اخر الاخبار

العملة الرقمية في ميزان الإعتبار المالي

بقلم:د. نضير الخزرجي

من ذاكرة الطفولة أن منزل العائلة في كربلاء المقدسة كان فيه سرداب كبير (بهو) يطل عليه من جانبي الدار مجلسان لكل واحد منهما محجر (سياج) خشبي، ويسمى المجلس بيتاً أو گُشواره (كلمة فارسية بمعنى القرط)، أحدهما كان يستخدم كمقهى لعمل الشاي يقدم في شهر محرم الحرام بكامله على رواد المجلس الحسيني الذي كان ينعقد في باحة الدار عملاً بالسُّنة الحسنة التي أقرّها جدنا الأعلى الحاج علي شاه البغدادي المتوفى سنة 1909م، والآخر بعنوان مخزن فيه كل قديم وعتيق وخبز يابس إلى جانب مؤنة الدار من مواد غذائية وغيرها.

ومن بقايا الذاكرة أن بقايا الخبر اليابس كان تعمل منه الوالدة المرحومة أكلة “محروق صبعه”، وما تبقى كان محل مقايضة مع مشتري الخبز اليابس الذي كان يدور بعربته في الأزقة ينادي بشراء الخبز اليابس مقابل قبضة أو قبضات من ملح الطعام أو صحون أو أكواب صينية بلورية، وأما الأشياء القديمة المرمية في نهاية الگُشواره، فكانت هي الأخرى محل مقايضة على من يدور بعربته ينادي بشراء كل ما هو قديم وعتيق مقابل مواد أخرى صالحة للإستعمال.

في كلتا البيعتين كانت المقايضة هي الحاكمة، شيء في مقابل شيء، الملح في مقابل الخبز اليابس، والصحون الصينية (البلوري) في مقابل دراجة هوائية قديمة وما شابه، فلم تكن العمل النقدية أو الورقية هي محل التبايع إلا ما ندر.

فالمقايضة هي نوع من أنواع البيع والشراء، إلى جانب البيع والشراء بالعملات النقدية والورقية، وهي عملية كانت رائجة في فترة من الفترات، وهي ما زالت قائمة حتى يومنا في بعض البلدان، وفي كثير من القرى كانت وما زالت تتم عملية البيع والشراء مقاضية بالمواد الغذائية والحيوانية.

فالعملة النقدية من ذهب وفضة كانت هي السائدة في العصور الأولى وإلى وقت غير بعيد، وتلتها العملة الورقية التي قيل أن الصين هي أول من أصدرتها سنة 907م، ولكن الثابت إقتصاديا أن مصرف ستوكهولم بالسويد على مستوى أوروبا هو أول من اعتمد العملة الورقية مقابل الذهب سنة 1660م، وتلته المصارف العالمية بعده مثل مصرف اسكوتلندا سنة 1669م ومصرف انكلترا سنة 1797م، وهكذا.

واليوم ونحن نعيش في الألفية الثالثة من الميلادي العيسوي ظهرت إلى السطح عملة أخرى لا تشبه العملة النقدية ولا الورقية ولكن مفادها واحد من حيث التعامل المالي، وهي العملة الرقميَّة أو الآلية أو الإفتراضية المشهورة بعملة البتكون أو البتكوين نسبة إلى إسمها اللاتيني (Bit Coin) التي تم التداول بها رسميا في 19/1/2009م.

من معالم “البتكون”

ولأن العملة مشفرة وافتراضية لا تخضع لمصرف بعينه أو وسيط مصرفي ثالث بين الطرفين، فإنَّ الحديث عنها أصبح مبهماً بين رجال المال فضلاً عن علماء الدين، ولأن التعامل بالعملة الرقميَّة محل شبهة، فإن المشرع الإسلامي كان لابد أن يقول رأيه بخاصة وإنها عملة عالمية تدار عبر الشبكة العنكبوتية (النت)، فليس للحدود البرية أو الجوية أو البحرية المقامة على الأرض أو الخارطة أن تحول دون تداولها، من هنا كان كتيب “شريعة البتكون” للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر حديثا (2024م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 48 صفحة، من تقديم وتعليق الفقيد الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، وهو يسلط الضوء في (75) مسألة شرعية على كثير من نقاط الإبهام والشبهات إلى جانب (15) تعليقة.

