د. فاضل حسن شريف
عن تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله عز وجل “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (الروم 21) “ذلك الذي يَبْشُرُ” من البشارة مخففاً ومثقلاً به “الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه” على تبليغ الرسالة “أجراً إلا المودة في القربى” استثناء منقطع، أي لكن أسألكم أن تودوا قرابتي التي هي قرابتكم أيضاً فإن له في كل بطن من قريش قرابة، “ومن يقترف” يكتسب “حسنة” طاعة “تزد له فيها حسناً” بتضعيفها، “إن الله غفور” للذنوب “شكور” للقليل فيضاعفه.
وعن کتاب مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ الطبرسي: قوله تعالى “يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق” (الممتحنة 1) نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح فقال لها: أمسلمة جئت؟ قالت: لا، قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي، تعني قتلوا يوم بدر، فاحتجت حاجة شديدة، فحث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها، فأتاها حاطب وأعطاها عشرة دنانير وكتب معها كتابا إلى أهل مكة، نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، اعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريدكم، فخذوا حذركم، ونزل جبرائيل بالخبر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام وعمارا وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وكانوا كلهم فرسانا وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها، فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان فجحدت وحلفت، فهموا بالرجوع، فقال علي عليه السلام: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسل سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلا والله لأضربن عنقك، فأخرجته من عقاص شعرها. وروي: أن حاطبا قال: يا رسول الله، والله ما كفرت منذ أسلمت، ولكني كنت عزيزا في قريش أي: غريبا ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم، فأردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله تعالى ينزل عليهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا، فعذره.”العدو” وقع موقع الجمع”تلقون” حال من الضمير في”لا تتخذوا”، أو صفة ل”أولياء”، أو استئناف. والإلقاء: عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم، والباء في”بالمودة ” إما مزيدة مؤكدة للتعدي مثلها في قوله: “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ” (البقرة 195)، وإما ثابتة على أن مفعول”تلقون” محذوف، معناه: تلقون إليهم أخبار الرسول بسبب المودة التي بينكم وبينهم.
وعن التفسير الوسيط للدكتور محمد سيد طنطاوي: قوله عز شأنه “ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ” ﴿الشورى 23﴾ أى: ذلك الفضل الكبير، هو البشارة العظمى والعطاء الجزيل، الذي يمنحه الله تعالى يوم القيامة لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات. قال الآلوسى قوله: ذلِكَ أى: الفضل الكبير، أو الثواب المفهوم من السياق، هو “الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ” أى: يبشر به فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول، كما هو عادتهم في التدريج في الحذف ولا مانع من حذفهما دفعة. وجوز كون ذلِكَ إشارة إلى التبشير المفهوم من “يبشر” أى: ذلك التبشير يبشره الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات. ثم أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يؤكد لأولئك المشركين من قومه، أنه لا يسألهم أجرا على دعوته، وإنما يسألهم المودة والمعاملة الحسنة لقرابته منهم فقال: “قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى”. والضمير المجرور في عَلَيْهِ يعود إلى التبليغ والتبشير والإنذار الذي يفعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم معهم والْقُرْبى مصدر كالقرابة والخطاب لكفار قريش. وللعلماء في تفسير هذه الآية أقوال: أولها: أن المراد بالقربى: الصلة والقرابة التي تربط بين الرسول وبين كفار قريش. أى: قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء الكافرين إنى لا أسألكم على التبليغ أجرا، لكن أسألكم أن تؤدونى لقرابتي فيكم، فتكفوا عنى أذاكم، وتمنعوا عنى أذى غيركم، وتستجيبوا لدعوتى، فإن صلة القرابة والرحم التي بيني وبينكم توجب عليكم ذلك. فالقربى هنا: بمعنى القرابة وصلة الرحم. وفِي للسببية بمعنى لام التعليل كما جاء في الحديث الشريف: (دخلت امرأة النار في هرة). ولا شك أن منع أذاهم عنه صلّى الله عليه وسلّم بسبب قرابته فيهم ليس أجرا. وثانيها: أن المراد بالقربى هنا: أقاربه وعشيرته وعترته فيكون المعنى لا أسألكم أجرا على دعوتي لكم إلى الخير والحق، ولكن أسألكم أن تحفظوني في قرابتي وأهل بيتي، بأن تحسنوا إليهم ولا تؤذوهم بأى نوع من الأذى. ولا شك أيضا أن إحسانهم إلى أقاربه، ليس أجرا منهم له على ذلك لأن الإحسان إلى الناس، شيء قررته جميع الشرائع وتقتضيه مكارم الأخلاق. وثالثها: أن المراد بالقربى هنا: التقرب إلى الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح. أى: لا أسألكم على التبليغ أجرا، ولكن أسألكم أن تتقربوا إلى الله تعالى بما يرضيه بأن تتركوا الكفر والفسوق والعصيان، وتدخلوا في الإيمان والطاعة لله تعالى. وهذا الذي طلبه منهم، ليس أجرا على التبليغ، لأن التقرب إلى الله بالطاعات فرض عليهم. وقد رجح العلماء القول الأول، واستدلوا على هذا الترجيح بأحاديث منها: ما رواه البخاري عن ابن عباس أنه سئل عن معنى قوله تعالى “إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى”، فقال سعيد بن جبير: (قربى آل محمد) فقال ابن عباس: عجلت. إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة. وقال ابن كثير بعد أن ساق هذا الحديث وغيره، وبهذا الرأى قال مجاهد وعكرمة، وقتادة، والسدى، وأبو مالك، وعبد الرحمن بن زيد، وغيرهم. وقال الإمام ابن جرير بعد أن ساق هذه الأقوال وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، وأشبهها بظاهر التنزيل، قول من قال معناه: لا أسألكم عليه أجرا يا معشر قريش، إلا أن تودوني في قرابتي منكم، وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم. وإنما قلت هذا التأويل أولى بتأويل الآية، لدخول فِي في قوله: “إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى”. ولو كان معنى ذلك على ما قاله من قال إلا أن تودوا قرابتي، أو تتقربوا إلى الله، لم يكن لدخول فِي في الكلام في هذا الموضع وجه معروف ولكان التنزيل إلا مودة القربى، إن عنى به الأمر بمودة قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو إلا المودة بالقربى إن عنى به الأمر بالتودد والتقرب إلى الله تعالى. وفي دخول فِي في الكلام أوضح الدليل على أن معناه إلا مودتي في قرابتي منكم.
