الشيعة يؤمنون باسلام اخوانهم أهل السنة وجميع طوائف المسلمين رغم كون الشيعة ضحايا التكفير قديماً وحديثاً
بقلم: د. ابراهيم العاتي
يؤسفني أن أخوض في هكذا موضوع، وأنا الذي عشت عمري مؤمنا بأن المؤمنين اخوة، وادعو للاعتصام بحبل الله ونبذ الفرقة، والعمل بما أمرنا به الله سبحانه: ((إن هذه أمتكم أمة واحدة وانا ربكم فاعبدون))، وحضرت العديد من المؤتمرات والملتقيات التي تسعى لتحقيق التقارب والوحدة في اكثر من بلد عربي واسلامي وغربي، واذا بنا نرجع الى نقطة الصفر، لنثبت ان الطائفة الاكبر في العالم الاسلامي هي مسلمة، وهي كذلك فعلا، غير ان شخصا، يحسب على الشيعة، اضطرنا الى ذلك، حين وقف في احد الفضائيات، وهو يعضّ على اسنانه، ويختال في طيلسانه، وصرح بأن: جميع علماء الشيعة الاثناعشرية يحكمون بكفر المسلمين جميعا باطنا!! ولم يستثن عالما واحدا، حتى هو، اليس هو من علماء الشيعة، او اعتنق مذهبا آخر؟! والحق ان كلامه غير صحيح، كما سيتضح.
إن من أول ضروريات البحث العلمي والنظر الفلسفي هو البعد عن الجزم والقطع وادعاء امتلاك المطلق، أو اصدار احكام كلية جازمة لا تحتمل استثناء او خطأ من قبل مطلقها، رغم انها من قضايا العقيدة التي تحتمل وجوها عديدة من التأويل والتحليل والتفسير، لا في قضايا الامامة فحسب، بل في مسائل تدعى (بدقيق الكلام وجليله)، كالالوهية او التوحيد وهو الاصل الذي ترجع له الاصول كلها! فان مشكلة كلامية واحدة كالعلاقة بين الذات والصفات، هل هي عين الذات ام انها معانٍ قائمة في الذات الالهية، تترتب عليها نتائج خطيرة تتعلق بالكفر والايمان لفرق اسلامية مهمة كالاشاعرة والمعتزلة. ولكن هنالك سجالات وردود لا يدركها بتفاصيلها إلا اصحاب الاختصاص لا تسمح باصدار احكام قطعية بنسبة (100%)، فهذا ما لم يقل به حتى اصحاب البحوث التجريبية القائمة على الاحصاءات الرقمية، الذين يتركون في نتائج أبحاثهم نسبة للخطأ والصواب! ولذلك كان مستغرَباً من السيد الحيدري أن يقول (جازما وبضرس قاطع) في موضوع ديني: ((لا يوجد عالم شيعي إثنا عشري إلا ويحكم بكفر المسلمين جميعا باطنا…))؟؟ فهذة النزعة الدوجماطيقيةDogmatism (الوثوقية، القطعية) التي كانت في مطلع العصور الحديثة مبدأ التعصب والتزمت، واضعفها نقد الفيلسوف الالماني (ايمانويل كنت) لها.
وأرى بأن الحقيقة هي نقيض ما قاله السيد الحيدري، فإن علماء الشيعة الإمامية الإثناعشرية قد تضافرت كلمتهم على الحكم باسلام مخالفيهم من المذاهب الاسلامية الأخرى، بل وايمانهم، امتثالا لوصايا وتعاليم أئمتهم من العترة النبوية الطاهرة.
فهذا الإمام السيد عبدالحسين شرف الدين في كتابه (الفصول المهمة في تأليف الأمة) يعقد فصلا عنوانه(الشيعة كالسنة يجمعهم الاسلام) يقول فيه: (في يسير من نصوص أئمتنا (ع) في الحكم باسلام أهل السنة، وأنهم كالشيعة في كل أثر يترتب على مطلق المسلمين، وهذا في غاية الوضوح من مذهبنا، ولا يرتاب فيه ذو اعتدال منا، ولذا لم نستقص ماورد في هذا الباب إذ ليس من الحكمة توضيح الواضحات) ويبدأ بالاشارة الى بعض الامثلة (1) .
قال الإمام أبو جعفر محمد الباقر (ع): ((الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذي عليه جماعة من الناس من الفرق كلها، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث وجاز النكاح، واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج، فخرجوا بذلك عن الكفر و أضيفوا إلى الإيمان))(2) .
وقال الإمام الصادق (ع): ((الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله (ص)، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام شهر رمضان)) (3). وقال (ع) أيضاً: ((الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله، وبه حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى جماعة الناس)) (3).
ويلاحظ هنا ان الإمامين قد أكدا على (الظاهر) الذي يبدو عليه الانسان وليس على باطنه كما ذهب السيد كمال الحيدري، وطالما كنا نقرأ ونسمع من علمائنا أن الانسان عليه بالظاهر من الاخر، أما ما يضمره في باطنه، فلا أحد يستطيع مهما بلغت منزلته ان يعلمه ويحكم عليه، والله وحده العالم والحاكم، وهذا لا يخص المخالف غير الشيعي، ولكن حتى الذي يُظهر التشيع لا يستطيع الحكم على باطنه الا الله.