ربما يتساءل المرء عن الترجمة الحرفية للمصطلح الإنكليزي لماذا “بتكون” وليس “بتكوين” او “بيتكوين” كما يفترض من تلفظ كلمة (Bit Coin)؟

الفقيه الكرباسي قال في معرض الإجابة على مثل هذا التساؤل: (إننا قمنا بمعالجة المفردة الأجنبية من “بتكوين” إلى “بتكون” من باب سهولة التلفظ باللغة العربية المنتقلة هذه المفردة إليها، وهذا شأن كل مفردة دخيلة، حيث يجوّز اللغويون في تلك اللغة إلى تغيير المفردة بشكل يسهل تلفظها، فتارة تكون بتغيير الحركات وتارة بتغيير بعض الحروف وأخرى بإضافة بعض الحروف وأخيراً إلى تحقيق اللفظ بإسقاط بعض الحروف، وهذا ما حصل حيث أسقطنا الياءَين تسهيلاً للتلفظ بها لتكون أقرب إلى اللهجة المتداولة في اللغة العربية)، والبتكون أو البيتكوين كما يفيدنا الكرباسي: (مركَّبة من مفردتين “Bit” والتي تعني الجزء أو الجزء من الشيء، والثانية “Coin” والتي تعني العملة أو النقد المعدني، وبالتالي بعد التركيب تعني قسم من العملة، أي نوع من العملة)، وبشكل عام كما يزيدنا الكرباسي أن “البتكون” في تعريفها هي: (عملة آلية يمكن مقارنتها بالعملات الأخرى كالدينار والدولار، لكن مع بعض الفوارق، من أبرزها في هذه العملة هي عملية آلية بشكل كامل، والتعامل بها يكون حصراً عبر الإنترنت من دون وجود فيزيائي لها).

بالطبع أنَّ “البتكون” ليست عملة من حيث المسمى منحصرة بهذا النوع من المالية الرقمية، فهناك عملة “لايتكوين” و”إيثريوم” و”سولانا” و”تونكوين” وغيرها من العملات الآلية، مثلما هي العملات الورقية من قبيل الدينار والريال والروبية والدولار والجنيه وما شابه.

كما أنَّ التعامل مع هذه العملة الرقمية، ليست عملية سهلة متوفرة لدى كل الناس، فهي في الوقت الحاضر مقتصرة على من يتعامل مع الحاسوب والنت، وكلما شاع استخدام الحاسوب مع توفر خدمة النت شاع التعامل مع البتكون وأمثاله.

بين الحُرمة والحلِّيَّة

لا يختلف رجال القانون عن فقهاء الدين ازاء مفهوم “الإعتبار” الذي له مدخلية كبرى في صحة المعاملة من عدمها وقيمة ما يتم التعامل به، فالدينار الورقي على سبيل المثال يبقى مجرد ورق إذا لم تعطه المؤسسة المالية اعتباره وقيمته، وكذلك العملة المعدنية تبقى مجرد معدن فلزي ما لم تكتسب الإعتبار القيمي من الجهة المسؤولة، ولهذا فإذا استبدلت على سبيل المثال الجهة المالية المسؤولة ورقة مالية بورقة مالية أخرى، فإن الأولى تفقد قيمتها واعتبارها بعد انتهاء مدة التعامل بها، وتصبح مجرد أوراق مالية غير معتبرة.