وعن تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله عز وجل “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” ﴿الروم 21﴾ قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى من الحيوانات المتزاوجة: زوج ولكل قرينين فيها وفي غيرها: زوج، قال تعالى: “فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى” وقال: “وزوجك الجنة” وزوجة لغة رديئة وجمعها زوجات إلى أن قال وجمع الزوج أزواج. انتهى. فقوله: “أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها” أي خلق لأجلكم أو لينفعكم من جنسكم قرائن وذلك أن كل واحد من الرجل والمرأة مجهز بجهاز التناسل تجهيزا يتم فعله بمقارنة الآخر ويتم بمجموعهما أمر التوالد والتناسل فكل واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر ويحصل من المجموع واحد تام له أن يلد وينسل، ولهذا النقص والافتقار يتحرك الواحد منهما إلى الآخر حتى إذا اتصل به سكن إليه لأن كل ناقص مشتاق إلى كماله وكل مفتقر مائل إلى ما يزيل فقره وهذا هو الشبق المودع في كل من هذين القرينين. وقوله: “وجعل بينكم مودة ورحمة” المودة كأنها الحب الظاهر أثره في مقام العمل فنسبة المودة إلى الحب كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الذي هو نوع تأثر نفساني عن العظمة والكبرياء. والرحمة نوع تأثر نفساني عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال وحاجته إلى رفع نقيصته يدعو الراحم إلى إنجائه من الحرمان ورفع نقصه. ومن أجل موارد المودة والرحمة المجتمع المنزلي فإن الزوجين يتلازمان بالمودة والمحبة وهما معا وخاصة الزوجة يرحمان الصغار من الأولاد لما يريان ضعفهم وعجزهم عن القيام بواجب العمل لرفع الحوائج الحيوية فيقومان بواجب العمل في حفظهم وحراستهم وتغذيتهم وكسوتهم وإيوائهم وتربيتهم ولولا هذه الرحمة لانقطع النسل ولم يعش النوع قط. ونظير هذه المودة والرحمة مشهود في المجتمع الكبير المدني بين أفراد المجتمع فالواحد منهم يأنس بغيره بالمودة ويرحم المساكين والعجزة والضعفاء الذين لا يستطيعون القيام بواجبات الحياة. والمراد بالمودة والرحمة في الآية الأوليان على ما يعطيه مناسبة السياق أو الأخيرتان على ما يعطيه إطلاق الآية. وقوله: “لآيات لقوم يتفكرون” لأنهم إذا تفكروا في الأصول التكوينية التي يبعث الإنسان إلى عقد المجتمع من الذكورة والأنوثة الداعيتين إلى الاجتماع المنزلي والمودة والرحمة الباعثتين على الاجتماع المدني ثم ما يترتب على هذا الاجتماع من بقاء النوع واستكمال الإنسان في حياتيه الدنيا والأخرى عثروا من عجائب الآيات الإلهية في تدبير أمر هذا النوع على ما يبهر به عقولهم وتدهش به أحلامهم.
جاء في كتاب مصباح المنهاج: الإجتهاد و التقليد للسيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم: عن أبي جعفر عليهم السلام قال: (إن من عندنا يزعمون أن قول الله عز وجل: “فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” (النحل 43) إنهم اليهود والنصارى. قال: إذا يدعوكم إلى دينهم. قال: قال بيده إلى صدره: نحن أهل الذكر، ونحن المسؤولون) ونحوه غيره. وقد تضمن بعضها أن النبي صلى الله عليه وآله هو الذكر، والأئمة عليهم السلام أهله، فلابد من رفع اليد عن قرينة السياق بذلك. ودعوى: أن ذلك من التفسير بالباطن الذي لا يمنع من حجية الظهور. مدفوعة: بأن التفسير بالباطن إنما لا ينافي حجية الظهور إذا لم يرد مورد الردع عنه، كما تضمنته النصوص المذكورة مع أن كون التفسير المذكور من التفسير بالباطن محل إشكال، ولعله لا يناسب مساق النصوص المذكورة. ومما ذكرنا يظهر اندفاع ما ذكره بعض مشايخنا من أن ذلك من باب تطبيق الكلي على مصداقه، فلا ينافي عمومه لغيره، وقد ورد عنهم عليهم السلام: (انه لو ماتت الآية بموت من نزلت فيه لمات القرآن، وأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر). وجه الاندفاع: أن ظاهر النصوص المذكورة ليس محض تطبيق أهل الذكر عليهم السلام، ولا نزولها فيهم عليهم السلام، بل تخصيصها بهم عليهم السلام، كما تقدم، فتكون كسائر الآيات المختصة بهم، كآيات المودة، والولاية، والتطهير وغيرها، التي لا يلزم موتها، لأنهم عليهم السلام باقون ما بقي القرآن مرجعا للناس، وحجة عليهم.