وربما فرق بعضهم بين الإسلام والإيمان بفارق اعتباري، والذي يظهر من قوله تعالى: (قَالَتِ الأَعرَابُ آمَنَّا قُل لَّم تُؤمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسلَمنَا وَلَمَّا يَدخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُم) . إن الإسلام عبارة عن مجرد الدخول في الدين والتسليم لسيد المرسلين، والإيمان عبارة عن اليقين الثابت في قلوب المؤمنين مع الاعتراف به في اللسان، فيكون على هذا اخص من الإسلام، ونحن نعتبر فيه الولاية مضافا إلى ذلك (4).
والتمييز بين الاسلام والايمان موجود عند اهل السنة يقول الجرجاني: « الإسلام هو الخضوع و الانقياد لما اخبر به الرسول (ص) وفي (الكشاف) أن كل ما يكون الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان. أقول: هذا مذهب الشافعي، وأما مذهب أبي حنيفة فلا فرق بينهما (5).
وعلى الرغم من كون الامامة من الاصول فإن المسلم غير المؤمن بها لا يخرج من دائرة الاسلام. يقول الامام المصلح الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء:
(فمن اعتقد بالإمامة بالمعنى الذي ذكرناه فهو عندهم مؤمن بالمعنى الأخص ، وإذا اقتصر على تلك الأركان الأربعة (وهي التوحيد والنبوة والمعاد، والعمل بالدعائم التي بني عليها الاسلام وهي خمس: الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد)، فهو مسلم ومؤمن بالمعنى الأعم ، تترتب عليه جميع أحكام الإسلام ، من حرمة دمه، وماله ، وعرضه ، ووجوب حفظه ، وحرمة غيبته ، وغير ذلك ، لا أنه بعدم الإعتقاد بالإمامة يخرج عن كونه مسلماً ( معاذ االله).نعم يظهر أثر التدين بالإمامة في منازل القرب والكرامة يوم القيامة ، أما في الدنيا فالمسلمون بأجمعهم سواء ، وبعضهم لبعض أكفاء ، وأما في الآخرة فلاشك أن تتفاوت درجاتهم ومنازلهم حسب نياتهم وأعمالهم ، وأمر ذلك وعلمه إلى االله سبحانه ، ولا مساغ للبت به لأحد من الخلق) (6).
وقد اكد المرجع الاعلى للشيعة الامامية في هذا العصر، الامام السيد علي الحسيني السيستاني ،مدّ ظله، على هذه الحقيقة في اجابته على سؤال وصله بخصوص اعلان احد رجال الدين، (أنه لا يوجد عالم شيعي اثنا عشري الا ويحكم بكفر المسلمين جميعا باطنا)، فأجاب :(إن المسلم غير الإثناعشري مسلم واقعا وظاهرا لا ظاهرا فقط، ولذلك فإن عبادته، كصلاته، وصومه، وحجه، تكون مجزية ومبرئة لذمته من التكليف بها إذا كانت مستوفية للشروط، فلا فرق بين الشيعة وجميع طوائف المسلمين في أن الجميع مسلم واقعا وظاهراً)، والواقعي هو: الحقيقي او الحاصل أو المتحقق. وهذا رأي مراجعنا العظام بوجه عام.(*)
اما العلامة الشيخ محمد رضا المظفر فيشير الى الجانب التطبيقي للمبادئ السابقة التي تحقق الاخوة والوحدة الاسلامية فيقول:
إنّ من أعظم وأجمل ما دعا إليه الدين الاسلامي هو التآخي بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم ومنازلهم. ومن أيسر مقتضيات ذلك التآخي، كما ورد عن الامام الصادق (ع)، (أن يحب لاَخيه المسلم ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه).
وقد يتوهّم المتوهِّم أنّ المقصود بالاُخوّة في أحاديث أهل البيت عليهم السلام خصوص الاخوّة بين المسلمين الذين من أتباعهم «شيعتهم خاصّة»، ولكن الرجوع إلى رواياتهم كلها يطرد هذا الوهم.
ويكفي أن تقرأ حديث معاوية بن وهب قال:
قلت له ـ أي الصادق عليه السلام ـ: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممّن ليسوا على أمرنا؟
فقال: ((تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم، فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنّهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدّون الاَمانة إليهم)) (7).
وعلى هذا الاساس الديني المتين بنى الشيعة مواقفهم السياسية والاجتماعية لنصرة اخوانهم العرب والمسلمين في جهادهم ضد الاستعمار، كما هو الحال في ليبيا وفلسطين وتونس والجزائر والمغرب وغيرها، هذا فضلا عن العراق وايران وتركيا. ودفعوا اثمانا باهضة سياسية واجتماعية بسبب تلك المواقف، وما زالوا يدفعون، ولو كان يساورهم ادنى شك في حقيقة اسلامهم، كما يتوهم البعض، لما صدرت عنهم تلك المواقف المبدأية الثابتة. ومواقف الامام السيد علي الحسيني السيستاني –مد ظله- المرجع الاكبر للشيعة في العالم، في اطفاء الفتن الدينية والمذهبية التي ارادوا اشعالها في العراق وفي العالم وتصديه لارهاب داعش المتوحش، وحرصه على حقوق المكونات الاخرى في العراق قبل غيرها، تستحق ان تكون برنامج عمل يهتدي به المفكرون وعلماء السياسة والاجتماع وغيرهم، لمعالجة المشكلات التي تعصف بالعالم كالفقر والحروب الاهلية والارهاب، والصراعات العرقية والدينية والمذهبية، لاحلال السلم الاهلي والاستقرار السياسي والاجتماعي.