وهكذا الأمر بالنسبة الى العملة الرقمية المشفرة، فإنها كما يؤكد الفقه الكرباسي أنَّ: (الصحة والبطلان إنما يتبع الإعتبار الذي توليه الجهة المسؤولة التي لها الحق في ذلك، حيث يؤخذ بقرارها، مؤسسة كانت أو فرداً، كما في النظام الفردي والنظام المؤسساتي)، ولما صار لعملة “البتكون” وعموم العملات الرقمية اعتبارها وقيمتها في الوقت الحاضر ولو في إطار غير واسع، فإن “البتكون” يدخل في مجال الحلية بلحاظ أنه: (ما دام لكل عملة قيمة خارجية معتمدة حسب السوق التجاري سواء كانت ورقية أو بتكونية فإنَّ البيع والشراء بينهما صحيح وغير باطل حيث لها قيمتها في السوق والمصرف)، وعليه فإن التعامل بعملة البتكون: (لا يعد من أكل المال بالباطل بعدما تعامل بها عدد من المؤسسات الإقتصادية والعديد من دول العالم).

وربما اعتبر الذين قالوا بحرمة العملة الرقمية من الفقهاء أنها تدخل في مال مجهول الملكية، ولكن الفقيه الكرباسي لا يرى مثل ذلك: (بل حالها حال كل الأموال الورقية والإعتبارية تتعلق بالذمم)، حيث: (يصح إطلاق إسم المال عليها ولها ملكية تتعلق بالذمَّة، وهي تنتقل من ذمَّة شخص إلى آخر وتدخل في حساب الآخر عبر التحويل كما هو الحال في العملة الورقية لدى التحويل من حساب المشتري إلى حساب البائع مقابل البضاعة)، كما يعقب على من قال بالحرمة بلحاظ الضرر والجهالة مؤكداً: (لا يتحقق الضرر والجهالة في التعامل بهذه العملة ليكون التعامل بها حراماً بل إنه معلوم لدى الطرفين المتعاملين حيث حُدِّد الثمن بهذه العملة والسلعة من جهة أخرى)، ولهذا فإنَّ: (الجهل بهذه العملة من قبل البعض لا يوجب التوجه إلى الحُرمة).

كما أنَّ عدم تعامل بعض المصارف بالعملة الرقمية لا يعني فقدان اعتبارها: (فهذا لا يقوِّض أصل المعاملة كما هو الحال إذا لم تتعامل بعض المصارف بعملة دولة من الدول لأسباب سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك) كما: (إذا منعت بعض الدول التعامل بهذا النقد الآلي أو الرقمي فإنَّ ذلك لا يسقطها من الإعتبار حالها حال الأوراق النقدية التي لا تعترف بها بعض الدول على خلفية سياسية أو اقتصادية).

وإذا كان الفقيه الكرباسي يفتي بحلية التعامل مع “البتكون” فإن المعلق الفقيه الغديري الذي غادرنا الحياة الدنيا يوم 21/8/2024م يفيدنا بالقول: (والحق إنها ليست عملة حقيقية بالمعنى الخاص بل اعتبارية محضة باعتبار خاص، وتقوم مقام العملات الحقيقية بلحاظ المِلاك الملحوظ في العملات، ويمكن القول بصحة التعامل معها بلحاظ الإعتبار عملة كسائر العملات، ولكن لا يخلو هذا عن الإشكال، بلحاظ عدم الواقعية الخارجية، وعدم وجود الدعم الحقيقي لها).

ويستفيض الفقيه الكرباسي في بيان علاقة العملة الرقمية بالعملة الورقية والنقدية وعلاقتها بالحوالات والصكوك وموضع الربا منها، وسرقة الرمز أو ضياعه أو نسيانه أو التلاعب بالحسابات، وعلاقة الورثة بصاحب الحساب المتوفى، والتبادل التجاري بهذه العملة، والرهن والحقوق الشرعية من زكوات وأخماس، والمهور، وغير ذلك من الأمور المالية المعتمدة والمعتبرة في الحياة اليومية.

وخلاصة الأمر، أن العملة الرقمية التي دخلت في حيز مستحدثات الفقه، حالها كحال العملة الورقية والنقدية إذا اكتسبت الإعتبار، اكتسبت قيمتها، فلا مانع من التعامل بها وتداولها ضمن شروطها.

الرأي الآخر للدراسات- لندن