د. فاضل حسن شريف
جاء في معاني القرآن الكريم: كتب الكتب: ضم أديم إلى أديم بالخياطة، يقال: كتبت السقاء، وكتبت البغلة: جمعت بين شفريها بحلقة، وفي التعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، وقد يقال ذلك للمضموم بعضها إلى بعض باللفظ، فالأصل في الكتابة: النظم بالخط لكن يستعار كل واحد للآخر، ولهذا سمي كلام الله وإن لم يكتب كتابا كقوله: “آلم * ذلك الكتاب” (البقرة 1 – 2)، وقوله: “قال إني عبد الله آتاني الكتاب” (مريم 30). فرق الفرق يقارب الفلق لكن الفلق يقال اعتبارا بالانشقاق، والفرق يقال اعتبارا بالانفصال. قال تعالى: “وإذ فرقنا بكم البحر” (البقرة 50)، والفرق: القطعة المنفصلة، ومنه: الفرقة للجماعة المتفردة من الناس، وقيل: فرق الصبح، وفلق الصبح. قال: “فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم” (الشعراء 63)، والفريق: الجماعة المتفرقة عن آخرين، قال: “وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب” (آل عمران 78)، “ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون” (البقرة 87)، “فريق في الجنة وفريق في السعير” (الشورى 7)، “إنه كان فريق من عبادي” (المؤمنون 109)، “أي الفريقين” (مريم 73)، “وتخرجون فريقا منكم من ديارهم” (البقرة 85)، “وإن فريقا منهم ليكتمون الحق” (البقرة 146)، وفرقت بين الشيئين: فصلت بينهما سواء كان ذلك بفصل يدركه البصر، أو بفصل تدركه البصيرة.
عن تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قال الله تعالى “وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” (البقرة 53) “وإذ آتينا موسى الكتاب” التوراة “والفرقان” عطف تفسير، أي الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام “لعلكم تهتدون” به من الضلال. وجاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قال الله تعالى “وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” ﴿البقرة 53﴾ كلمتا (الكتاب) و(الفرقان) قد تشيران كلاهما إلى التوراة، وقد يكون المقصود من (الكتاب) التوراة و(الفرقان) ما قدمه موسى من معاجز بإذن الله، لأنّ الفرقان يعني في الأصل ما يفرّق بين الحق والباطل.
عن روائع البيان القرآني: الفرق بين الكتاب والفرقان في الايه 53 من سورة البقرة “وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” (البقرة 53) ما الفرق بين الكتاب والفرقان؟ في سورة القصص “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” (القصص 43) لم يذكر الفرقان وذكره في آية البقرة فلماذا؟ (د.فاضل السامرائى) الكتاب هو التوراة، والفرقان هي المعجزات التي أوتيها موسى كالعصى والمعجزات الأخرى، وهي تسع آيات، والفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل. لكن السؤال: لماذا قال في الأولى: الكتاب والفرقان، وفي الثانية قال الكتاب فقط؟ قلنا: السياق هو الذي يحدد، الأولى جاءت في سياق الكلام عن بني إسرائيل “يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ” (البقرة 40)، أما الثانية فقال “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ”، فمن الذي شاهد الفرقان؟ شاهده بنو إسرائيل وفرعون الذين كانوا حاضرين، لكن الناس الآخرين لم يشاهدوا هذا الشيء، فلما قال: بصائر للناس لم يقل الفرقان؛ لأنهم لم يشاهدوا هذا الشيء، لكن لما خاطبهم قال “لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”، كان الخطاب لهم فهم الذين شاهدوا، فلما تكلم مع بني إسرائيل خصوصاً قال الكتاب والفرقان، ولما قال بصائر للناس قال الكتاب، الفرقان ذهب، وبقي الكتاب، والكتاب بصائر للناس، وكثير من الناس لم يشاهدوا هذه المعجزات، الذين شاهدها هم الحاضرون، والباقون لم يشاهدوها، فهو يريد أن يركز؛ لذلك يختار الكلمات بحيث يتضح المراد منها. يستعمل اليم. واستعمل البحر في النجاة والإغراق “وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ” (البقرة 50)، استعملها في الإغراق والإنجاء (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) أي أنجيناهم. واليم يستعمل للماء الكثير، وإن كان نهراً كبيراً واسعاً، ويستعمل للبحر أيضاً. واللغة تفرق بين البحر والنهر واليم: النهر أصغر من البحر، والقرآن أطلق اليم على الماء الكثير، ويشتق من اليم ما لم يشتق من البحر (ميموم)، والعرب لا تجمع كلمة يم فهي مفردة، وقالوا لم يسمع لها جمع، ولا يقاس لها جمع، وإنما جمعت كلمة بحر (أبحر وبحار)، واستعمال كلمة يم في الخوف والعقوبة من خصوصية الاستعمال في القرآن.
