السلام، وأن يفتح طريقًا ليتخلل امتداد هذه الروحانية السماوية في قلب المجتمع، فيواظب على ممارسة هذا الكرم فوق البشري، ونشهد كل سنة بيئة أكثر إنسانية وأخلاقية بالتأسي بمبادئ الحسين ونهجه عليه السلام.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بقلم الدكتور أبو الفضل فاتح (خريج جامعة أكسفورد وباحث في الشؤون الثقافية والإعلامية)


*ملاحظة: التحرير الأول لهذا المقال كُتب سنة 2018، وبمناسبة أربعينية هذا العام أعيد تحريره.

المصدر : شفقنا