وعن التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قال الله تعالى “وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” ﴿البقرة 53﴾ وهذا الكتاب هو التوراة الجامعة لبيان الحق والباطل، والحلال والحرام، أما عطف الفرقان على الكتاب فهو من باب عطف الصفة على الموصوف، كقوله سبحانه في الآية 48 من الأنبياء:”ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى وهارُونَ الْفُرْقانَ وضِياءً وذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ”. واختصارا ان اللَّه جل وعز ذكّر الإسرائيليين في الآيات المتقدمة بأربع نعم: انجائهم من ذبح الأبناء واستحياء النساء، ثم هلاك فرعون، ثم العفو عنهم، ثم إيتاء موسى التوراة. ومن أحسن ما قرأته في هذا الباب وأنا أتتبع ال 17 تفسيرا التي لدي هو قول أبي حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط: (انظر إلى حسن هذه الفصول التي انتظمت انتظام الدر في أسلاكها، والزهر في أفلاكها، كل فصل منها أي من النعم قد ختم بمناسبة، وارتقى في ذروة فصاحته أعلى مناصبه، واردا من اللَّه على لسان محمد أمينه دون أن يتلو من قبل كتابا، ولا خطه بيمينه). يشير أبو حيان بهذا إلى ان تلك الصور المتلاحقة المنتظمة هي من معجزات محمد، لأنه أخبر بها من غير تعلَّم. رحم اللَّه السلف وغفر لهم، وأجزل عليهم النعم والعطية، فإنهم ما رأوا ظاهرة يستشم منها تأييد هذا الدين ونبيه الأكرم الا مدوا إليها الأعناق بلهفة واشتياق، وبادروا إليها شرحا وتفصيلا، واستخراجا وتدليلا، فأين أين نحن علماء هذا الزمان الذين نتكالب على الدنيا، ولا نرى هما الا همّ أنفسنا، ولا مشكلة الا مشكلة أولادنا.. أين نحن من أولئك الأعاظم الذين ضحوا بكل شيء من أجل إعزاز الإسلام ونبي الإسلام؟. عفا اللَّه عنهم ورفعهم وكل من خدم الدين إلى أعلى الدرجات.
جاء في موقع آل الراشد عن الفرق بين القرآن والفرقان والكتاب والذكر: “وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” (سورة البقرة 53). الكتاب من كَتَبَ، والكتاب في اللسان العربي يعني جمع أشياء بعضها مع بعض لإخراج معنى مفيد، أو لإخراج موضوع ذي معنى متكامل، وعندما نجمع أحاديث سيّدنا الرسول صلّى الله تعالى وسلّم عليه وآله وأصحابه الثقات العدول، حسب المواضيع، كأنْ نجمع مواضيع الصلاة ونسمّيه كتاباً فنقول: كتاب الصلاة، وإذا جمعنا مواضيع الصوم نقول: كتاب الصوم. وإذا قلنا كلمة كتاب ولم نعطها إضافة لتوضيح الموضوع يصبح المعنى ناقصاً، وعلينا أنْ نقول: كتاب اللغة العربية للصف الثالث متوسط مثلاً. أي هذا الكتاب يجمع مواضيع اللغة العربية بعضها إلى بعض وهي صالحة لطلاب الثالث متوسط. وبما أنّه أوحي إلى سيّدنا محمّد صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم مواضيع عدّة في القرآن الكريم، سمّي كتابا، قال سبحانه: “رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ” (سورة البينة 2 – 3). فمن هذه الكتب القيمة: كتاب الخلق، كتاب الساعة، كتاب الصلاة، كتاب الصوم، كتاب الحج، كتاب المعاملات إلخ. فكلّ هذه المواضيع هي كتب. وعلى هذا فالكتاب هو: مجموعة المواضيع التي أوحيت إلى سيّدنا محمّد صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلّم من الله جلّ في علاه في النصّ والمحتوى، والتي تؤلّف في مجموعها كلّ آيات المصحف الشريف من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس.
ويستطرد موقع آل الراشد مبينا: الفرقان: “قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)” (الانعام 151-153) معنى الفرقان: لو تأملنا الآيات (151-152-153) من سورة الأنعام وهي: “قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً.وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون” (الأنعام 151). “ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده.وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون” (الأنعام 152). “وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون” (الأنعام 153). أقول: لو تأملنا هذه الآيات لم يكن من الصعوبة أن نستنتج أن نستنتج أنها هي الوصايا العشر. ولنلاحظ الآية التي تلت هذه الآيات الثلاث وهي الآية 154 الأنعام: “ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء وهدىً ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون”. هنا نلاحظ بشكل جلي كيف أن هذه الوصايا جاءت لموسى مفصولة عن الكتاب، وأن الكتاب بالنسبة لموسى وعيسى هو التشريع فقط، وليس التوراة والإنجيل،وذلك واضح تماماً في قوله تعالى عن عيسى: “ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل” (آل عمران 48). لنقارن هذه الوصايا العشر والتي أتى بعدها “ثم آتينا موسى الكتاب” (الأنعام 154) وقوله تعالى: “وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان” (البقرة 53) بقوله “من قبل هدىً للناس وأنزل الفرقان” (آل عمران 4). أي أنها أنزلت قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وبقوله: “تبارك الذي نزل الفرقان على عبده” (الفرقان 1) أي أنها أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً. نستنتج أن الفرقان هو الوصايا العشر التي جاءت إلى موسى وثبتت إلى عيسى عليهما السلام ثم جاءت إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وهي رأس الأديان السماوية الثلاثة وسنامها، لأنها القاسم المشترك بين الأديان الثلاثة. وفيها التقوى الاجتماعية وهي ما يسمى بالأخلاق، وليست العبادات، وهي تحمل الطابع الإنساني العام. ولقد أنزلت هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، وبما أنها من أم الكتاب فإنها أنزلت ونزلت معاً، ولذا قال “تبارك الذي نزل الفرقان على عبده” (الفرقان 1). ونحن نعلم أن معركة بدر حصلت في رمضان، وأن آيات الفرقان في سورة الأنعام ليست مكيةً، فهنا أخبرنا أن الفرقان أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة بدر “في رمضان” لذا سمي بيوم الفرقان بقوله “وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان” (الأنفال 41). د.محمد شحرور.كتاب (الكتاب والقرآن) والله جلّ وعلا أعلم بالصواب والهادي إلى سبيل الرشاد. اللهمّ صلِّ وسلّم على صاحب الخُلق الكريم، والقدر العظيم، مَنْ أرسلته رحمة للعالمين، سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وألحقنا بخُلقه وأدّبنا بأدبه، وأحيي فينا وفيّ أُمّته هذه المعاني يا أرحم الراحمين.